كشف اللغز: لماذا نمر بعصر جليدي كل مئة ألف عام؟


قد نعرف أخيرًا السبب الغريب وراء مواجهة الأرض لعصر جليدي كل مئة ألف عام… حتى الآن، على الأقل.
تمر الأرض الآن بحالة منفردة جدًا من تغيّر المناخ، ولكن طوالَ المليون سنة الماضية، تنقّل كوكبنا من عصر جليدي إلى آخر كل 100,000 عام، بشكل يشبه دقة عمل الساعة تقريبًا، والمشكلة هي عدم قدرة الباحثين على معرفة السبب وراء ذلك، ففي الحقيقة، احتاروا كثيرًا بأمر هذه الظاهرة حتى أطلقوا عليها اسم (مشكلة الـ 100,000 عام)، ولكن قد تحمل دراسة حديثة الحل أخيرًا، إذ تقترح إمكانية امتصاص المحيطات بشكل منتظم للمزيد من غاز ثاني أوكسيد الكربون من الجو كل مئة ألف عام، مما يسمح للكوكب أن يكون باردًا بشكل كافٍ ليحرّض حدوث عصرٍ جليدي.

وتنبع مشكلة الـ 100,000 عام من حقيقة بدء مرور الأرض بعصور جليدية -صفائح جليد ضخمة غطت أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا- كل 100,000 عام، منذ حوال مليون سنة مضت، فقبل المرحلة المعروفة بالتحول منتصف البليستوسيني (البليستوسين- Pleistocene هو العصر الجيولوجي الحديث الأقرب)، كانت عصور الجليد في كوكبنا تحدث بفواصل 40,000 سنة من الزمن، الأمر الذي كان أكثر منطقية بالنسبة للعلماء، لأن الميلان الزاويّ لكوكب الأرض يتمايل أيضًا بدورة مدتها 40 ألف عام، مما يعني أن الكوكب يمر بأشهر صيفية أكثر برودة من المعتاد كل 40 ألف عام بسبب الطريقة التي يميل بها تجاه الشمس، وبالتالي جعل اختلاف ميلان الأرض حدوثَ العصور الجليدية بهذه الفواصل الزمنية يبدو منطقيًا، ولكن لحد الآن لم يستطع أحدٌ تفسير التحول الذي حدث في منتصف العصر البليستوسيني، والذي عدّل هذه الدورة الطبيعية ووضع أرضنا في برنامج مئة ألف عام بدلًا ممّا سبق.

أما الآن فتعثر الباحثون أمام دورة كوكبية جديدة، ويقترحون أن هذه النقلة قد تكون نتيجة امتصاص المحيطات للمزيد من غاز ثاني أكسيد الكربون CO2 من الجو بانتظام، <<يمكننا التفكير بأن المحيطات تستنشق غاز CO2 وتزفره، فعندما تكون صفائح الجليد أكبر، تكون المحيطات قد استنشقت غاز CO2 من الجو، جاعلةً الكوكب أبرد،>> يشرح الباحث الرائد كاري ليار (Carrie Lear) من جامعة كارديف في ويلز، <<عندما تكون صفائح الجليد صغيرة، تكون المحيطات قد زفرت غاز ثاني أكسيد الكربون CO2، مما يعني وجود المزيد منه في الجو، وهو ما يجعل الأرض أكثر حرارة>>.

لقد عُرف منذ زمن بعيد أن محيطاتنا تستطيع اختزان الكربون، جزئيًا من خلال عمل الطحالب البحرية التي تحتاج أن تمتص الكربون من أجل التركيب الضوئي، ولمعرفة ما الذي كان يحدث، تفحص الفريقُ البقايا المستحاثة للطحالب البحرية على مدى آلاف السنين الماضية للتأكد من ثبات المعدل الذي امتصت به غاز ثاني أكسيد الكربون CO2، ووجدوا أن هناك فترات أظهرت فيها الطحالب مؤشرات امتصاص زائد لغاز ثاني أكسيد الكربون CO2 بشكل ملحوظ، أجل، وقد حدثت هذه الفترات قُرابة كل 100 ألف عام، أي بما يتوافق مع توقيت العصور الجليدية للأرض، فاقترح الفريق أن الكمية الزائدة لغاز ثاني أكسيد الكرون CO2 التي امتصتها الطحالب من الجو قد خفضت الحرارة لفترة طويلة بشكل كافٍ كي تتشكل صفائح جليد ضخمة في نصف الكرة الشمالي.

بعد فترة، كان يمكن لثاني أكسيد الكربون CO2 أن يتحرر طبيعيًا إلى السطح خلال عملية تسمى (الموجات المتقلبة- Upwelling)، ولكن حتى ذلك الحين، سيكون العصر الجليدي قد سجل أعلى معدلاته، وثاني أكسيد الكربون CO2 قد حُبس في المحيطات تحت طبقة من الجليد الممتد على غالبية الكوكب، مما يجعل الأرض باردةً لفترة أطول، <<إذا فكرنا باستنشاق المحيطات لـثاني أكيسد الكربون CO2 وزفيره، فإن وجود كميات ضخمة من الجليد ستكون مثل الحلوى شديدة القساوة،>> يقول ليار (Lear)، <<هي مثل غطاء على سطح المحيط>>.

ويتطلب الأمر المزيد من الأبحاث لمعرفة ما الذي يدفع الطحالب البحرية لامتصاص المزيد من ثاني أكسيد الكربون CO2 فجأة كل مئة ألف عام، كما يحتاج دراسةً إضافية تؤكد أن هذا الفعل كافٍ لافتعال عصر جليدي، ولكن الدراسة الحالية تؤمن تبصّرًا مهمًا في الدورات التي تؤثر على كوكبنا، وستستمر بالتأثير عليه في المستقبل.

تمر الأرض حاليًا بموجة حارة- warm spell بين العصور الجليدية، مع انتهاء العصر الجليدي الفائت منذ 11,000 سنة مضت، لكن هناك أدلة تشير بأن تغير المناخ المفتعل من قبل البشر قد قام مسبقًا بكبح العصر الجليدي القادم، ولا يتوقع الخبراء إمكانية حدوث عصر جليدي قبل مئة ألف عام آخر على الأقل، أي أنه سيتأخر قليلًا عن الموعد.

ونتأمل أن تستطيع البشرية حتى ذلك الحين أن تجد طريقتها الخاصة لكبح كمية ثاني أكسيد الكربون CO2 التي نضخها في الجو، أو تخفيضها على الأقل، حتى تحصل دورات الأرض الطبيعية على فرصة لاستعادة بعض التوازن للنظام المناخي الحالي.


ترجمة: سارة وقاف.
تدقيق: جمان الرشدان
المصدر
البحث المنشور في مجلة geology