لا شك أنّك شاهدت من قبل صورًا لعلماء يحدقون عبر المجهر إلى أشياء غير مرئية بالعين المجردة. في الوسط العلمي، لا يمكن الاستغناء عن المجهر لفهمٍ أدق للحياة.

لا غنى عن المجهر في ميدان التكنولوجيا الحيوية والطب، مثلًا في حالات الاستجابة لأمراض معدية مثل كوفيد-19. مع ذلك، يبدو أن أفضل المجاهر الضوئية يشوبها خلل أساسي؛ ضوء الليزر الساطع المستخدم لإضاءة الأشياء الصغيرة يمكن أن يدمرها أيضًا.

في بحث نُشر في مجلة Nature اليوم، أظهر فريق من الباحثين الأستراليين والألمان أن تقنيات ميكانيكا الكم تقدّم حلًا. لقد صمّموا مجهرًا كميًا يمكنه فحص العينات البيولوجية برفق، وهو ما يسمح بمراقبتها ورؤيتها، الأمر الذي كان مستحيلًا لولا ذلك.

يُعد إنشاء مجهر مقاوم للتلف مثل هذا المجهر علامةً فارقةً طال انتظارها في مجال تكنولوجيا الكم الدولية. إنه يمثل خطوةً أولى في حقبة جديدة ومثيرة من تاريخ التصوير المجهري وتكنولوجيا الاستشعار ككل.

مجهر كمومي جديد يكشف عن عوالم رؤيتها مستحيلة بأدواتنا الحالية - كيف يستفيد الكجهر الكموميا من مبادئ ميكانيكا الكم في حل مشاكل المجهر الليزري

مشكلة المجهر الليزري:

للمجهر تاريخ طويل، إذ يُعتقد أنه اختُرع لأول مرة من قبل صانع العدسات الهولندي «زاكرياس يانسن» في مطلع القرن السابع عشر. ربما استعان زاكرياس بالمجاهر لتزوير العملات المعدنية، قبل أن تُستخدم لاحقًا في اكتشاف البكتيريا والخلايا وجميع الأحياء الدقيقة.

قدّمت أحدث تكنولوجيا ليزر نوعًا جديدًا مكثّفًا من الضوء، ما مكّن العلماء من خلق نهج جديد في الفحص المجهري، وهو ما سمح برؤية عالم الأحياء بتفاصيل رائعة ودقيقة للغاية، كالتحديق في عالم أصغر بعشرة آلاف مرة من شعرة إنسان.

مُنحت جائزة نوبل للكيمياء عام 2014 للأميركيين «إريك بيتزيغ» و«وليام مورنر» والألماني «شتيفان هيل» لتحسنيهم قوة المجهر ليتمكن من رؤية تفاصيل متناهية الصغر وتغيير فهمنا للخلايا والجزيئات مثل الحمض النووي.

مع ذلك، تواجه مجاهر الليزر مشكلةً كبيرةً. الجودة التي تجعلها ناجحة -شدتها- هي أيضًا نقطة ضعفها. تستخدم أفضل مجاهر الليزر ضوءًا أكثر سطوعًا بمليارات المرات من ضوء الشمس، وهو ما قد يتسبب في إحداث حروق خطيرة على العينات المدروسة!

تحت مجهر الليزر، قد تتلف العينات البيولوجية أو تموت في ثوان.

«الفعل الخفي عن بعد» هو الحل:

المجهر الكمومي يتفادى هذه المشكلة. إنه يستخدم خاصيةً تسمى «التشابك الكمومي»، التي وصفها ألبرت أينشتاين بأنها “فعل خفّي عن بعد”.

التشابك الكمومي هو نوع غير عادي من الارتباط بين الجسيمات، في حالة المجهر يكون بين الفوتونات التي تشكل شعاع الليزر. يُستخدَم للتحكم في سلوك الفوتونات التي تغادر المجهر من أجل أن تصل إلى مكشاف بطريقة منظمة للغاية، ما يقلل من الضوضاء.

في حين تحتاج المجاهر الأخرى إلى زيادة شدة الليزر لتحسين وضوح الصور. من خلال تقليل الضوضاء، فإن هذا المجهر قادر على تحسين الوضوح دون زيادة الشدة؛ يمكن استخدام ليزر أقل كثافةً لإنتاج نفس الصورة.

تمثَّل التحدي الرئيسي في إنتاج تشابك كمومي ساطع بدرجة كافية حتى يلتقطه مجهر الليزر. نجح العلماء في ذلك من خلال تركيز وابل من الفوتونات في نبضات ليزر لا يتجاوز طولها بضعة أجزاء من المليار من الثانية. أنتج هذا تشابكًا كان أكثر سطوعًا ألف مليار مرة مما كان يستخدم سابقًا في التصوير.

قدّم ضوء الليزر المتشابك المستخدم في المجهر وضوحًا أفضل للصورة بنسبة 35٪؜ دون إتلاف العينة. وعند استخدام المجهر لتصوير اهتزازات الجزيئات داخل خلية حية، سمح هذا برؤية الهيكل التفصيلي الذي كان يمكن أن يكون غير مرئي باستخدام الأساليب التقليدية.

يمكن رؤية التحسن في الصور أدناه. تُظهر هذه الصور الملتقطة بالمجهر اهتزازات جزيئية داخل جزء من خلية الخميرة. تستخدم الصورة اليسرى التشابك الكمومي، بينما تستخدم الصورة اليمنى ضوء الليزر التقليدي. كما هو موضح، فإن الصورة الكمومية تكون أكثر وضوحًا، إذ تكون المناطق التي تخزّن الدهون داخل الخلية (النقاط المظلمة) وجدار الخلية (البنية شبه الدائرية) أكثر وضوحًا.

مثال عن التحسين الممكن باستخدام تقنية التشابك الكمومي في التصوير المجهري. حقوق الصورة: وارويك باون.

نحو غدٍ تسيطر عليه تطبيقات تقنيات الاستشعار الكمومي:

يُتوقَع أن تكون لتقنيات الكم تطبيقات ثورية في الحوسبة والاتصالات والاستشعار. تقدر منظمة الكومنولث للبحوث العلمية والصناعية الأسترالية (CSIRO) أنها ستخلق صناعةً عالميةً بقيمة 86 مليار دولار أسترالي بحلول عام 2040.

يدعم التشابك الكمومي العديد من هذه التطبيقات. يتمثل التحدي الرئيسي للباحثين في تكنولوجيا الكم في إظهار أنها تقدم مزايا مطلقة مقارنةً بالطرق الحالية.

يُستخدم التشابك الكمومي فعليًا من قبل المؤسسات المالية والهيئات الحكومية لضمان الأمن. إنه أيضًا في قلب أجهزة الكمبيوتر الكمومية، إذ أظهرت شركة جوجل في عام 2019 أن بإمكانها إجراء حسابات قد تكون مستحيلةً مع أجهزة الكمبيوتر التقليدية الحالية.

وتُعد المستشعرات الكمية آخر قطعة من أحجية التصوير المجهري، إذ يُتوقع أن يحسّنوا إلى حد كبير كل جانب من جوانب رؤيتنا للعالم، من تنقل أفضل إلى رعاية صحية وتشخيص طبي أدق.

يُذكر أنّ التشابك الكمومي ثُبّت منذ حوالي عام في مراصد موجات الجاذبية على نطاق كيلومتر، وهذا ما يسمح للعلماء باكتشاف الأجسام الضخمة البعيدة في الفضاء.

ختامًا، فإن التشابك الكمومي يُحسّن من أداء أجهزة الاستشعار ذات مقاييس الحجم العادية وفي التقنيات السائدة، وقد تكون لهذا نتائج كبيرة، ليس فقط في الفحص المجهري، ولكن أيضًا في العديد من التطبيقات الأخرى، مثل نظام تحديد المواقع والرادار والملاحة.

اقرأ أيضًا:

التشابك الكمومي عبر الزمن

ما هي ميكانيكا الكم ؟ تفسير ميكانيكا الكم وتبسيطها

ترجمة: رضوان بوجريدة

تدقيق: أحلام مرشد

المصدر