رغم الصعوبات العديدة التي تواجه المصابين بـ (اضطراب طيف التوحد -Autism Spectrum Disorder – ASD)، إلا أنهم يُبدون تميزًا ملحوظًا في بعض الاختبارات.

قام عالم نفسٍ إيطاليّ بأبحاثٍ أثبت من خلالها ارتباطَ التفكير التنظيميّ بالقدرة على التعامل مع الرياضيات، وتمكّنت تلك الأبحاث من تفسير تمتّع المصابين بالتوحد بعقلٍ يُحسِنُ التعامل مع الأرقام بشكلٍ كبيرٍ مقارنةً مع الأشخاص العاديين.

وبشكلٍ عام، يستخدم عقلنا نوعين من الآليات للتعامل مع المسائل الحياتيّة المختلفة: فإمّا أن نبحث عن العلاقة الخارجية التي تربط بين الفئات في المجتمع الإحصائيّ المدروس ونخلص منها إلى نتيجةٍ ما، أو أن نقوم بدراسة مجموعة التوابع والمؤشرات المعرّفة على هذا المجتمع، ونصل منها إلى النتيجة المرجوّة.

يمكن تصنيف ميول المخ إلى صنفين يعملان معًا على معالجة الأمور المختلفة، وهما: ميولٌ عاطفيّ، وميول تنظيميّ، ومن النادر استخدام أحدهما بمعزلٍ عن الآخر، إذ إننا عادة نمزج بينهما عند معالجة مختلف المسائل اليومية، فنستخدم المنطق حينًا والعاطفة حينًا مع وجود المكوّن الآخر بنسبةٍ معينة.

وللأشخاص المختلفين مميزاتهم المختلفة، والناتجة كحصيلةٍ لمجموعةٍ من الخبرات المكتسبة من جهة، ولوجود مسالك عصبية خاصة بكل منهم من جهةٍ أخرى، وهذا يدل على أن كلًا منا يتفوق في حل نوعٍ محددٍ من المشاكل!

وكما تتخيل، فإن حلّ الأحجيات -باعتبارها عملًا رياضيًا- يتطلّب بشكلٍ خاص التفكير التنظيميّ.

وقد نظن أنّ وجود الميل التنظيمي للدماغ يعني بالضرورة كفاءةً عاليةً في الرياضيات، غير أنّ العلم لم يجزم أمره في ذلك بعد!

لاحظت العالمة النفسية (باولا بريسان – (Paola Bressan من جامعة بادوفا في إيطاليا غياب الأدلة الحاسمة في هذا الموضوع، وإنّ الدراسات القليلة التي أُجريت في هذا الصدد كانت بلا جدوى.

تقول بريسان: «تم اختبار وجود هذه العلاقة (بين التفكير المنطقي والقدرة الرياضية) مرتين، وجاءت النتائج مخيبة للأمل».

وتضيف: «ما زلت فضولية، وأشعر بقليلٍ من الشك أيضًا حيال النتيجة المُخيّبة التي وصلنا إليها، ولذلك أجريتُ اختبارًا شمل 200 طالبٍ جامعيّ، وطلبت منهم إخباري كيف يرون أنفسهم من حيث مهاراتهم الرياضية، ومَلَكاتهم التنظيمية، إضافةً إلى تمكّنهم من توظيف الحساب في حل مشاكلهم».

وقد جاءت النتائج مطابقةً لما يمكن توقّعه، فطلاب العلوم التي تعتمد على الرياضيات، كالهندسة والفيزياء، يرجّحون التفكير التنظيمي على العاطفة، وأمّا طلاب علم النفس، فهم يرجّحون العاطفة على تفكيرهم التنظيميّ.

وبشكلٍ يماثل ما توصّلت إليه دراساتٌ سابقةٌ، وجدت (بريسان – Bressan) أنّ الرجال أفضل من النساء في الرياضيات.

وعمومًا، يميل الرجال إلى التنظيم أكثر من النساء، وبأخذ القدرات التنظيميّة للرجال بعين الاعتبار، يصبح تفوّقهم الرياضي أمرًا متوقّعًا، ما يشير إلى وجود علاقةٍ فعليّةٍ بين المهارات الرياضيّة والقدرات التنظيميّة.

وحتّى لو كانت هذه النتائج بديهية، فإنّها لا تزال تدعم فرضيةً كثُر عليها الجدل.

شملت التجربة السابقة طلاب الجامعة الذين يشتركون تقريبًا بخلفياتهم ويتشابهون فيما بينهم إلى حدٍّ ما، ما جعل تفسير نتائج التجربة السابقة أكثر صعوبةً مما بدت عليه.

وإنّ تطبيق نتائج التجربة السابقة على مرضى التوحد يُعد تسرّعًا كبيرًا، ولكنه لا يخلو من بعض الصحة. دعم البحث السابق الفكرة القديمة والقائلة إنّ إصابتك بالتوحد ستزيد من مهارتك الرياضية.

ومن جهةٍ أخرى، هناك فرضياتٌ تقول إنّ مرضى التوحد لديهم ميلٌ للمبالغة في التنظيم والتصنيف، ما يجعلهم مقاومين للتغيّر، وبالتالي سيركّزون عمدًا على تصرفاتٍ نمطيّةٍ مُحدّدةٍ.

هذا لا يعني بالضرورة أنّ إصابتك بالتوحّد تجعل من الصعب عليك الشعور بالآخرين، وتقلّل من مقدراتك الاجتماعية، رغم أنّ المصابين بالتوحد يواجهون عادةً صعوبات في المهارات الاجتماعية والتواصل مع الناس.

ما يثير الاهتمام، أنّ الكثير من مرضى التوحد والذين لديهم مهارات رياضيّة مميّزة وحسٌ عالٍ بالأرقام، يواجهون صعوبةً في الرياضيات، ولاسيّما عند صياغة المسألة الرياضيّة بطريقةٍ عمليّةٍ مرتبطةٍ بالحياة والواقع المُعاش.

وبأخذ أهميّة الرياضيات في تطوير قدرات التفكير العاطفيّة والتنظيميّة، فإنّ ذلك سيعطي المعلّمين طرقًا لمساعدة وتطوير قدرات جميع الطلاب، وليس فقط المصابين بالتوحد.

وتقول (بريسان – Bressan): «من وجهة نظرٍ عمليّة، هذه الدراسة تؤكّد أنّه بإمكاننا جعل الأطفال يتعلّمون، وربّما يحبون الرياضيات، من خلال تطوير شغفهم ومحبتهم للتصنيف والتنظيم عن طريق الألعاب والنشاطات المختلفة».

وتضيف: «أعتقد أنه هدفٌ يستحق المتابعة».


  • ترجمة: عيسى ضومط
  • تدقيق: تسنيم المنجّد
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر