ما هو التكاثف الفرميوني
تعلّمنا في السابق أنّ المادة توجَد بثلاثِ حالات: الصلبة والسائلة والغازية.

لكن هذه المعلومة لم تكن صحيحةً تمامًا، يوجَدُ على الأقل ستُّ حالاتٍ للمادة: صلبة وسائلة وغازية وبلازما وبوز -أو مُكثَّفُ بوز-آينشتاين- وحالةٌ جديدة هي “تكاثف الفرميونيات”، والذي اكتشفهُ عُلماءٌ من ناسا.

تقول الفيزيائية من جامعة كولورادو – ديبورا جين وهي إحدى مسؤولي مجموعةِ العلماء التي اكتشفت الحالة: «يعملُ فريقي بكاملِ جهودِه، ويقودُ عملَهُ الجاد المُتعة والتحدّي للاكتشاف».

يُمكن لمُعظم طلاب المدرسة الحديث عن خصائص الحالات العادية للمادة، الصلبة والسائلة والغازية.

تُقاوم الحالةُ الصلبة بدورها التشوُّه، حالةٌ تجعلُ المادة صلبةً وقابلةً للانهيارِ عند تعريضها لقوى عالية.

أمّا بالنسبة للحالة السائلة، فَمِنَ الصعب ضغطها، وتتصرف بانسيابية وتأخذُ شكلَ الوعاءِ الموضوعةِ فيه.

وبالاختلافِ عن الحالاتِ السابقة من ناحية الكثافة، فإنّ الغازات تُعتبرُ الأقلّ كثافةً بينها، يسهُل ضغطها وتملأ الوعاء الموضوعةَ فيه كاملًا.

أمّا الحالة الرابعة للمادة -والتي لم ندرسها بشكلٍ موسّع في المدرسة- هي البلازما، تُشبه الغاز، وتتكوّن من الذراتِ التي انقسمت مكوّنةً أيونات وإلكترونات.

أقربُ مثالٍ لفهمِ حالةِ البلازما هي الشمس، ومُعظم المادةِ الموجودةِ في كونِنا المعروف.

تمتاز البلازما بحرارتها المُرتفعة ما يُجبرنا على حِفظها في قربٍ مغناطيسية.

أمّا الحالة الخامسة للمادة، فهي مُكثَّف بوز-آينشتاين (ويُرمز لها بالرمز BEC – Bose-Einstein condensate)، اكتُشفت في عام 1995، وتظهرُ عند تبريدِ الجُسيمات المُسمّاة بالبوزونات إلى درجات حرارةٍ منخفضة. تندمجُ البوزونات الباردة لتُشكّل جُسيمًا أُحاديًّا يُشبه الموجة أكثر من المادة.

في حالةِ بوز، تكونُ المادةُ هشّةً، ويعبرُ الضوءُ من خلالها بسرعةٍ بطيئة.

أما حالة التكاثف الفرميوني، فما تزال مُعظم خصائصها الأساسية -حتى نشر هذا الاكتشاف- مجهولةً تقريبًا.

ما نعرفه أنّها حالةٌ تصلها المادة عند درجات حرارة منخفضة جدًا.

فقد كَوّنت جين هذه الحالة عبرَ تبريدِ نصف مليون ذرّة من عنصر بوتاسيوم -40 إلى درجةِ حرارةٍ أقل من جزءٍ من مليون درجة فوقَ الصفر المُطلق (الصفر المُطلق = 0 كلفن = -273 سيلسيوس). وما لاحظهُ العلماء أنّ المادةَ تتدفق بلا لزوجة.

وتقول جين: «عند اكتشافِ حالةٍ جديدةٍ من المادة، نحتاجُ إلى فترةٍ لفهمِ خصائصها».

ترتبطُ حالةُ التكاثف الفرميوني بحالةِ مكثفات بوز-آينشتاين، إذ تتكونان من ذرّاتٍ مُتكتّلة عند درجات حرارةٍ منخفضة لتُشكِّلَ جسمًا واحدًا.

وفي حالةِ مكثفات بوز-آينشتاين تُسمى الذراتُ بالـ “بوزونات”، وفي حالةِ التكاثف الفرميوني تُسمى بالـ “الفرميونات”.

فما هو الفرق؟

تُصنّفُ البوزونات على أنّها اجتماعيّة: تميلُ إلى التجمّع مع بعضها البعض. وكقاعدةٍ عامّة: أيُّ ذرةٍ مجموعُ عدد إلكتروناتها وبروتوناتها ونيوتروناتها زوجي تكوّن بوزونًا، وذرات الصوديوم العاديّة هي أفضلُ مثالٍ على البوزونات.

وعلى العكسِ تمامًا، فالفرميونيات تُعتَبَر غيرَ اجتماعية، فهيَ ممنوعةٌ من التجمُّع معًا في نفسِ الحالة الكميّة (بحسبِ مبدأ باولي للاستثناء في ميكانيكا الكم).

ويُمكننا وضعُ قاعدةٍ عامة للفرميونيات: بأنّ أيّ ذرّةٍ مجموعُ عدد إلكتروناتها وبروتوناتها ونيوتروناتها فردي تكوّن فرميونًا، ومثالٌ عليها هي ذرة البوتاسيوم -40.

وجدت جين وفريقها طريقةً لمعالجةِ فرديّة الفرميونات، وذلك باستخدامِ مجال مغناطيسيّ بحذرٍ شديد، الذي يعملُ كضاغطٍ جيّد لها. يُجبر المجالُ المغناطيسيّ الذرّات الوحيدة على التجمّع مع بعضها بعضًا، ويُمكنُ التحكّم بقوّة الرابطة بين الذرّتين من خلالِ تعديلِ المجال المغناطيسيّ.

تحتفظُ ذرّاتُ البوتاسيوم ضعيفةُ الارتباطِ ببعضِ خصائصِها الفرميونيّة، لكنّها تتصرفُ تصرُّفَ البوزونات في ذاتِ الوقت. تندمجُ أزواجُ الفرميونات مع بعضها لتُشكِّلَ في النهايةِ تكاثُفًا فرميونيًا.

تتوقّع جين أنّ طريقة اندماجِ الذراتِ في حالةِ التكاثف الفرميوني مشابهةٌ لظاهرة الاندماجِ المعروفةِ في ذراتِ هيليوم -3 في حالتِه السائلة، وهو مائعٌ فائق – Superfluid.

تتدفق الموائع الفائقة بلا لزوجة، وهو ما نتوقّعه في التكاثف الفرميوني.

كما توجدُ ظاهرةٌ مُشابهةٌ لما سبق – الموصليّة الفائقة.

إذا وُجِدَ موصل فائق، فإنّ أزواجَ الإلكترونات (تُعتبرُ الإلكترونات هنا فرميونات أيضًا) تستطيعُ التدفق عبره دونَ وجودِ مُقاومة.

حاليًا، يوجدُ اهتمامٌ اقتصاديٌّ وبيئيٌّ كبير بموضوعِ الموصليّة الفائقة، إذ أنّ إيجاد مادة تنقلُ الكهرباء دون فقدان للطاقة وبطريقةٍ مُحافظةٍ على البيئة سيؤدي إلى ثورةٍ في عالمِ المواصلاتِ والإلكترونيات وغيرها. لكن للأسف، فإنّ الموصليّة الفائقة موضوعٌ يصعبُ فهمه ودراسته حتى الآن.

لكن، قد تُساعد حالة التكاثف الفرميوني في هذا المجال.

حتى نشر هذا الاكتشاف، فإن أفضل درجةِ حرارةٍ توصّل إليها العالم وتظهر عندها الموصليّة الفائقة هي -135 درجة سيلسيوس؛ ما يستلزمُ مواد كالنيتروجين السائل لتبريدِ الأسلاك والمُعدّات المُستخدمة في نقل الكهرباء، ما يجعلُ المُهمّة غيرَ مجدية اقتصاديًا وعمليًا.

وبالطّبع، سيُفّضل المهندسون العمل مع المواد فائقة الموصلية عند درجة حرارة الغرفة.

وتوضّح جين: «إنّ القوةَ الكامنةَ في الأزواجِ المكوّنة للتكاثف الفرميوني تُوافق موصلًا فائقًا بحرارةِ الغرفة، ما يجعلني متفائلةً أنّ الفيزياء الأساسيّة التي نتعلمها عن التكاثف الفرميوني ستساعد الآخرين على تصميمِ مواد فائقة الموصليّة عندَ ظروفٍ أفضل»..

تستخدم ناسا المواد فائقة الموصلية في العديد من التطبيقات.

على سبيل المثال، يمكن تطوير الجيروسكوبات التي تساعد الأقمار الصناعية على البقاء في اتجاهها من خلال استخدام محمّلات مصنوعة من مغانط فائقة الموصلية (وهي التي تسمح بحركة جزئية بين جزئين أو أكثر)، ما يزيدُ من دقّتها.

ولأنّ المواد فائقة الموصليّة تستطيعُ نقل نفسِ كمية التيار التي ينقلها سلك النحاس بأسلاك صغيرة جدًا، يُمكن تصميم مُحرّكات كهربائية من مواد فائقة الموصلية بحجمٍ أصغر من المحرك العادي بنحوِ 4-6 مرات، ما يوفّر الحجم والوزن المُستخدمَين.

ويتأمل البعضُ أنّ المواد فائقة الموصليّة ستلعبُ دورًا هامًا في بناءِ قاعدةٍ دائمةٍ على القمر.

إضافةً إلى ذلك، ستكونُ المواد فائقة الموصليّة خيارًا ممتازًا لتوليد ونقل الطاقة بأقصى كفاءةٍ مُمكنة، وذلك لأنّ درجات الحرارة تنخفض لدرجةِ -173 سيلسيوس في الليلة القمريّة الطويلة.

وخِلال الرحلات التي تستغرقُ شهورًا إلى المريخ، يُمكن تصميم آلة رنين مغناطيسي من موادَ فائقة الموصليّة لتساعد على مراقبة الحالة الصحية للفريق المُسافر.

باختصار، فإنّ التكاثف الفرميوني سيأخذنا إلى أماكن كثيرة حلمنا بالوصول من قبل، المريخ والقمر، ومن يعلم أين؟

مُلاحظات:

إنّ الخطوة الأولى لتبريدِ شيءٍ لدرجات حرارة منخفضة جدًا هي تقنية التبريد بالليزر، التي تُبرّد الغاز إلى أعشارٍ من الدرجة فوق الصفر المطلق (ما يقارب 0.1 كيلفن).

ثُمّ توضع الذرات في مجال مغناطيسي، الذي يسمحُ للذرات عالية الطاقة بالهروب من المجال -نُشبّهها بالعرقِ الذي يجفُّ عن الجلد- ثُمّ يتم تبريدُ الذرات الباقية إلى أجزاء من مليار من الدرجة (ما يقارب 100 نانو كيلفن).

أمّا الخطوة الأخيرة، وهي الإضافة الجديدة التي عملت عليها جين عام 1999، يتم فيها نقل الذرات المُبرَّدة إلى “فخٍّ بصري – Optical Trap” (وهو آلةٌ تُطلقُ ليزرًا قويًّا ومُركّزًا لخلقِ قوّة جذبٍ أو تنافر)، ويتم استكمال التبريد والتبخُّر.

فيما بعد تصلُ الذرات إلى درجة الحرارة الحرجة، التي يتحوّل عندها البخارُ إلى مائعٍ فائق، عند درجةٍ تُقارب 50 نانو كيلفن.

يُمكن تطبيقُ مبدأ التبريد بالليزر بطريقةٍ مُثلى على العناصر الموجودة في العمود الأول من الجدول الدوري.

سبعةُ عناصر، تمتلكُ من بينها عنصرين مُستقرّين (ليثيوم -6 وبوتاسيوم -40). ويتمُ استخدام العنصرين في الأبحاث المتعلّقة بالتكاثف الفرميوني.

  • ترجمة: محمد يامين
  • تدقيق: أحلام مرشد
  • تحرير: كارينا معوض
  • المصدر