الأناركية (اللاسلطوية) هي الحالة التي تكون فيها الحكومة إما غير موجودة، وإما ليس لها سلطة أو سيطرة على الشعب. تقترح الفلسفة الأناركية أن المجتمعات لا يمكنها أن تحيا وتزدهر إلا عندما تعيش في ظل بدائل الحكومات التقليدية، ومع أنه يساء استخدامها في كثير من الأحيان لوصف حالة من انعدام القانون والفوضى والانهيار الاجتماعي، فإن الأناركية هي مرادفة لمفاهيم مثل الحرية والليبرالية والاستقلال والحكم الذاتي. نظريًا، تضع الأناركية صورةً لمجتمع أكثر سلمًا ولطفًا وإنصافًا.

تعريف الأناركية:

يأتي مصطلح الأناركيّة من الكلمة اليونانية القديمة أناركوس، والتي تعني «دون حكام». وتشير اليوم في العلوم السياسية ومجال العلاقات الدولية إلى اختزال القوانين الحكومية التقليدية أو غيابها كليًا.

يمكن أن تشير الأناركية أيضًا إلى أي بلد أو مجتمع لا يخضع لأي نظام رقابة حكومية سواء على نحو مؤقت أو دائم. مثلًا، عندما سيطر المتظاهرون من حركة Black Lives Matter (حياة السود مهمة) على مناطق بورتلاند وأوريغون وسياتل في واشنطن في صيف عام 2020، أعلن الرئيس دونالد ترامب أن الولايات في حالة من الأناركية وأرسل قوات تنفيذ القانون الفيدرالي لاستعادتها. صنف مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) أعمال العنف الساعية للأناركية على أنها شكل من أشكال الإرهاب المحلي.

في حين أن الأناركية في واقع الأمر تصف مجتمعًا طوباويًا مسالمًا يجمع بين أفضل جوانب الشيوعية والليبرالية الكلاسيكية لإنتاج ما أطلق عليه عالم الاجتماع والمؤلف سيندي ميلشتاين «المجتمع الحر للأفراد الأحرار». هذا المجتمع الذي يوطد الحرية الفردية والمساواة.

الأناركية هي فلسفة سياسية وحركة تشكك في السلطة وتعارض حكم السلطات والأنظمة البيروقراطية، وغالبًا ما تستخدم سلبًا لوصف التطرف العنيف، وتوصف الأناركية بأنها معتقد راديكالي يساري يدعو إلى إلغاء الحكومة وجميع الأنظمة الحكومية التي تفرض القوانين بطرائق غير متكافئة أو غير عادلة.

تسعى الأناركيّة إلى استبدال هياكل السلطة التي تعد غير عادلة للفئات المستضعفة (مثل الرأسمالية) بأنظمة غير بيروقراطية يتخذ فيها الناس القرارات. تشمل التكتيكات الرئيسية للأناركية الاحتجاج السياسي السلمي والمساعدة المتبادلة، أي المشاركة الطوعية للموارد الاقتصادية والإنسانية بين جميع أعضاء المجتمع.

حركة احتلوا:

بوصفها أحد أشهر الأمثلة على التنظيم الأناركي الحديث، تعارض حركة احتلوا عدم المساواة الاقتصادية الناتجة عما يعده أعضاء هذه الحركة حالات من الديمقراطية الزائفة. تسعى حركة احتلوا المستوحاة جزئيًا من انتفاضات الربيع العربي في عام 2011 لتعزيز المساواة الاقتصادية وإنشاء أشكال جديدة أكثر تقدمًا للديمقراطية.

تستخدم الحركة شعار نحن 99%، بناءً على الادعاء القائل أن أصحاب الثروات في أمريكا (١% من السكان) يسيطرون على حصة مجحفة من ثروة الأمة مقارنة بالآخرين (99% من السكان).

أسس الأناركية:

في عام 1904، حدد الملحن والشاعر الأناركي الإيطالي بيترو جوري أسس الأناركية لخلق مجتمع جديد متحرر كليًا من طريق تطبيق المبادئ الأخلاقية للمساعدة المتبادلة والتضامن الاجتماعي.

• المساعدة المتبادلة:

تشير المساعدة المتبادلة إلى الاتجاه التطوري للبشر للعمل معًا (بصورة مجتمع) للتغلب على المشكلات المشتركة، والدفاع ضد الأعداء المشتركين، وخلق مجتمع تقسم فيه المنافع تقسيمًا متساويًا بين جميع الأشخاص الذين يساهمون في العمل.

• التكافل:

يرتبط التكافل الاجتماعي ارتباطًا وثيقًا بالمساعدة المتبادلة، ويقوم التكافل على فكرة أن التطور الطبيعي قد ترك للبشر رغبة طبيعية في تكوين مجتمعات تقوم على منفعة متبادلة والمشاركة فيها وأن يكون لديهم اهتمام غير أناني ولا يتزعزع برفاهية بعضهم.

رمز الأناركية:

الرمز الحديث الأكثر شهرة للأناركية هو دائرة بداخلها حرف A، أي الحرف الكبير A يتوضع داخل الحرف الكبير O. يرمز الحرف A إلى الحرف الأول من كلمة Anarchy، ويرمز الحرف O إلى كلمة Order. عند وضعهما معًا تصبح «المجتمع يبحث عن النظام في الأناركية»، وهي عبارة مأخوذة من كتاب بيير جوزيف برودون «ما هي الملكية؟» عام 1840.

لمحة تاريخية:

بينما يقترح علماء الأنثروبولوجيا أن العديد من مجتمعات ما قبل التاريخ كانت أناركية، فإن الأمثلة الأولى للفكر الأناركي الفعلي ظهرت نحو عام 800 قبل الميلاد، عندما بدأ الفلاسفة اليونانيون القدماء والصينيون بالتشكيك في أحقية السلطة الحكومية في الحد من الحرية الفردية. خلال العصور الوسطى (500-1500 م) وعصر التنوير (1700-1790 م)، نشأ الصراع بين السلطات الدينية وتيار العقلانية العلمية الناشئ مما مهد الطريق لتطور الأناركية الحديثة.

شكلت الثورة الفرنسية (1789-1802) نقطة تحول في تاريخ الأناركية، فالانتفاضات الثورية التي قامت بها جماهير المواطنين وما حوته من أحداث (مثل اقتحام الباستيل والمسيرة النسائية في فرساي)، ستشكل تأثيرًا على تفكير الأناركيين في المستقبل.

ونتيجة نمو الماركسية، ركزت الأناركية الحديثة خلال القرن التاسع عشر على نضال الحركة العمالية من أجل حقوق العمال. ساعدت الثورة الصناعية والاعتراضات على الرأسمالية والهجرة الجماعية على انتشار الأناركية حول العالم. خلال هذه الفترة ظهرت الفروع الرئيسية للأناركية وهي الأناركية الشيوعية والأناركية الاشتراكية. وفي حين أدت الأناركية دورًا رئيسيًا في الثورة الروسية عام 1917، فقد تعرض الأناركيون للاضطهاد بعد أن بدأت الحكومة البلشفية بقيادة فلاديمير لينين في ممارسة سلطتها. فسجن ما يصل إلى 500.000 من الأناركيين السابقين تحت مسمى «الإرهاب الأحمر»، إذ وصفوا بأنهم أعداء للدولة، وعذِّبوا وأعدِموا.

أسس الأناركيون دولتهم كاتالونيا خلال الحرب الأهلية الإسبانية من (1936-1939)، وتميزت بالنقابات العمالية القوية والزراعة الجماعية الناجحة، ولكن الأناركيون الكاتالونيون وحلفاؤهم طُردوا في أثناء صعود الفاشية في إسبانيا تحت حكم الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو.

في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تجلت أناركية العصر الحديث في نشطاء في حركة اليسار الجديد الذين قاموا بحملات من أجل إصلاحات اجتماعية، مثل الحقوق المدنية وزواج المثليين والنسوية والحقوق الإنجابية للمرأة.

المدارس الفكرية:

إن مدرستي الفكر الرئيسيتين في الأناركية هما الأناركية الفردية والأناركية الاجتماعية.

• الأناركية الفردانية:

ينظر الأناركيون الفردانيون إلى المجتمع على أنه مجموعة من الأفراد المستقلين ذوي السلطة على أنفسهم، وعلى ذلك يقدرون الحرية الفردية فوق كل الاعتبارات الأخرى.

لكسب حريتهم وحمايتها، يجادل الأناركيون الفرديون: لأن الحكومة التقليدية لديها القدرة على فرض الضرائب والقوانين المقيدة لحرية الأفراد، فإنه يجب إلغاءها.

إنهم يعتقدون أن الناس سيتصرفون بنحو عقلاني وطبيعي، وسيعملون على تحسين أنفسهم من طريق تحقيق أهدافهم الشخصية بعيدًا عن القيود الحكومية. وإن النتيجة حسب ما يعتقدون، ستكون مجتمعًا مستقرًا ومسالمًا.

• الأناركية الاجتماعية:

إن الأناركية الاجتماعية تعُدّ المساعدة المتبادلة ودعم المجتمع والمساواة الاجتماعية ضرورة لتأمين الحرية الفردية.

على النقيض من الأناركيين الفرديين، يتبنى الأناركيون الاجتماعيون الحرية الإيجابية (القدرة على السيطرة على حياة الفرد)، عوضًا عن الحرية السلبية، التي هي الغياب التام للعقبات أو الحواجز أو القيود. وفقًا لمفهوم الحرية الإيجابية، لا تقتصر الحرية على غياب التدخل الحكومي فحسب، بل هي قدرة الأفراد على تحقيق إمكاناتهم الكاملة عند تقاسم السلطة السياسية والموارد الاقتصادية تقاسمًا متساويًا بين جميع أفراد المجتمع.

عندما يتحدث معظم الناس بنحو سلبي عن الأناركية فإنهم يفكرون في الأناركية الاجتماعية. في حين يقول الأناركيون الاجتماعيون إنه عوضًا عن العنف والفوضى والاضطراب الاجتماعي فإنهم يسعون إلى ساحة لعب متكافئة للسلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فمن الناحية العملية، تسعى الأناركية الاجتماعية إلى تمكين الضعفاء، وتضمين المستبعدين، وتقاسم السلطة والحكم.

أنواع الأناركية:

مثل معظم الأيديولوجيات السياسية، أثبتت الأناركية أنها بعيدة كل البعد عن كونها مفهومًا ثابتًا. عوضًا عن ذلك، تغيرت واتخذت أشكالًا مختلفة، إذ فسرها الناس وطبقوها بطرائق مختلفة وفقًا لمعتقداتهم واحتياجاتهم.

• الأناركية الرأسمالية:

بينما تقع معظم أنواع الأناركية في أقصى اليسار من الطيف السياسي، هنالك تنوعات مفاجئة. عوضًا عن الحرية الفردية غير المقيدة، تتبنى الأناركية الرأسمالية مبدأ رأسمالية السوق الحرة مفتاحًا للمجتمع الحر.

على النقيض من معظم الأناركيين، يؤمن الأناركيون الرأسماليون بالفرد وليس بالملكية الجماعية للممتلكات ووسائل الإنتاج والثروة. وهم يؤكدون أن المؤسسات الخاصة، إذا كانت خالية من السيطرة الحكومية، يمكنها تزويد الناس بجميع الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم وبناء الطرق والحماية. مثلا، يجادل الأناركيون الرأسماليون الأمريكيين بأن نظام السجون المملوك للقطاع الخاص سيخدم الأمة بنحو أفضل من نظيره العام.

• الأناركية الشيوعية:

تؤكد الأناركية الشيوعية على المساواة الاجتماعية والقضاء على التمييز الطبقي الناجم عن التوزيع غير المتكافئ للثروة. يدعو الأناركيون الشيوعيون إلى استبدال الرأسمالية بنظام اقتصادي قائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج وتوزيع الثروة من طريق الجمعيات الطوعية مثل الاتحادات والنقابات العمالية، فالحكومة والملكية الخاصة لا وجود لها في ظل الشيوعية الأناركية. عوضًا عن ذلك، يتمتع الأفراد والجماعات بالاستقلال الذاتي ولديهم الحرية في تلبية احتياجاتهم من طريق مساهماتهم الطوعية في الإنتاجية الاقتصادية. بما أن الناس أحرار في الانخراط في أي أنشطة تلبي احتياجاتهم على أفضل وجه، فإن العمل التقليدي القائم على الأجر غير ضروري في الشيوعية الأناركية.

• الأناركية الاشتراكية:

الأناركية الاشتراكية مصطلح واسع ملتبس يشير إلى مدرستين رئيسيتين للنظرية الأناركية وهما الأناركية الاجتماعية والأناركية الفردانية. الأول يجمع بين المبادئ الأساسية للاشتراكية والأناركية لخلق مجتمع تجميعي وهو مجتمع يضع احتياجات المجموعة وأهدافها فوق احتياجات الفرد وأهدافه. والأخير يؤكد الحرية الفردية في المجتمع الذي يضع احتياجات كل فرد فوق احتياجات المجموعة.

• الأناركية الخضراء:

تركز الأناركية الخضراء على القضايا البيئية، ويوسع الأناركيون الخضر تركيز الأناركية التقليدي على التفاعلات بين البشر لتشمل التفاعلات بين البشر وغير البشر. وبهذه الطريقة فإنهم لا يدعمون تحرير البشر فحسب بل يدعمون أيضًا درجات مختلفة من تحرير غير البشر. مثلًا، يجادل بعض نشطاء حقوق الحيوان بأن بعض الأنواع غير البشرية ذات العقول الواعية والتفكير والوعي يجب منحها حقوق البشر الأساسية نفسها.

• أناركية التشفير:

يدعم أناركيو التشفير استخدام العملات الرقمية مثل البيتكوين للالتفاف على السيطرة والمراقبة وفرض الضرائب من الحكومات والمؤسسات المالية، وعلى ذلك شل سلطتهم بصورة دائمة.

نقد الأناركية:

تشير حقيقة أنه لا توجد حاليًا دول متقدمة في العالم تعمل بوصفها أناركيات خالصة إلى وجود مشكلات حرجة في النظرية الأناركية. تتضمن بعض الانتقادات الأساسية للأناركية ما يلي:

• إنها غير ممكنة:

إمكانية وجود مجتمع أناركي بحت أمر مشكوك فيه. في حين أن الممارسات الأناركية يمكن أن تعمل في المدن الصغيرة أو المناطق أو القرى (مثل مستوطنة ماريناليدا الريفية الإسبانية)، فمن غير المرجح أن التنظيم الأناركي يمكن أن يصمد ويحافظ على نفسه على مستوى الدولة أو العالم. مثلًا، أظهر التاريخ أن الديمقراطية المباشرة، وهي عنصر أساسي من عناصر الأناركية، لا يمكن إدارتها بين مجموعات سكانية كبيرة ومتنوعة سياسيًا وثقافيًا مثل تلك الموجودة في معظم البلدان.

• إنها مدمرة:

يؤكد النقاد أن الأناركيّة هي مجرد اسم آخر أقل رعبًا للفوضى والاضطراب المدني الناتج عن رفض النظام المهيكل. يزعمون أن الأناركيين عنيفون وعدميون ومكرسون لتدمير كل شيء، حتى الأخلاق نفسها. ومن المؤكد أن التاريخ مليء بحالات العنف التي تحصل تكتيكيًا أو نتيجة الأناركية.

• إنها غير مستقرة:

يقول النقاد إن الأناركية بطبيعتها غير مستقرة وستتطور دائمًا إلى منظومة حكومية مهيكلة. عند تطوير نظرية العقد الاجتماعي، أكد توماس هوبز وفلاسفة سياسيون آخرون أن الحكومة تظهر طبيعيًا بوصفها رد فعل تصحيحي على الفوضى لتحافظ على النظام وتحمي مصالح الناس. ترى نظرية أخرى أنه يمكن أن يظهر ما يسمى «دولة الحارس الليلي»، بوصفها رد فعل على الفوضى ليحمي فيها الناس ممتلكاتهم بوساطة شراء خدمات حماية خاصة، التي تتطور في آخر المطاف إلى شيء يشبه الدولة.

• إنه يوتوبيّة:

يقترح النقاد كذلك أن الممارسات في الفكر الأناركي غير مجدية لأنه ببساطة من المستحيل على الأفراد أو المجموعات الصغيرة -بصرف النظر عن مدى تفانيها- أن تدمر أو تفكك أي هيكل حكومي راسخ. ويجادلون أنه سيكون من الأفضل التركيز على عدم المساواة والتهديدات للحرية التي تشكلها الحكومة القائمة والعمل من أجل الإصلاحات من طريق العمليات السياسية القائمة.

اقرأ أيضًا:

ما الفرق بين الشيوعية والاشتراكية؟

يوتوبيا: المدينة الفاضلة بين الأدب والواقع

ترجمة: وراد الحماده

تدقيق: نور عباس

مراجعة: حسين جرود

المصدر