قد يكون من المرهق في خضم هذا العالم السريع من وسائل التواصل الاجتماعي أن يقرر المرء أيًا من تلك العناوين التي تتصدر مصادره الإخبارية هي فعلًا علم حقيقي أم مزيف.

ما يجعل الأمر أكثر تعقيدًا هو أن –على سبيل المثال- معارضي التطعيم ومنكري التغير المناخي يستعملون المصطلحات العلمية من أجل ضم الناس لصفهم، كما أثبت الباحثون أنه من السهل أن تنطلي حيلة –ما أسموه بالهراء العميق المزيف- على الناس.

فمثلًا اقتباسات ديبك كوبرا (Deepak Chopra) التي تبدو أنها ذكية، هي في الواقع غير ذات معنى حينما تفكر فيها، كالمقولة: “الرفاهية تتطلب الاستكشاف”.

لاجتياز المهمة عليك أن تتحد معها.

إن عملية فرز الحقائق العلمية عما هو خيال هو أمر مهم جدًا بقدر ما هو صعب.

ولكن من المدهش أنه في عام 1966م قدم الفيزيائي النظري ريتشارد فاينمان أسلوبًا بسيطًا ورائعًا يخدم حاجتنا اليوم بهذا الخصوص أكثر من أي وقت مضى.

يتضح لنا أنه وبكل بساطة كل ما عليك فعله هو إعادة صياغة أي معلومة تسمعها مهما كانت ذكية الى لغة بسيطة عادية كالتي نستخدمها كل يوم، أو أن تطلب من الشخص نفسه أن يحكيها لك دون استخدام أي مصطلحات علمية معقدة، ثم تقوم بالنظر فيما اذا كانت فعلًا مقنعة أم لا.

فمثلًا قول أحدهم أن تحصين المناعة بالتطعيم يؤدي إلى الإصابة بالتوحد، حجتهم بذلك أن موادًا مهيجة تعطى مع التطاعيم المتكررة تسيطر أو تضعف من الجهاز المناعي، تبدو حجة مقنعة حقًا.

والآن هل يمكنك أن تفسر كيف يمكن لحقن جزء من فيروس ميت في جسم أحدهم –بهدف أن يتعرف الجسم عليه ليستطيع مهاجمته إذا أصيب بالنسخة الحية منه مرة أخرى- أن يؤدي الى تغيرات سلوكية واسعة جدًا؟ لا؟ توقعت ذلك.

قبل خمسين سنة مضت، قدم ريتشارد فاينمان خطابًا في نقابة المعلمين الأمريكيين القومية للعلوم، لم يتحدث فيه عن منكري التغير المناخي أو معارضي التطعيم، وإنما كان ينقل لمعلمي المستقبل الفرق بين معرفة اسم الشيء، وفهم حقيقة الشيء.

أخبرهم فاينمان في خطابه عن كتاب علوم للصف الأول كان قد رآه سابقًا، بدأ الكتاب بعرض صورة لدمية كلب تعمل بتحريك الزنبرك، وكلب حقيقي، و دراجة نارية ثم طرح سؤال على الطلبة: “ما الذي يحرك كل منها؟”

قد تبدو هذه طريقة مثيرة للاهتمام من أجل البدء بالحديث عن أبسط مفاهيم العلوم، ولكن عوضًا عن ذلك قال فاينمان أن الإجابة كتبت بنسخة المعلم من الكتاب: “الطاقة تجعله يتحرك”، كإجابة لكل الصور.

قال فاينمان: “إن الطاقة هي اجابة حذقة، ولكن من الصعب جدًا أن تستخدم بمحلها، ما أعنيه هو أنه من الصعب جدًا استيعاب مفهوم الطاقة كي يتم توظيفه بمكانه الصحيح ومنه استنتاج شيء أخر مستخدمًا مفهوم الطاقة، انه أمر أعلى من مستوى الصف الأول.

انه يشبه قول أنّ (الله يجعلها تتحرك) أو (الروح تجعلها تتحرك) أو (الحركة تجعلها تتحرك) حتى أنه يمكن لأحدهم القول أنّ (الطاقة تجعلها تتوقف)”.

ولكن عوضًا عن ذلك، اقترح فاينمان على المعلمين أن يستخدموا لغة أبسط للاجابة على هذا السؤال، لغة يستخدمها أي شخص أخر لا معرفة له بالمصطلحات العلمية، كأن يجيبوا قائلين أن دمية الكلب تتحرك حين تقوم بلف الزنبرك، ثم تحاول اللعبة لف الزنبرك بالاتجاه المعاكس مشغلة بذلك المحرك، فتتحرك.

ثم قدم فاينمان بعد ذلك أحد أهم النصائح على الاطلاق في مجال العلوم:

“وأخيرًا توصلت لطريقة تمكنك من معرفة ما إذا كنت قد تلقنت (فكرة) أم مجرد (تعريف)، جرب هذه الطريقة: قم بإعادة صياغة الأمر الذي تلقيته لتوك بلغتك الخاصة دون استخدام الكلمات الجديدة التي تعلمتها -كالطاقة، فقط أخبرني عما تعرفه عن حركة دمية الكلب، فإذا لم تستطع، هذا يعني أنك لم تتعلم شيئًا عن العلم”.

إن هذا الأسلوب الذي قدمه فاينمان يساعد أيضًا في فحص ما يدعيه الأخرون مستخدمين الحقائق العلمية، كما وضح سايمون اوكسينهام في بيغ ثينك BigThink:

“إذا لم يستطع أحدهم أن يشرح فكرة معينة باللغة البسيطة، فإن أول تساؤل يخطر إلى أذهاننا هو ما إذا كان هو نفسه يعي ما يدعيه ويفهمه.

وإذا كان هناك شخص يستخدم مصطلحات خاصة جدًا أمام جمهور من غير المختصين فإننا نتساءل فورًا (لماذا؟) أو كما قال فاينمان: من الممكن أن نتبع الصيغة أو التعريف ونسمي ذلك علمًا ولكنه علم زائف”.

إنه مفهوم بسيط، ولهؤلاء الذين هم ضمن المجتمع العلمي فإنه أمر معمول به لسنوات، ولكن حينما تخرج به إلى العالم الحقيقي لتجرب أن تعيد صياغة الأمور لصور أبسط بهدف فهمها أولًا، واختبارها ثانيًا، فإنه حقًا أسلوب رائع من أجل التخلص من الهراء والكذب.

وإذا كنت تتساءل عن مدى التزام فاينمان بنصيحته، شاهد هذه المقابلة التي سجلت قبل 20 سنة تقريبًا، يرفض فيها فاينمان أن يفسر طريقة عمل المغناطيس لصحفي البي بي سي، وذلك لأنه يجد أنه من الصعب عليه صياغة الفكرة بطريقة تناسب المشاهدين.


تحرير: كنان مرعي.