قانون جريشام؛ مبدأ نقدي يتلخص في أن العملات السيئة تطرد العملات الجيدة من السوق، ويُستخدم هذا القانون أساسًا في أسواق العملة. يستند هذا القانون -في الأصل- إلى التركيبة المعدنية للعملات المسكوكة وقيمة المعادن الثمينة المصنوعة منها، ولكن ومنذ التخلي عن معايير العملة المعدنية؛ طُبقت النظرية على الاستقرار النسبي لقيمة العملات المختلفة في الأسواق العالمية.

مفهوم النقود الجيدة مقابل النقود السيئة:

يقوم جوهر قانون جريشام على طرفين متقابلين:

  •  المال الجيد (مال مُقدر بأقل من قيمته، أو قيمته مستقرة أكثر من غيره).
  •  المال السيئ (مال مُبالغ في تقدير قيمته، أو يفقد قيمته بسرعة).

إذ ينص القانون على أن الأموال السيئة ستطرد الأموال الجيدة من التداول.

المال السيئ هو عملة قيمتها الحقيقية مساوية لقيمتها الاسمية أو تقل عنها، وفي المقابل، فإن المال الجيد عبارة عن عملة قيمتها الحقيقية أكبر من قيمتها الاسمية أو احتمالية ذلك كبيرة.

أحد الفرضيات الأساسية لهذا المفهوم هي أن كلتا العملتين وسائل تبادل أو دفع مقبولة عمومًا، وسهلة التسييل، ومتاحة للاستخدام في الوقت نفسه.

منطقيًا، الناس سوف يختارون الأموال السيئة لإنجاز الأعمال التجارية، وسيدخرون المال الجيد؛ لأن قيمته الحقيقية أكثر من قيمته الاسمية غالبًا.

أصل قانون جريشام:

إن سك العملات المعدنية هو أبسط مثال تطبيقي لقانون جريشام، إذ أشار السير توماس جريشام (الذي ينسب إليه اسم القانون) إلى عملات الذهب والفضة في كتاباته ذات الصلة.

عاش جريشام بين عامي (1519-1579)، وعمل مُمولًا يخدم ملكة إنجلترا، وأسس لاحقًا سوق البورصة الملكي في مدينة لندن.

تاريخيًا، قام هنري الثامن بتغيير مكونات عملة الشلن الإنجليزي المعدني؛ مستبدلًا جزءً كبيرًا من الفضة بالمعادن الأساسية الشائعة. أوضحت مشاورات جريشام مع الملكة أن الناس علموا بذلك التغيير وبدؤوا بفرز عملة الشلن الإنجليزي المعدني بناءً على تاريخ إصدارها بهدف جمع العملات المصنَّعة من كمية فضة أكثر، ثم قاموا بصهرها وبيعها بقيمة أكبر؛ إذ إن قيمة معدن الفضة الخام أعلى من قيمته مسكوكًا، وبهذا لاحظ جريشام أن المال السيئ يطرد المال الجيد خارج التداول.

كانت هذه الظاهرة ملحوظة وكُتب عنها سابقًا في اليونان القديمة وأوروبا في القرون الوسطى، ولم تُسمى رسميًا (قانون جريشام) حتى قام خبير الاقتصاد الاسكتلندي هنري دونينغ ماكلويد بنسبها إلى السير جريشام منتصف القرن التاسع عشر.

آلية عمل قانون جريشام:

تاريخيًا، كانت العملات تُسك من الذهب والفضة والمعادن الثمينة الاخرى، وهذا أساسًا ما يمنح العملات قيمتها، وبمرور الوقت، كانت جهات إصدار النقود المعدنية أحيانًا تقلل من كمية المعادن الثمينة المستخدمة في صنع العملات، محاولين تمريرها للتداول بصفتها قطعًا نقدية معدنية كاملة القيمة.

عادةً، تكون العملات الجديدة المصنوعة من كمية معادن ثمينة أقل في مواجهة ثلاث حالات:

  •  انخفاض قيمتها السوقية.
  •  تداولها بسعر أقل.
  •  توقف الناس عن تداولها.

بالتالي سوف تحتفظ العملات القديمة بقيمة أكبر.

ومع مشاركة الحكومة في تقنين سك العملة الرسمية، فإن العملات الجديدة سوف تكتسب —عمومًا- القيمة الاسمية للعملات القديمة نفسها؛ ما يعني أن قيمة العملات الجديدة سوف تكون مبالغًا فيها، والعملات القديمة سوف تنخفض قيمتها قانونيًا.

يهدف المشرعون والحكومات وغيرهم من مصدري العملة من وراء هذا الأمر إلى ما يلي:

  •  جني الأرباح المتحققة من عملية إصدار العملة، بسبب الفرق بين قيمتها الاسمية وتكلفة إصدارها الحقيقية.
  •  سداد ديونهم القديمة (التي اقترضوها بعملات قديمة)، ودفعها بالعملات الجديدة (التي تقل قيمتها الحقيقية عن قيمتها الاسمية).

ولأن قيمة المعدن في العملات القديمة (النقود الجيدة) أعلى من العملات الجديدة (النقود الرديئة)؛ فإن الناس يملكون حافزًا واضحًا لتفضيل العملات القديمة المكونة من كمية معادن ثمينة حقيقية أكبر، وكونهم ملزمين قانونيًا بتداول العملتين باعتبارهما الوحدة النقدية نفسها، فإن المشترين يريدون تمرير أموالهم الأقل قيمة في أقرب وقت ممكن والاحتفاظ بالعملات القديمة؛ التي إما أن تُذاب وتباع لاحقًا معدنًا خامًا، أو ربما يكتفون ببساطة بتخزينها باعتبارها وسيلة ادخار قيمتها أكبر؛ فالأموال السيئة تدور في الاقتصاد، وتخرج الأموال الجيدة من التداول والتي ستصبح مُخزنة جانبًا أو تذاب وتباع بصفتها معدنًا خامًا.

النتيجة النهائية لهذه العملية تُسمى (انخفاض قيمة العملة)، أي انخفاض القوة الشرائية لوحدات العملة، أو ارتفاع عام في الأسعار، ما يعني بعبارة أخرى (التضخم).

ولمحاربة قانون جريشام؛ تلوم الحكومات المضاربين غالبًا، وتلجأ إلى أساليب مثل مراقبة العملة، ومنع إخراج العملات من التداول، أو مصادرة مخزون المعادن الثمينة المملوك من القطاع الخاص بهدف الاستخدام النقدي.

مثال معاصر على هذه العملية:

غيرت حكومة الولايات المتحدة تكوين البنس ليصبح محتواه من الزنك 97.5% -في عام 1982- مقابل تخفيض نسبة النحاس، أدى هذا التغيير إلى ارتفاع القيمة الحقيقية للبنسات المسكوكة قبل عام 1982، مقابل البنسات المسكوكة بعد ذلك العام.

مع بقاء قيمة البنس الاسمية كما هي، ومع مرور الوقت، أدى انخفاض قيمة العملة والتضخم الذي لحقه إلى ارتفاع أسعار رطل النحاس من متوسط 0.6662 دولار في عام 1982 إلى 3.0597 دولار في عام 2006 عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية جديدة على من يقوم بصهر العملات، وهذا يعني أن القيمة الاسمية للبنس فقدت 78% من قوتها الشرائية، وأن الناس كانوا متحمسين لصهر البنسات القديمة التي كانت تساوي نحو خمسة أضعاف قيمة البنسات المسكوكة بعد عام 1982.

وتنص المادة التشريعية للعقوبة سابقة الذكر؛ إن الإدانة بهذه الجريمة يترتب عليها دفع غرامة مالية قدرها 10,000 دولار، و/أو السجن مدة خمس سنوات.

التشريعات القانونية وقانون جريشام وسوق العملات:

يلعب قانون جريشام دورًا كبيرًا في الاقتصاد الحديث، للأسباب نفسها التي لوحظت سابقًا لتقنين العملات الرسمية.

في غياب تطبيق فعال لقوانين العملات الرسمية، يبدأ قانون جريشام العمل عكسيًا؛ إذ سيقوم المال الجيد بإخراج المال السيئ من التداول؛ لأن الناس قد يرفضون استخدام المال الأقل قيمة وسيلةً للدفع، لكن عندما يتم الاعتراف قانونيًا بتوحيد القيمة الاسمية لكافة وحدات العملة، فإن النسخة التقليدية من قانون جريشام تعود مجددًا للاستخدام.

مؤخرًا، أصبحت الارتباطات القانونية بين العملات والمعادن الثمينة أضعف، وربما منقطعة نهائيًا، وباعتماد المال الورقي عملة رسمية (واحتسابه في المخصصات النسبية للاحتياطات المصرفية)؛ فإن الجهات المصدرة للمال قادرة على جني الأرباح المتحققة من طباعة النقود أو إقراض النقود الموجودة منها بدلًا من سك عملات معدنية جديدة، وأدى هذا التدهور المستمر إلى جعل التضخم المتواصل أمرًا طبيعيًا في معظم الأنظمة الاقتصادية غالبًا، وفي الحالات الشديدة قد تؤدي هذه العملية حتى إلى حدوث التضخم المفرط؛ عندها تصبح النقود حرفيًا لا تساوي قيمة الورق الذي تُطبع عليه.

في حالات التضخم الشديد، غالبًا تحل العملات الأجنبية مكان العملات المحلية التي تأثرت كثيرًا بالتضخم؛ وهذا مثال لقانون جريشام العكسي، فإنه فور خسارة العملة لقيمتها بسرعة كبيرة، يتوقف الناس عن استخدامها ويبدؤون بتداول عملات أجنبية أكثر استقرارًا، حتى مع وجود عقوبات قانونية صارمة على هذه العملية.

مثلًا، في يوليو 2008، في أثناء التضخم المفرط في زيمبابوي، وصل معدل التضخم السنوي إلى 250 مليون في المئة، ورغم فرض قانون للاعتراف بدولار زيمبابوي عملة رسمية، فإن الكثير من الناس في البلاد بدؤوا بالتخلي عن استخدامه في المعاملات؛ ما أجبر الحكومة أخيرًا على الرضوخ للأمر الواقع والاعتراف لاحقًا بالدولار الأمريكي عملة رسمية للاقتصاد المحلي.

وفي ظل فوضى الأزمات الاقتصادية ووجود عملة لا قيمة لها تقريبًا؛ عجزت الحكومة عن فرض استخدام عملتها الرسمية بفعالية، ولكن، بمرور الوقت، قام المال الجيد (الأكثر استقرارًا) أولًا بإخراج المال السيء (مفرط التضخم) من التداول في السوق السوداء، ثم أخرجه أخيرًا من التداول العام بدعم حكومي رسمي للعملية.

ونظرًا إلى ما سبق، يمكن استخدام قانون جريشام في أسواق العملات العالمية والتجارة الدولية، لأن قوانين العملة الرسمية تنطبق بطبيعتها على العملات المحلية فقط.

إن العملات القوية في الأسواق العالمية مثل الدولار الأمريكي أو اليورو ذات القيمة المستقرة نسبيًا تاريخيًا، تُعتبر وسائل دفع مقبولة دوليًا وأسس تسعير للسلع المتداولة عالميًا، أما العملات الأضعف والأقل استقرارًا المصدرة من دول نامية تُتداول بكميات صغيرة جدًا أو لا تتداول مطلقًا خارج حدود الدولة المصدرة أو المناطق التابعة لسلطتها التي تفرض فيها تداول عملتها الرسمية، ومع تنافس العملات دوليًا وعدم وجود عملة رسمية عالمية موحدة؛ فإن الأموال الجيدة متداولة والأموال السيئة غير قابلة للتداول في السوق.

اقرأ أيضًا:

ما القيمة التي تحملها العملات الورقية؟

ما هو التدخل بالعملات الأجنبية ؟

ترجمة: عمرو سيف

تدقيق: علي الطريفي

مراجعة: حسين جرود

المصدر