عندما تضغط على زر الكهرباء ليضيء مصباح النور في الغرفة، لا تنشغل كثيرًا بطريقة عمله أو بالأشخاص الذين يرجع لهم الفضل في وجوده، ولو سألك أحدهم عن مخترع مصباح الكهرباء فستقول بلا تردد إنه توماس إديسون مخترع المصباح المتوهج، لكن الفضل في وجود تقنية المصباح الكهربائي في حياتنا يرجع أيضًا وبنفس الدرجة لرجل عبقري آخر هو نيكولا تسلا.

وصل تسلا إلى الولايات المتحدة الأميركية سنة 1884 وكان وقتها في الثامنة والعشرين من العمر، وتقدم بحلول سنة 1887 بسلسلة من الطلبات للحصول على براءات اختراع تصف كل ما هو ضروري لتوليد الكهرباء باستخدام التيار المتناوب. ولإدراك أهمية هذه الاختراعات علينا أن نفهم الحال التي كان عليها مجال توليد الكهرباء في نهاية القرن التاسع عشر، فقد كانت الحرب مشتعلة بين تيار تسلا المتناوب وتيار إديسون المستمر.

وضع الكهرباء سنة 1885:

كشف توماس إديسون عن مصباحه المتوهج في يناير سنة 1880، واستُخدِم نظامه الحديث للطاقة الكهربائية بعد ذلك بفترة قصيرة في الحي الأول لمدينة نيويورك. وعندما ضغط إديسون على المفتاح الكهربائي في عرض عام لنظامه الجديد سنة 1881، اشتعلت المصابيح الكهربائية وأشعلت معها إقبالًا غير مسبوق على هذه التقنية الحديثة.

ورغم أن إديسون دعا إلى تمديد الأسلاك الكهربائية تحت الأرض، فقد تسبب الإقبال الكبير على الكهرباء إلى وجود أسلاك كهربائية مكشوفة تتدلى من أعمدة خشبية. وبحلول عام 1885 أصبح تفادي أخطار الصعقات الكهربائية جزءًا من الحياة اليومية في المدينة، لدرجة أن بروكلين وهي إحدى بلدات مدينة نيويورك أطلقت على فريقها للبيسبول اسم «دودجرز» أو المراوغين لأن سكان البلدة اعتادوا المراوغة في طرقاتها تفاديًا للصعقات الكهربائية.

اعتمد نظام إديسون الكهربائي على التيار المستمر، الذي يسير في اتجاه واحد وينشأ من مولدات التيار المستمر، كان إديسون داعمًا قويًا للتيار المستمر رغم عيوبه التي من أبرزها صعوبة توصيل الكهرباء لمسافات طويلة بتكلفة مناسبة. علم إديسون أن التيار المتناوب يتفوق على التيار المستمر من هذه الناحية، لكنه لم ينظر للتيار المتناوب بوصفه حلًا مناسبًا للشبكات الكهربائية التجارية ذات النطاق الأوسع.

أدرك إليهو طومسون منافس إديسون وأحد رؤساء شركة طومسون هيوستن تلك الحقيقة التي غابت عن إديسون، فوضع سنة 1885 مخططًا أوليًا لشبكة من التيار المتناوب تعتمد على خطوط النقل عالية الجهد لتوصيل الكهرباء بعيدًا عن مكان توليدها. أشار مخطط طومسون أيضًا إلى ضرورة وجود تقنية تخفض من الجهد الكهربائي للأسلاك لدرجة تجعل استخدامها في نقل الكهرباء ممكنًا، ولم تصبح هذه التقنية التي أُطلِق عليها اسم «المحول الكهربائي» متاحة للاستخدام التجاري على نطاق واسع إلى أن طورتها شركة ويستنجهاوس إلكتريك سنة 1886.

كيف غير تسلا طريقة استخدامنا للطاقة - مخترع مصباح الكهرباء - شركة ويستنجهاوس إلكتريك - كيف غير تيسلا طريقة استخدام الكهرباء عبر التيار المتناوب

وعلى الرغم من تطوير المحول الكهربائي ووجود العديد من الاختبارات الناجحة لاستخدام أنظمة التيار المتناوب، كانت هناك حلقة مفقودة هي محرك التيار المتناوب، الذي كان لتسلا الفضل في تطويره.

عبقرية تسلا:

استغرق تطوير المحرك الكهربائي المعتمد على التيار المتناوب سنوات من العمل الجاد، بدأها تسلا سنة 1882 عندما كان موظفًا في شركة إديسون كونتيننتال في باريس. إذ كان يركب أنظمة المصابيح المتوهجة التي تعمل بالتيار المستمر نهارًا ويجري تجاربه على محرك التيار الكهربائي المتناوب ليلًا، استمر هذا مدة عامين إلى أن انتقل تسلا إلى شركة إديسون مشين ووركس في نيويورك.

يقول البعض إن تسلا تحدث عن أفكاره عن التيار المتناوب لإديسون لكن المخترع الشهير لم يبد اهتمامًا، بل طلب من تسلا إدخال تعديلات على مصانع توليد التيار المستمر التي كانت موجودة أصلًا، فعل تسلا ذلك لكنه أصيب بخيبة أمل عندما لم يدفع له إديسون الأجر المناسب، فاستقال وافترق الرجلان كل في طريقه.

حصل تسلا بعد عدة محاولات فاشلة على دعم مالي من المحامي تشارلز بيك والمسؤول في شركة ويسترن يونيون ألفريد براون، ساعد بيك وبراون تسلا على تأسيس مختبر يبعد مسافة قصيرة عن مختبرات إديسون في مانهاتن، وشجعاه على تحسين محركه للتيار المتناوب. ففعل تسلا ذلك واستطاع بناء ما عُرِف لاحقًا باسم «المحرك الحثي متعدد الأطوار». ويعني مفهوم «متعدد الأطوار» أن المحرك يعتمد على عدة تيارات متناوبة وليس على واحد فقط. بينما تشير كلمة «حثي» إلى العملية التي يتولد فيها التيار الكهربائي في الجزء الدوار بفعل الأقطاب المغناطيسية الموجودة في الجزء الثابت. وكان محرك تسلا الأصلي ثنائي الأطوار يعتمد على جزء ثابت بزوجين من المغناطيسات، يولد كل زوج فيهما تيارًا متناوبًا.

تقدم تسلا سنة 1887 بسبع براءات اختراع في الولايات المتحدة تشرح نظامًا متكاملًا من التيار المتناوب استنادًا إلى محرك الحث الذي اخترعه، وشمل النظام أيضًا مولدات ومحولات وخطوط نقل وإضاءة. ثم ألقى تسلا بعد عدة أشهر محاضرة عن نظامه الثوري الجديد في المعهد الأمريكي لمهندسي الكهرباء. أحدثت هذه المحاضرة ضجة كبيرة، وكانت السبب في اقتناع العديد من الخبراء بالتفوق الكامل للتيار المتناوب على التيار المستمر، رغم الحملة المضادة للتيار المتناوب التي قادها إديسون.

إذا كانت لديك فكرة رائعة ورغبت في طرحها في الأسواق، فلا بد لك من امتلاك المال والنفوذ، وهنا يأتي دور جورج ويستنجهاوس رائد الأعمال وصاحب اختراع المكابح الهوائية في عربات السكك الحديدية. كانت شركة ويستنجهاوس تسعى للوصول إلى شبكة طاقة كهربائية تعتمد على التيار المتناوب، فلما سمع بمحاضرة تسلا التي ألقاها سنة 1888 أثارت فضوله، ولم يتردد عندما تواصل معه بيك وبراون بشأن الاستفادة التجارية من اختراعات تسلا. قدم ويستنجهاوس عرضًا سخيًا، إذ دفع 25 ألف دولار نقدًا و50 ألف أخرى في سندات وحق انتفاع بسيط مقابل كل حصان كهربائي يولده المحرك.

اتجه ويستنجهاوس باختراعات تسلا إلى مدينة بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا، حيث كان يأمل باستخدام التقنية الجديدة لتوليد الطاقة الكهربائية لتحريك عربات الترام. تبعه تسلا إلى هناك وأشرف على تشغيل النظام الجديد، ولكن الأمور لم تسر بالسلاسة المطلوبة، إذ اختلف تسلا كثيرًا مع مهندسي ويستنجهاوس.

استطاع الجميع في النهاية التوصل إلى صيغة نهائية مشتركة وهي نظام يعتمد على تيار متناوب ثلاثي الأطوار بعدد 60 دورة. ومن الجدير بالذكر أن معظم شركات الطاقة الكهربائية في الولايات المتحدة وكندا اليوم تولد التيار المتناوب ب 60 دورة، ويعني هذا أن التيار المتناوب يغير اتجاهه 60 مرة في الثانية الواحدة وهو ما يُعرَف بتردد النظام.

بحلول بداية تسعينيات القرن التاسع عشر شعر مؤيدو التيار المستمر بتهديد حقيقي. استمر إديسون ورفاقه في ادعاءاتهم بخطورة التيار المتناوب، مشيرين إلى حادثة صعق كهربائي كارثية سنة 1890 عدوها دليلًا على خطورة التيار المتناوب، لكنهم تلقوا صفعة قوية سنة 1893 عندما فازت شركة ويستنجهاوس بمناقصة لإنارة معرض شيكاغو الدولي.

فازت شركة ويستنجهاوس على شركة جنرال إلكتريك التي تأسست من اندماج شركة إديسون «جنرال إلكتريك» وشركة «طومسون هيوستن»، كانت جنرال إلكتريك الشركة الرائدة في الطاقة المعتمدة على التيار المستمر، لكن ويستنجهاوس نجحت في الفوز بالمناقصة بعد تقديمها عرضًا بتكلفة أقل. وبعد أن أدار الرئيس جروفر كليفلاند مفتاح التشغيل الذي أنار مئة ألف مصباح كهربائي، لم يبق سوى القليل جدًا من المشككين بتفوق التيار المتناوب.

أقنع ويستنجهاوس مزيدًا من المشككين سنة 1895 بعد تصميمه محطة توليد كهرومائية على شلالات نياجارا، تجسدت فيها كل مميزات التيار المتناوب. زودت المحطة في البداية مدينة بوفالو بولاية نيويورك بالكهرباء، ولم يمض وقت كثير حتى وصلت الكهرباء إلى مدينة نيويورك.

بحلول هذا الوقت، ترك تسلا وظيفته في محطات توليد الكهرباء والتطبيقات العملية للتيار المتناوب، وانتقل إلى نيويورك حيث افتتح معملًا جديدًا ليستكشف فيه المزيد من الأفكار والأجهزة والماكينات التي سبقت عصرها. قدم تسلا إسهامات عظيمة في مجال الهندسة الكهربائية، إذ يعد المحرك الكهربائي الذي ابتكره والتيار المتناوب متعدد الأطوار بمثابة الأساس الذي تستند إليه تقنيات توليد الكهرباء وتوزيعها في الوقت الحالي.

ورغم انتصار تيار تسلا المتناوب على التيار المستمر، لا تزال تطبيقات التيار المستمر مستَخدمة في الأنظمة الكهربائية للسيارات والقاطرات وبعض أنواع المحركات.

اقرأ أيضًا:

نيكولا تسلا.. سيرة ذاتية

مقارنة: أعمال وشخصية تسلا ضد اديسون

ترجمة: شريف فضل

تدقيق: مازن النفوري

مراجعة: وئام سليمان

المصدر