لدى اليابانيين كلمةٌ في لغتهم يستخدمونها ليشيروا إلى أهمية اللمس في العلاقات القريبة، أتت من اللغة الإنجليزية -رغم أنك لن تجدها في أي قاموسٍ إنكليزي- وهي skinship.

لا تعني skinship الملامسات بين الشركاء في العلاقات الحميمة فقط. بل تضم جميع أنواع العلاقات المقربة مثل العلاقات بين أفراد العائلة أو بعض الأصدقاء المقربين. يحتاج الرضع وصغار الأطفال إلى ملامسة من يرعاهم كثيرًا، وكلنا بحاجةٍ إلى بعض الملامسة من معارفنا المقربين.

استطاع اليابانيون بحدسهم التوصلَ إلى ما أدركه علماء النفس الغربيون الآن بعد بحث حثيث، ألا وهو أهمية التلامس وقوته في توثيق العلاقات وتعزيز الحميمية فيها. تتعلق الملامسة برفاهيتنا الجسدية والنفسية، ومن لا يمارس هذه العادة الاجتماعية فسوف يعاني الاكتئاب والقلق وعددًا من الاضطرابات الأخرى.

رغم ذلك، هناك أشخاص ينفرون من الاتصال الجسدي مع الآخرين، حتى مع المقربين منهم. يعاني هؤلاء مشكلاتٍ نفسية أكثر من الآخرين، وربما تأتي تلك المشاكل من حرمانهم أنفسهم من الاتصالات الجسدية الضرورية لهم دون أن يتعمدوا.

ولكن قد يكون تأثير الاتصال الجسدي عليهم معاكسًا، ويسبب لهم شعورًا بعدم الراحة. وهذه بالضبط القضية التي بحث بها عالم النفس أنِك ديبروت وزملاؤه من جامعة لوسان في سويسرا، وأعلنوا نتائجهم في دراسةٍ نشروها مؤخرًا في مجلة Personality and Social Psychology Bulletin.

لاحظ ديبروت وزملاؤه أهمية النمط المتبع في التودد والاتصال الجسدي في توثيق العلاقات العاطفية الحميمة. يشير مصلح نمط التودد إلى الطريقة التي يتفاعل فيها الشخص مع شريكه الحميم في أوقات الشدة، وتتطور هذه الطريقة منذ سن الرضاعة نتيجة أسلوب التودد الذي يتبعه من يرعى الرضيع.

فالرضع الذين يتعلمون أن أمهاتهم سيقدمن جميع احتياجاتهم، سوف يطورون نمطًا آمنًا للاتصال الجسدي، وسيثقون بالآخرين عندما يكبرون، وبالأخص سيثقون بالمقربين.

والعكس، فالرضع الذين لا يتلقون احتياجاتهم كلها ممن يرعاهم سيطورون واحدًا من نمطي علاقات ناتجٍ عن عدم الأمان الذي شعروا به خلال طفولتهم، وهما: إما نمطٌ يتسم بالقلق والصعوبة لجذب انتباه الأم، ويصبحون غير مستقلين ومتطلبين وخائفين دائمًا من الهجران عندما يكبرون. أو نمطًا اجتنابيًا يتعلمون فيه تهدئة أنفسهم بأنفسهم، وعندما يكبرون، سيفضلون الاستقلالية وسيشعرون بعدم الراحة في العلاقات العاطفية الحميمة.

هؤلاء هم من يكادون لا يشعرون بأية رغبة في الاتصال الجسدي الخارج عن إطار الجنس، وينفرون لمجرد أن أحدًا أوشك على معانقتهم أو لمسهم.

كان الهدف من بحث ديبروت وزملائه مباشرًا:

هل يرفض الأشخاص ذوي النمط الاجتنابي من التودد اللمسَ لأنه لا يزودهم بأي تحسن نفسي أو حتى يؤذيهم؟ أو أنهم كانوا سيستمتعون بهذه الملامسات تمامًا مثل الآخرين فقط لو استطاعوا تجاوز رفضهم الداخلي لهذا الأمر وانخرطوا في ملامساتٍ جسدية مع أحبائهم؟

لاكتشاف إجابات تلك الأسئلة، أجرى الباحثون ثلاث دراساتٍ منفصلة.

الدراسة الأولى:

أجريت على 1600 شخص في علاقة عاطفية. وسُئلوا عن نمط التودد الذي يتبعونه، ومدى رفاهيتهم الحياتية، وتصرفاتهم التي تتضمن اللمس بما فيها العناق والتقبيل وغيرها، ومدى تكرار هذه التصرفات خلال اليوم، الذي يتراوح ما بين عدم فعلها بتاتًا إلى تكرارها لأربع مرات أو أكثر في اليوم.

أظهرت النتائج أن الذين لامسوا شركاءهم أكثر أبدوا مستوىً أعلى من الرفاهية. علاوةً على ذلك، أظهر ذوو النمط الاجتنابي اتصالًا أقل مع شركائهم، ومستوىً أدنى من الرفاهية. قد ادعى بعضٌ من ذوي النمط الاجتنابي بأنهم يلمسون شركاءهم بتواترٍ أكبر ولكن هؤلاء بالذات يتمتعون عمومًا بمستوىً من الرفاهية يوازي ما يتمتع به ذوو الأنماط الأخرى الذين يلمسون شركاءهم بكثرة.

يظهر من تلك النتائج أن الأشخاص ذوي النمط الاجتنابي في العلاقات يستمتعون ويستفيدون عاطفيًا من الملامسات الحميمة تمامًا مثل الآخرين، وهي لا تؤذيهم.

اكن يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن تلك البيانات مأخوذة من ألسنة الأشخاص أنفسهم، لذا دعا ديبروت وزملاؤه 66 ثنائيًا من هؤلاء إلى زيارةٍ المختبر للتأكد.

عندما وصلوا إلى المختبر، أعطو معلوماتٍ مشابهة لمعلومات الدراسةِ الأولى. ثم طُلب أن يجري كل زوجين محادثاتٍ عن الأوقات التي ضحّى فيها أحدهما في سبيل الآخر، أو شعرا بحبٍّ قوي تجاه بعضهما. سُجلت تلك المحادثات، وبعد ذلك، سجل الملاحظون عدد المرات التي لمس فيها الزوجان بعضهما. وحدد المشاركون شعورهم الإيجابي قبل وبعد إجراء كل محادثة.

الدراسة الثانية:

كانت نتائج الدراسة الثانية مشابهة لنتائج الدراسة الأولى وما زاد عليها أن زيادة التلامس خلال إجراء المحادثة لم ترتبط دومًا مع تحسين المشاعر مباشرةً، ما جعل الباحثين يظنون أن النمط العام المتبع في الملامسة هو ما يؤثر في الرفاهية ككل.

الدراسة الثالثة:

ضمت الدراسة الثالثة 98 زوجًا واستمرت 28 يومًا، سجل فيها كل مشارك النمط المتبع في التودد خلال اليوم الأول، ثم أخذوا يراقبون المزاج والسلوكيات التي تتضمن اللمس يوميًا. أكدت النتائج هنا نتائج الدراستين السابقتين، وأضافت معلوماتٍ جديدة عن تأثير نمط التودد على الشريك.

أظهرت النتائج انخفاض وتيرة المزاج الجيد عند ذوي النمط الاجتنابي وعند شركائهم. على أية حال، ارتفعت الوتيرة عند ذوي النمط الاجتنابي الذين كانوا يستجيبون لملامسات شركائهم. هذا يبرهن أهمية الاتصال الجسدي حتى للأشخاص الذين يرتدّون عندما يحاول أشخاصٌ معينون لمسهم.

اقترح ديبروت وزملاؤه أن يطور المعالجون تقنيةً لمساعدة الأشخاص ذوي النمط الاجتنابي في التودد إلى الآخرين بهدف تجاوزهم لحالة النفور ضد الاتصال الجسدي غير الجنسي.

يرتاح معظم الناس عند إجراء اتصالاتٍ لمسية مع الشركاء في العلاقات العاطفية والعائلية. لكن ليس الجميع، فمن يتبعون النمط الاجتنابي في العلاقات يميلون إلى النفور من الاتصال الجسدي، حتى وإن كان حدوثه جيدًا لهم.

رغم أن نمط التودد ينشأ في الطفولة، فإن أدلة كثيرة تشير إلى إمكانية تغييره بعد البلوغ. وهذا ينطبق بالأخص على من يدركون أسلوبهم في التودد، ويملتكون شريكًا متفهمًا وداعمًا لنمو شخصياتهم.

اقرأ أيضًا:

الحميمية والعزلة عند إريك إريكسون: لم تعد العلاقات بالآخرين مهمة؟

الشعور بخيبة الأمل في العلاقات الوثيقة: إليك ما يجب فعله

ترجمة: ليلى حمدون

تدقيق: حنين سلَّام

المصدر