يمكن للغضب المزمن أن يتسبب في الألم الجسدي ويزيد من حدته.

للدكتور بيرنارد غولدن

هرع أخي الكبير إلى أمي حاملًا بيده كتابًا وهو ينادي: «أماه، اقرئي هذه الصفحة! مكتوب أن كبت الغضب يسبب آلام الظهر».

أجابت بنبرة غير مكترثة: «اتركني وشأني، فأنا أحضر طعام العشاء».

«اقرئي هذا أرجوكِ».

أظهرت انزعاجها بعد أن كرر مطلبه للمرة الثالثة بصراخها قائلةً: «كف عن الإلحاح».

وبالطبع، تمسك أخي بحق الرد الأخير ليقول: «أترين؟ الأمر صحيح».

كنت في الحادية عشرة من العمر آنذاك، وكان أخي في الرابعة عشرة؛ وكل منا في طريقه ليصبح عالم نفس ذات يوم. ليتاح لي حينئذ أن أستكشف العلاقة بين الغضب والصحة الجسدية بنفسي.

الغضب الناتج عن الألم

يغضب المرء عندما يواجه ما يعده تهديدًا، إذ تنشط اللوزة الدماغية وتحت المهاد اللتين تهيئاننا لحالة الكر أو الفر fight or flight. لذلك من البديهي للألم الجسدي وهو تهديد لصحتنا الجسدية والنفسية أن يحفز فينا الغضب.

وجدت دراسة أجراها كروس مع فريقه عام 2011 باستخدام الرنين المغناطيسي تشابهات دماغية عند اختبار الألم الجسدي وعند اختبار الألم النفسي، إذ حفز الشعور بالرفض الاجتماعي نفس أنماط الاستجابة الدماغية التي تولد عند اختبار الألم الجسدي.

مهما تعددت أسباب الألم الجسدي -حادث أو مرض أو شيخوخة- فهو كفيل بأن يسبب الغضب بمختلف عناصره التي تشمل شعور الانزعاج والعجز وتأثيراته.

نتعامل مع الألم الجسدي كما نتعامل مع الجراح العاطفية؛ فقد نعزوه إلى أنفسنا، فنغضب من أجسادنا لأنها خذلتنا ولم تعلنا كما رجونا، مثلما نلوم أنفسنا عندما نشعر بالعار تجاه أخطاء اقترفناها أو تجاه مآثر لم نرتق إليها. وقد نعزو آلامنا إلى الآخرين أيضًا، فقد نلقي اللوم دون وعي منا عليهم.

تأثير الغضب في اختبارنا للألم

تتأثر استجابتنا للغضب الناتج عن الألم الجسدي كثيرًا بمحفزات الغضب التي اعتدناها في حياتنا، وهذا ما تشير إليه دراسة أجراها سكوت وفريقه عام 2014؛ وجدت أن الظلم الذي يتسبب في غضب المشاركين يسهم في شدة الألم.

وفعلًا، حسب دراسة أجرتها كوارتانا مع فريقها عام 2010، يؤدي الغضب المكبوت إلى تفاقم شدة الألم، ويؤدي أيضًا إلى إدراكنا الكامل لمحفزات الغضب الحسية المؤلمة، وازدياد الإبلاغ عن الغضب عند إجراء اختبار الضغط البارد على الأوعية الدموية Cold pressor test، وهو اختبار يضع فيه المشترك ذراعه في مياه متجمدة.

وحسب نتائج ضغط الدم قبل اختبار الألم الجسدي وبعده، فقد تناسب مقدار الغضب المكبوت عكسيًا مع ضغط الدم الانقباضي SBP. وهذا ما أكدته دراسة أخرى أجراها توليدو مع فريقه عام 2019، تبين فيها أن المشتركين الأكثر ميلًا إلى كبت غضبهم، عانوا ألمًا أكبر عند تعريضهم لصعقة كهربائية أو للبرودة.

إضافةً إلى كون الغضب يزيد حدة الألم الذي نختبره، فهو يؤثر أيضًا في قدرتنا على معالجة الألم. ففي دراسة أجريت عام 1998، التحق 100 مريض تقريبًا ببرنامج لمعالجة الألم. فحص البرنامج -فور بدايته وبعد نهايته- قدراتهم على رفع الأوزان والمشي المرهق وتحمل الألم ومواجهة الاكتئاب ومستوى نشاطهم العام، وتبين وجود تناسب عكسي بين مقدار الغضب والقدرة على رفع الأوزان لدى الذكور الذين يميلون إلى التعبير عن غضبهم، بينما عانى المشتركون الذين يكبتون غضبهم تأخرًا في تعافيهم من الاكتئاب وضعفًا في نشاطهم العام.

اشتملت دراسة أجراها بيرن وفريقه عام 2015 على تقارير قدمها 105 مشتركين وشركاؤهم العاطفيون بكتابة مذكرات يومية إلكترونيًا واختبارات تكررت 5 مرات يوميًا على مدار أسبوعين، وبينت التقارير أن سهولة تحفيز الغضب والتعبير عنه يتناسبان طرديًا مع شدة الألم والعجز عن التصرف لدى من يعانون الألم المزمن.

وجدت دراسة مراجعة ضخمة أجراها كاريير مع فريقه عام 2020 أن الشعور بالظلم مرتبط إلى حد بعيد بشدة الألم والعجز البدني والإعاقة على المستوى الجسدي، وبتدني جودة الحياة وضعف المهارة الاجتماعية وأعراض متعلقة بالاكتئاب والقلق واضطراب الكرب ما بعد الصدمة على المستوى النفسي، وذلك بناءً على مراجعة 31 دراسةً تضمنت عناصر الألم والغضب والشعور بالظلم؛ أجريت 23 منها على مرضى عانوا الألم أكثر من 3 أشهر، وأجريت 17 دراسةً منها على أفراد عانوا ألمًا ناتجًا عن إصابة. روجعت بالمجمل بيانات ما يقارب 6000 مريض يعانون ألمًا في الجهاز العضلي الهيكلي.

تعيق بعض ميولنا العقلية مرونتنا العاطفية والإدراكية، التي تعد مكونًا محوريًا لقدرتنا على التأقلم مع مختلف تحديات الحياة؛ أحد هذه الميول هي خصلة الغضب، وهي تضخيمنا المستمر لمحفزات الغضب بسبب نظرتنا إلى أنفسنا وإلى الحياة من خلال منظور سلبي؛ يتكون هذا المنظور نتيجة الشعور بالظلم أو الماضي المليء بالألم العاطفي، أو حتى الشعور بالتميز! بصرف النظر عن المسببات، فإن هذا المنظور يغفل عن حقيقة أن الألم متأصل في الطبيعة الإنسانية.

تماشيًا مع المرونة العصبية Neuroplasticity، فإن الأفكار الغاضبة الناتجة عن الألم تمرن الدماغ على اختبار الألم المصاحب للغضب أكثر، أي أن المسارات العصبية تصبح حمّالة للألم. أكدت دراسة ديربيشاير وفريقه عام 2004 هذه الفكرة عبر تحفيز الألم بتنويم المشتركين إيحائيًا، دون أي إيذاء جسدي، فوجدت أن الألم بمصدريه الجسدي والنفسي وجد نفس الاستجابة الدماغية بنفس المناطق، ومن ثم تمكنت من فهم كيفية اختبار المريض للألم دون وجود أداة إيلام مادية لتولده.

مثال شخصي

اختبرت مقدارًا هائلًا من الألم في السنوات الأخيرة بسبب اعتلال الأعصاب في ساقي الناتج عن العلاج الإشعاعي للسرطان؛ ترافق الألم مع صعوبة في التوازن والتوجه. أخبرت نفسي في البداية: «أنا أشعر بالألم، والأمر سيزداد سوءًا، فأنا أكبر في السن، وقريبًا سأحتاج إلى عكاز، وبعد ذلك إلى ممشاة Walker، ومن ثم إلى سكوتر المسنين». لكن لحسن الحظ، حالتي لا تتطور وفق المسار الذي توقعته.

وهكذا بدأت أتفهم انعدام راحتي، وألحظ ميل دماغي لأن يشطح بتفكيره في حالتي وأتجاهله، فتعلمت أن أقول: «أنا الآن أحس بالألم، وهذا كل ما في الأمر»، دون أن أسمح لنفسي بتفصيل الفكرة.

حين أمشي في الشارع، أستطيع تمييز انعدام الراحة في ساقي على أنه إحساس فقط، وغالبًا ما أتقبله وأقرر فعل ما بوسعي للتركيز على جوانب الحياة الدائرة في الشارع، أو ربما أهتم بإحساس انعدام الراحة بالقدر الملائم، لكن، لدي حرية أكبر في اختيار القرار الأنسب.

سيكون التعامل بهذه العقلية أصعب بالتأكيد عند معاناة مقدار أشد من الألم -كما في حالة حصى الكلى-، ولكن التحدي الحقيقي يكمن في أن نتذكر أن الغضب مؤذٍ على المستوى الفسيولوجي ومن شأنه أن يفاقم الألم. والأدهى والأمرّ أن المنظور الذي نرى من خلاله الألم (الغضب)، والمعاني التي نلحقها بالألم، لا تكتفي بمفاقمة الألم فقط، إنما تعطل سعينا إلى عنايتنا بأنفسنا كي نتعامل مع الألم.

يمكن لتعلمنا التعامل مع الألم بطريقة صحية أن يخفف الألم أو أن يزيله حتى. فبدلًا من أن نسمح للألم بإغضابنا، يمكننا أن نراه إشارةً إلى وجوب عنايتنا بأنفسنا، كما نفعل عندما نشعر بألم عاطفي. وذلك يتضمن تعلم استراتيجيات للاهتمام بالنفس والتعاطف معها، والبحث الدؤوب في القضايا التي تخدم النفس وإيجاد طرق للتصرف عند تألمها. يجب علينا أن نتذكر أن الألم ليس عيبًا في حياتنا أو شخصيتنا، إنما هو جزء لا يتجزأ من كوننا بشرًا.

اقرأ أيضًا:

دموع الألم ودموع الفرح، هل البكاء أمر صحي؟

علم النفس وفلسفة الغضب

ترجمة: عون حدّاد

تدقيق: لبنى حمزة

المصدر