من منظور علم الأحياء التطوري؛ يدرس علم النفس التطوري أفكار البشر وعواطفهم وسلوكياتهم. فيفترض علماء النفس التطوريين بأن الميول والدوافع النفسية والجسدية التي ساعدت أسلافنا على مواجهة تحديات البقاء والتكاثر؛ هي انعكاسٌ لسلوكياتهم.

فيرى علم النفس التطوري أن أدمغةُ الحيوانات وأجسادها قد صُمِّمتْ بآلياتٍ تتوافق مع بعضها بعضًا لتتكيَّف مع الظروف البيئية التي كانت شائعةً في زمن أسلافها من الحيوانات.

فمع بُعد الصِلة بين الحوت القاتل والبقرة؛ لا يمكن للحوت أن يتكيّف بدماغ بقرة، فهو بحاجةٍ إلى دماغٍ مُصمّمٍ للتحكم بجسدٍ يقوم بملاحقة فريسته في المحيطات، لا إلى دماغٍ يعرف كيفية التحكم بجسدٍ يلتهم العشب في المروج، لذلك يختلف تكيُّف أحدهما عن الآخر. كذلك الأمر بالنسبة إلى حاجة الخفاش ـ الذي يُعد من الثدييات ـ إلى دماغٍ مُصمم للتحكم بجسدٍ ضئيل قادرٍ على الطيران، لاصطياد الحشرات الصغيرة التي تتحرك بسرعةٍ كبيرةٍ في الظلام.

لذلك يتساءل علماء النفس التطوريين عن ماهية تأثيرات التاريخ التطوري الإنساني – مثل آكلات كِلا اللحوم والأعشاب، ومجموعات الرئيسيات الهرمية المصطفاة على أساس النوع – على تصميم الدماغ البشري.

تاريخ نشأة علم النفس التطوري

لربما يستحق تشارلز داروين لقب أول عالِم نفسٍ تطوري؛ فقد مهّدت ملاحظاته الطريق أمام نشأة علم النفس التطوري الذي سيرى النور بعد نحو أكثر من قرنٍ كامل من زمن تلك الملاحظات.

ففي عام 1873م، افترض داروين بأن الطريقة التي تطورت بها تعبيرات البشر العاطفية؛ هي نفسها التي تطورت بها خصائصهم الجسدية، كخاصية الإبهام الاعتراضي ووضعية الوقوف المستقيمة، كما رأى أن التعبيرات العاطفية أدت أفضل وظيفةٍ لها فكانت أسلوبًا للتواصل بين أفراد النوع الواحد. فمن الممكن أن يشير تعبير الوجه الغاضب إلى رغبة الحيوان في القتال، كما يمكن أن يشير إلى ترك خيار التراجع للطرف الآخر دون تضرُّرِ أيٍّ من الطرفين، لذلك كان لرأي داروين تأثير بالغٌ في بدايات نشوء علم النفس.

وفي عام 1890م، استخدم وليام جيمس مصطلح علم النفس التطوري في كتابه الكلاسيكي (مبادئ علم النفس)، فرأى من منظوره أن كثيرًا من سلوكيات الإنسان تعكِسُ كيفية عمل غرائزه، (كالميول والدوافع الفطرية الموروثة للاستجابة إلى محفزات معينة من أجل التكيّف والبقاء). فبالنسبة لجيمس، فإنّ العطس هو سلوك غريزي لتطهير المهيجات في الأنف من خلال اندفاع الهواء بسرعة كبيرة.

كما تبنّى وليام ماكدوغال في عام 1908م ذلك المنظور في كتابه الكلاسيكي (مقدمة في علم النفس الاجتماعي)، الذي اعتقد فيه بأنّ العديد من السلوكيات الاجتماعية كانت مُحفزةً بالغرائز، ولكنه افترض أن الغرائز هي عمليات معقدة تؤدي فيها محفزات محدَّدة مثل المشاكل الاجتماعية، إلى المرور بحالاتٍ عاطفية معيّنةٍ مثل الغضب، الذي بدوره يزيد من احتمال ظهور سلوكياتٍ أخرى مثل العدائية.

بدأت هيمنة النظرية السلوكية على مجال علم النفس التطوري في عشرينيات القرن الماضي؛ وبذلك فقدت نظرة ماكدوغال للسلوك الاجتماعي شعبيتها. إذ دافع جون واتسن ـ الذي ناقش ماكدوغال علانيةً ـ عن النظرية السلوكية التي تعتبر العقل في الأساس صفحةً بيضاء، وأن خبرات الفرد المكتسبة بعد الولادة هي ما تحدد معظم سلوكياته.

وفي القرن العشرين، ساهمت ملاحظةُ علم الأنثروبولوجيا في دعم نظرية الصفحة البيضاء، فأبلغ علماء الأنثروبولوجيا عن ارتكاب العديد من علماء الاجتماع خطًأ منطقيًا بافتراضهم أن التباين الكبير في المعايير الاجتماعية بين الثقافات لم يعرقل الطبيعة البشرية.

أما خلال النصف الثاني من القرن العشرين؛ فقد ضَعُفت نظرية الصفحة البيضاء أمام ظهور العديد من الاكتشافات المبنية على التجربة والملاحظة. فظهرت أدلةٌ تكشف عن المعايير العامة التي يتبعها كلا الجنسين في اختيار الشريك المناسب، نتيجة بحثٍ أجري على رجال ونساء في مجتمعات مختلفة الثقافات.

فوجد البحث أن الرجال حول العالم ينجذبون إلى النساء اللواتي يكن في الفترة العمرية التي تبلغ فيها الخصوبة ذروتها، في حين تبحث النساء عن الرجال القادرين على الإعالة والذين غالبًا ما يكون السّنُ قد تقدَّم بهم.

كذلك الأمر عند نحو 90% من ذكور الثدييات، إذ يُعد استثمارهم في الذريّة ضئيلًا جدًا، ومع ذلك تبني الثقافات البشرية جميعها علاقات تعاونٍ طويلة الأمد بين الأمهات والآباء؛ من أجل زيادة الاستثمار الأبوي في الذرية. لكن وبالنظر إلى سلوكيات البشر العامة من منظور مُقارِن، يبدو أنّها تعكس مبادئًا أساسية تُطبَّق في جميع أنحاء المملكة الحيوانية، فيكون الاستثمار الأبوي شائعًا لدى الأنواع التي لا يستطيع صغارها الاعتناء بأنفسهم؛ مثل صغار الطيور والبشر، ويقلُّ هذا الاستثمار عند تلك التي يكون بوِسعِ صغارِها الحركة والتنقل ساعة الولادة؛ مثل الماعز وغيرها من الثدييات.

اقرأ أيضًا:

علم النفس البيولوجي أو علم النفس الحيوي

كيف يرى دايفيد باراش -أستاذ علم النفس وعالم الأحياء التطوري- الموت والنهاية؟

ترجمة: جوليت كامله

تدقيق: عامر.د

مراجعة: عون حداد

المصدر