كان الوقت ما يزال مبكرًا في صباح 6 أكتوبر 1789 م حين هاجم مئات المواطنين الباريسيين الجياع رجالًا ونساءً، ورجالًا متنكرين في ثياب النساء، هاجموا بشجاعة قصر فرساي، مقر الحكومة الفرنسية الأسطوري بأبهته الباذخة، فاخترقوا القاعات المذهبة يضربون حراس القصر ويقطعون رؤوسهم، حتى إنهم حملوا أحد الرؤوس المخيفة على رمح.

توجهت الجماهير الفقيرة نحو الجناح الخاص بالملكة ماري أنطوانيت، مخترقين الممرات الرخامية ومنبهرين بالأعمال الفنية التي نُفِّذت من أجل أسرة البوربون الملكية، في حين هرع حارس جريح إلى الملك لينذره بالكارثة الوشيكة. وفرّت الملكة إلى جناح الملك لويس السادس عشر دون أن تكمل ارتداء ملابسها.

ذهب ماركيز دي لافييت إلى الحشود المقتحمة بغرض تهدئتها، وتقرر لاحقًا في ذلك اليوم سفر العائلة المالكة إلى باريس لتستقر في قصر تويليري.

قصر فرساي وبداية التدهور على يد لويس الرابع عشر

تدفق المواطنون الفرنسيون إلى قصر فرساي الخالي، إذ أصبح بمقدورهم -لأول مرة- أن يروا بأعينهم الرفاهية المترفة التي تمتع بها ساكنو القصر، وتجولوا في قاعة المرايا يسمعون صدى خطواتهم بعد أن هجرتها خطوات الملك الثقيلة وطقطقة زوجته الرقيقة.

لقد دار الزمان وتبدل الحال، كان الفرنسيون -لعقود كثيرة سابقة- يفخرون بعظمة فرساي، ويشهد على ذلك ما كتبه لويس سيباستيان ميرسير: «خاطب بورجوازي باريسي رجلًا إنكليزيًّا قائلًا بجدية: من هو ملككم؟ إنه يسكن كوخًا متواضعًا جديرًا بالرثاء. انظروا إلى ملكنا، إنه يسكن فرساي!».

عُد فرساي رمزًا جليلًا للملكية المطلقة وللعائلة المالكة الفرنسية التي نصّبتها السماء، وللدولة بأسرها. مع ذلك ظهرت أصوات قبل الثورة الفرنسية تحذر من أن طغيان القصر وتجاوزاته أمران سيئان للعلاقات العامة، واعتقد ماركيز أرجنسون أن قصر فرساي يشير إلى وصول «تبذير الشرق الملكي» إلى فرنسا، وقد كتب ذلك قبل جيل من قيام الثورة.

لُقب لويس الرابع عشر (1638-1715) بالملك الشمس، وقيل عنه إنه الرجل الأكثر تكبرًا على الإطلاق. فليس مفاجئًا إذن أن يكون هو من حوّل كوخًا ملكيًّا صغيرًا يُستعمل للصيد إلى أكثر قصور أوروبا بذخًا، وقد اختار أفضل المعماريين والمصممين والحرفيين الأوربيين ليقيموا له قصر فرساي، وأنفق قدرًا كبيرًا من الضرائب على إنشاء القصر بغرفه البالغ عددها 2000 غرفة، وحدائقه الغنّاء ونوافيره وحديقة حيوانه الخاصة ومصاعده العصرية وحماماته رومانية الطراز ليمرح فيها مع خليلته.

إفلاس الخزينة بسبب التسلية الملكية

قصر فرساي وعلاقته بالثورة الفرنسية - الملكة ماري أنطوانيت - الملك لويس السادس عشر - الثورة الفرنسية - اقتحام قصر الملك الفرنسي

كان كل ما في قصر فرساي هو الأرقى منذ البداية، وكانت شروط اللباس اللازم في البلاط تفصيليةً، وكادت تقود كثيرًا من العائلات النبيلة إلى الإفلاس. كان مطلوبًا من النبلاء -إضافةً إلى الملابس- شراء كميات كبيرة من البضائع الفرنسية دعمًا لصناعات مختلفة.

وكانت تواريخ وسائل التسلية تملأ الروزنامة، وقد تنوعت بين الحفلات الموسيقية والولائم المزدحمة بأصناف الطعام والحفلات الراقصة والاستعراضات، وفضلت العائلة المالكة المسرحيات والمسابقات، فأُنفقت الأموال الطائلة على كل شيء من الأزياء حتى التجهيزات، وقد كُتب في بذخ الحفلات الوصف التالي: «من كان يعتقد أن ديكور المسرح، بكل هذا النظام وحبكة الصنعة والابتكار، قد يُخلق في أقل من أسبوعين ليخدم غرضه الذي قد لا يتجاوز اليوم الواحد؟».

لم يقتصر اللهو خلال سنوات حكم الملوك الثلاثة في فرساي على ما سبق ذكره، إذ كان لعب القمار تسليةً مفضلةً أيضًا، وكانت خسائر بعض اللاعبين على طاولة القمار هائلةً، وعدّ بعض النبلاء أرباحهم بمئات الآلاف، فقد خسرت حفيدة الملك دوقة بورغندي إحدى المرات ما يعادل 600 ألف فرنك دفعها جدها المولع بها.

كانت الثروات تُصنع وتضيع كل ليلة في فرساي في حين ينهش الفقر معظم فرنسا، وانتشرت الرشاوي والاختلاسات وأنواع الكسب غير المشروع، ويخص البعض بالذكر الاصطبلات الملكية نموذجًا على الفساد المستشري، ففي سنة 1775 اتُهِم أحد النبلاء باستغلال 120 حصانًا من اصطبلات الملك لمنفعته الشخصية.

بعد أن تولى لويس الخامس عشر -حفيد الملك الشمس- الحكم سنة 1715، كانت المشاعر العامة قد بدأت تنقلب على التاج وفرساي، وحين تُوِّج لويس السادس عشر سنة 1774 كانت سمعة فرساي قد بلغت مبلغًا كبيرًا من السوء، وأوصلتها إلى الحضيض أخبار عشيقات الملك وعلاقاته الغرامية.

الثورة الفرنسية تستهدف فرساي

انهار الاقتصاد في ثمانينيات القرن الثامن عشر، وصار قصر فرساي رمزًا لعدم اكتراث الملك برعيته، فتكرر حدوث الاحتجاجات وانتشرت المنشورات في أنحاء البلاد تُصوِّر فساد العائلة المالكة في فرساي ولعب القمار والتهتك الجنسي والإسراف. وقيل إن بطانة الملك استمتعت سنة 1786 بحفلة راقصة فخمة في فرساي وُصِفت بأنها كانت مرحةً إلى أقصى الحدود. في الوقت الذي تجمع خارج القصر 2000 عامل مُحتج يتضور جوعًا.

نظر العديد من الفرنسيين إلى الملكة ماري أنطوانيت -نمساوية الأصل- بوصفها رمزًا لكل ما هو خاطئ ومكروه في فرساي، إذ تجاوزت ميزانية ملابسها السنوية ما يعادل اليوم 3.6 مليون دولار أو ضعف ذلك في بعض السنين، مع أن الملك كان يُعوض الفارق في الميزانية أحيانًا، وكذلك كانت الملكة تبادر في بعض الأحيان للمساهمة في اقتصاد البلاد، وقد رفضت ذات مرة طاقم مجوهرات حتى تستفيد منه البحرية المُحتاجة إلى بارجة حربية جديدة.

استمرت ماري أنطوانيت بخلق الدعاية السيئة لنفسها، وساهم في ذلك منتجعها الريفي الصغير والقرية الزائفة التي بنتها لنفسها بغرض الاستمتاع، وقد وُصِفت القرية الصغيرة بأنها: «أقيمت على طرف البحيرة، وتحتوي نموذج طاحونة ومكانًا لصنع منتجات الحليب مزودًا بطاولات من الرخام ودوارق زبدة مصنوعة من الخزف النادر».

كثر الحديث عن إسراف فرساي وتماديه، لذلك ليس غريبًا أن يُهاجَم القصر حال قيام الثورة، إذ أصبح رمزًا ومقرًا لأعمال النظام السياسي والاجتماعي الفاسد الرجعي في نظر الشعب.

اقرأ أيضًا:

لويس السادس عشر: آخر ملوك فرنسا

ماري أنطوانيت: من الولادة حتى الإعدام، مرورًا بالملكية

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: رزوق النجار

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر