صغر حجم الحواسيب وقلت كلفتها كثيرًا مع الوقت، وأصبحت الآن متوفرة بسهولة للحوسبة الشخصية. ويعود ذلك إلى انخفاض حجم الترانزستورات، والدارات المتكاملة السيليكونية ذات الكفاءة العالية، وتأثير قانون مور Moore’s Law.

لعبت الحواسيب دورًا مهمًا في المجتمع الحديث ودورًا محوريًا في تطور البشرية خلال العقود الماضية؛ فقد وصلت الحواسيب إلى القمر وربما تصبح متنقلة بين الكواكب في المستقبل القريب بفضل قدرتنا على جعل الإجراءات المتكررة آلية أثناء تخزين ومعالجة البيانات بالاعتماد على تعليمات معينة.

خذ نظرة على ما حولك وستجد الحواسيب في كل مكان؛ فهي تُشغل الهواتف الذكية في جيبك، والساعة التي في معصمك، وأجهزة ضبط نبضات القلب المستخدمة عند المصابين بفشل القلب، وفي محرك سيارتك، والمصعد في الأبنية، وإشارة المرور عند مفترق الطرق، وفي جهاز نقص السمع الخاص بجدتك وحتى المراحيض الخاصة… من الواضح أن أجهزة الكمبيوتر أصبحت في كل مكان!

الحواسيب موجودة في كل مكان.

الحواسيب موجودة في كل مكان.

على الرغم من ذلك، فإن الوضع ليس كما يبدو عليه دائمًا. كان أول الحواسيب ضخم الحجم، غالبًا بحجم غرفة كاملة! ورغم ضخامته، فإنه بالكاد يصل إلى قوة معالج الجوال الذي تحمله في جيبك. فهو سيحتاج إلى ساعات ليعطي النتائج التي يعطيها جهازك الذكي في غضون أجزاء من الثانية.

يُعتبر إنجازًا رائعًا أننا تمكنا من الوصول إلى التطور الحالي في الأجهزة الحوسبية، وسيساعدنا كشف الستار عن هذا التقدم التكنولوجي على فهم هذه القفزة النوعية في الحوسبة التي تلخص بها هذا القرن والإنسانية.

لماذا كان حجم الحواسيب القديمة ضخمًا؟

في جوهر الموضوع، إنَّ الهدف من الحاسوب هو أخذ المدخلات الخارجية المقدمة من البشر (والبيئات الخارجية والبرامج الأخرى حديثًا) ومعالجتها لإنتاج مخرجات مفيدة.

وُجدت الحواسيب بأشكالها البدائية قبل وجود الكهرباء. فقد كانت أجهزة مراسلة (من جهاز إلى آخر)، واستخدَمت الأصابع لإجراء عمليات حسابية بسيطة مثل المعداد. وقد تعددت هذه الأجهزة لإنجاز العمليات الحسابية الأعقد بوقت أسرع.

معداد

معداد

حقق جوزيف جاكوارد Joseph-Marie Jacquard القفزة الرئيسية في عام 1804 عندما طوّر نظامًا حيث استُخدمت بطاقات مثقبة على شكل مدخلات لجهاز اللوم looms (يشبه أداة صنع حبك خيوط الحرير).

ويمكن أن تستبدل ويعاد استخدامها لتغذية أجهزة إدخال جديدة، بالوقت الذي يُسمح للجهاز بالبقاء كما هو. رغم ذلك، لم يتحقق ذلك حتى عام 1833، عندما اخترع شارلز Charles Babbage -الذي اعتُبر أب الحاسوب- أول حاسوب للأغراض العامة. إذ فضّل استخدام المحرك التحليلي الثوري الذي يستخدم البطاقات المثقبة مدخلات وطابعة بوظيفة مخرج.

وبعد الانتشار الواسع للكهرباء، استُخدمت المبدلات الكهروميكانيكية لتكون مفاتيح تشغيل للتفاعل مع الحواسيب. وبالنسبة للحواسيب التماثلية، كان وجود كمية مادية مستمرة التغيير أمرًا هامًا. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، استُخدمت الظواهر الفيزيائية للكميات الكهربائية والميكانيكية والهيدروليكية وذلك لنمذجة المشكلة التي تحتاج إلى حل. وانتشر استخدام هذه الحواسيب في الحرب العالمية الأولى.

الحواسيب التماثلية

الحواسيب التماثلية

وبعكس ذلك، تتعامل الحواسيب الرقمية مع كميات مختلفة من البيانات بواسطة الرموز التي كانت ميزتها الأساسية، إذ يمكن إعادة معالجة المدخلات في الحواسيب الرقمية بضمان أكبر.

الحاسوب الرقمي المعتمد على الأنبوب المفرغ.

الحاسوب الرقمي المعتمد على الأنبوب المفرغ.

كانت تلك حواسيب الجيل الأول التي تعتمد على دارات منطقية أنبوبية مفرغة لغرض البرمجة. وضعت هذه الحواسيب في غرف أكبر من المنزل المعتدل الحجم مع إمكانية انهيار ليست بضعيفة. وكانت في ذروتها في خمسينيات القرن العشرين، إلا إنها استبدلت بالترانزستورات.

ما جعلها محل اهتمام، كونها كانت أسرع وأصغر وأكثر ضمانًا. فعلى سبيل المقارنة، حجم بت واحد من الأنبوب المفرغ يعادل تقريبًا حجم الإبهام، في حين يعادل البت في الترانزستورات حجم ظفر الأصبع.

الحواسيب الترانزستورية الرقمية

الحواسيب الترانزستورية الرقمية

كانت القفزة التالية عندما استبدلت الترانزستورات بالدارات المتكاملة في ستينيات القرن التاسع عشر. ليمثل ذلك ظهور الجيل الثالث من الحوسبة وجاء ذلك من خلال استخدام ترانزستورات MOS الصغيرة (ترانزستور التأثير الحقلي) وتسمى أيضًا MOSFET.

تقلص حجم الترانزستورات الكبيرة لتُصنع الدارات الإلكترونية على صفيحة مسطحة (من مادة السيليكون المستخدمة بكثرة في الدارات الإلكترونية)، ما زاد من قوة المعالجة وقلل من حجم الحاسوب في نفس الوقت؛ إذ يمكن لدارة إلكترونية بحجم راحة اليد أن تستوعب آلاف البتات!

الترانزستورات الصغيرة الحجم

الترانزستورات الصغيرة الحجم

وضع هذا التطور قوة الحوسبة المتاحة على المنحنى الأسي، ما قادنا إلى الحاضر الذي نعيش فيه الآن.

قانون مور وظهور الحواسيب الشخصية

أصبحت الشرائح الحاسوبية السيليكونية بوابة لإطلاق إمكانات قوة المعالجة الأسية. فقد كان حجم الترانستور يتقلص أكثر وأكثر، ومع كل تكرار، يمكن تشغيل قوة معالجة أكبر في شريحة بنفس الحجم. والترانزستورات المستخدمة اليوم تكون بطول 7 نانومتر فقط.

نشر غوردن مور Gordon E.Moore، مخترع معالجات انتل Intel، ورقةً بحثية في مجلة Electronics Magazine في 10 أبريل عام 1965، شارحًا فيها القانون الذي أصبح مشهورًا جدًا.

وأعلن فيها عن التأثير المذهل لتصغير حجم التكنولوجيا المستخدمة وقدّر بأنه سيستغرق الأمر 18 شهرًا حتى ترتفع قوة المعالجة الحاسوبية حوالي ضعفين. وهذا ما قادنا إلى الحواسيب التي نستخدمها الآن التي هي الأسرع بملايين المرات من تلك المستخدمة منذ أقل من نصف قرن فقط.

التطور الأسي الذي يؤدي إلى مكاسب هائلة.

التطور الأسي الذي يؤدي إلى مكاسب هائلة.

ويؤدي ذلك أيضًا إلى الانخفاض الأسي لتكلفة نفس قوة المعالجة كل 18 شهرًا. على هذا، الشريحة التي كانت تتسع نحو 2000 ترانزستور في عام 1970 ستكلف 1000 دولار، ونفسها ستكلف 500 دولار في عام 1972، و250 دولارًا في 1974 وحوالي 0.97 دولارًا في 1990.

وستكون كلفة تلك الشريحة هذه الأيام أجزاء من 0.02 دولار، لتظهر قوة التطور الأسي بوضوح هنا. وهذا ما سمح للحواسيب أن تصبح ظاهرة منزلية، لتنتقل من مكاتبنا إلى حقائبنا ومن ثم إلى جيوبنا.

ختامًا

إن تقلص حجم الأنابيب المفرغة الضخمة، بالإضافة إلى تقلص الترانزستورات، صغرّا حجم الحاسوب كثيرًا، مع التطورات في تكنولوجيا التخزين، ومزودات طاقة أكفأ، وأساليب التبريد؛ كل ذلك أعطانا التطوير السريع لأجهزة الحاسوب الشخصية القوية التي نراها اليوم.

كان قانون مور دقيقًا لدرجة الإدهاش فيما يتعلق بالتنبؤ حول حجم الحواسيب الحديثة وقوتها في الخمسين عامًا الأخيرة. لكنه يقترب من الحد الفيزيائي عندما لا يعود ممكنًا تصغير الترانزستورات.

مع ذلك، يمكن أن يتحقق التطور في ذلك بطرائق أخرى عند استخدام مواد أفضل من السيليكون، أو تصنيع دارات ثلاثية الأبعاد. يمكن أن تتحقق القفزة النوعية في الحوسبة لتحقيق قوة معالجة غير مسبوقة عندما يُحل لغز الحاسوب الكمومي.

على أي حال، سيكون من المثير أن نشهد كيف ستغير التطورات المستقبلية في الحوسبة طريقة عيشنا وتواصلنا. في الواقع، نحن محظوظون لكوننا أحياءً في هذا العصر.

اقرأ أيضًا:

ما هي الحوسبة الكمومية؟

لماذا يبطأ الحاسوب مع مرور الزمن؟

ترجمة: فارس بلول

تدقيق: عون حداد

المصدر