ميكروب صناعي خارق يقاوم جميع الفيروسات المعروفة


لم ينتهِ الأمر بعد، ولكن إن حصل ذلك، فسيكون أعظم عمل تمّ في مجال الهندسة الجينية حتى الآن.

لقد تمكن فريق من العلماء في الولايات المتحدة جزئياً من إعادة تشفير بكتيريا الـ E.coli لتعمل بشفرةٍ جينية مختلفة عن كل الكائنات على الأرض. إن ذلك يعني أكثر من 62,000 تغييراً بالجينوم.
يقول قائد الفريق جورج شيرش (George Church) في كلية الطب بجامعة هارفارد: “نحن نعمل على مشاريع تقول الفرق الأخرى أنها مكلفة بشكل كبير، أو بالأحرى مستحيلة” إذ يعتبر هذا المشروع خطوةً نحو أعمالٍ أكثر طموحًا.

إن الـ E.coli المعاد تشفيرها سيكون من الممكن استخدامها في جميع المجالات الصناعية. وستكون أفضل من عدة نواحٍ، إذ أنها مقاومة للفيروسات ولا تستطيع تبديل الجينات مع كائناتٍ أخرى وتستطيع صناعة بروتينات ليست موجودة في الطبيعة.

مكعبات البناء

إن البروتينات العادية لديها الأحماض الأمينية الطبيعية العشرون كمكعباتٍ للبناء، ولكن الـ E.coli المعاد تشفيرها ستمتلك أربعة أحماض أمينية صناعية إضافية لصناعة البروتينات. “هذا يشكل تحديًا لإبداع المجتمع العلمي” بحسب مارك لاجوي عضو الفريق من جامعة واشنطن.

إن جعل كائنٍ ما مضادًا للفيروسات يعطيه أفضليةً كبيرة، ولكن الـ E.coli المعاد تشفيرها لن تكون قادرةً على النمو إلا في حال إطعامها أحد الأحماض الأمينية الصناعية وبالتالي لن تكون قادرةً على الانتشار. “إن الاحتواء البيولوجي من أول أولوياتنا” بحسب شيرش.

يرغب شيرش أساسًا في صنع خلايا جذعية لحيوانات المزرعة والإنسان مقاومة لجميع الفيروسات المعروفة. هذه الخلايا سيمكن استخدامها في إنتاج اللقاحات والأعضاء المزروعة. إنه من الصعب جدًا جعل الناس مقاومين للفيروسات والسرطان والتقدم بالعمر غير أنه يمكن خلق أنسجة وأعضاء بهذه المواصفات للزرع.

إن الميكروبات المُهندَسة جينيًا تُستخدم حاليًا في الصناعة أكثر من أي وقت مضى. في البدء كان بالإمكان إجراء تعديلات طفيفة فقط. في سبعينيات القرن الماضي على سبيل المثال تمت إضافة جين بشري على الـ E.coli ليتم استخدامها لتصنيع الإنسولين لمرضى السكري.

في يومنا هذا تتم إضافة العشرات من الجينات لصنع كائنات حية دقيقة والتي يمكنها صنع كل شيء من منكّهات الزعفران والفانيليا إلى مضادات الملاريا والأفيون.

مشكلة في الصناعة؟

يكمن القلق في الميكروبات المعدلة بشكل كبير بأنها قد تنتقل من المصانع أو تبدّل الجينات مع ميكروبات خطيرة. تخيل مثلاً لو أن ميكروبًا ينتج عقارًا كالأفيون بدأ باستيطان الأمعاء البشرية.
الفيروسات أيضاً قد تدمر الكميات المُعدة إن أصابت الأحواض التي تنمو فيها الميكروبات. “لا تحب الشركات التحدث عن هذا الموضوع” بحسب شيرش.

إن تغيير الشفرة الجينية للميكروبات قد يحل هذه المشاكل نظرياً على الأقل. ففي الجين الذي يشفر لبروتين معين، كل ثلاثة أحرف DNA متتالية – تدعى كودون ثلاثي triplet codon – قد تحدد ما هو الحمض الأميني الذي يجب إضافته للسلسلة تالياً أو تأمر بالتوقف عن تصنيع البروتين عندما يصبح كاملاً.

هناك أربعة أحرف مختلفة للـ DNA وهي (A, T, G, C) ينتج عنها 64 كودون ثلاثي مختلف (AAA, AAT.. إلخ). ولكن بما أن الأحماض الأمينية عددها عشرون فقط، فهناك العديد من التكرار. مثلاً TAG و TAA و TGA كلها تأمر بالتوقف.

لو أن كل TAG في الجينوم تغير إلى TAA أو TGA، فلن يغير ذلك من بنية البروتين، ولكنه سيطلق كودون الـ TAG ليصبح بالإمكان استعماله في تحديد الحمض الأميني الصناعي.
لقد كان شيرش عضوًا في فريقٍ قام بهذا سابقًا، وقد انتهوا في 2013 من تعديل جينوم سلالة E.coli لاستبدال كل واحدة من 314 TAG تكررت في الجينوم.

في السنة الماضية قام العلماء بالعمل لإظهار أن الـ TAG المتاحة يمكن استخدامها لتحديد أيٍّ من الأحماض الأمينية الصناعية. بالإضافة لذلك قاموا بتعديل الجينات بحيث لا تعمل البروتينات الأساسية إلا في حال تضمنت أحماضًا أمينية صناعية عند نقاط معينة. ذلك يعني أن سلالة الـ E.coli هذه لن تستطيع النمو إلا في حال تضمنت البيئة المهيئة لها هذه الأحماض الأمينية الصناعية. بكلمات أخرى، لن تستطيع هذه البكتيريا الهروب من المعامل أو المختبرات.

قطعة قطعة

لقد أعلن فريق شيرش الآن عن طموحهم المستقبلي: تغيير سبع كودونات في الـ E.coli. ولأن هذا يتطلب أكثر من 62,000 تغيير في الـ DNA، فلا يمكن فعل ذلك بتقنية التعديل الجيني (gene editing). بدلاً من ذلك قام الفريق بتصميم الجينوم على كمبيوتر وثم صنع الـ DNA بقطع صغيرة يبلغ طول الواحدة منها حوالي 2000 حرف.

ثم بعد ذلك يتم لصق هذه القطع الصغيرة لصنع 87 قطعة أكبر طول الواحدة منها 50,000 DNA. والخطوة النهائية ستكون عبر جمع هذه القطع سوية لخلق جينوم E.coli كامل من أربعة ملايين حرف. ولكن قبل ذلك كله، ما زال شيرش وفريقه يتأكدون من أن كل الجينات تعمل عبر إدخالها في بكتيريا حية وإلغاء التسلسل المساوي.

وكما كان متوقعاً، فتغيير الكودونات قد يكون له آثار مميتة. مثلاً، تعديل واحد على جين أساسي قام بتغيير عمل بروتين يتحكم بنشاط الجين. ولكن حتى الآن، تم اكتشاف 13 خللاً مميتًا فقط في الـ 2200 جين التي تم اختبارها حتى الآن، أكثر من النصف بقليل، وكل هذه العيوب تم تصحيحها.

متى سينتهي العمل بهذا؟ يراهن الفريق على الانتهاء بين مدة تتراوح بين أربعة أشهر وأربع سنوات، بحسب شيرش. ولكنّ بعض المشاكل غير المتوقعة قد تطيل مدة العمل.
إن نجح هذا الأمر، فلن يكون فريق سيرش أول من يخلق بكتيريا تم تصنيع جينومها من الصفر، فقد قام بهذا من قبل فريق في J.Craig Venter Institution في كاليفورنيا.

الحد الأدنى من الجينوم

لكنّ فريق فينتر (Venter) قام بصناعة ميكروب بالحد الأدنى من الجينوم. وأن تغيير الشفرة الجينية التي يقوم بها فريق شيرش هو عمل أكثر تحدياً بكثير.

وبالرغم من أن سبع كودونات تم تعديلها بالفعل، إلا أن خصوصيات الشفرة الجينية تسمح باستخدام أربعة فقط لتحديد الأحماض الأمينية الصناعية. يقول لاجوي: “إن الشفرة الجينية غريبة”.

يقول شيرش: “إن الـ E.coli المعاد تشفيرها ستكون متاحةً بالمجان للباحثين الآخرين. وسيكون للشركات تصريحٌ باستخدامها بشكل غير حصري”.

إن الكثيرين يأملون نجاح هذا المشروع، لأن تغيير سبع كودونات سيجعل البكتيريا مقاومة للفيروسات. إن الفيروسات لا تستطيع تصنيع بروتينها الخاص وبدلاً من ذلك تقوم بالسيطرة على الخلية التي تستوطنها. إن الـ E.coli المعاد تشفيرها ستبدأ بإنتاج البروتينات الفيروسية إن تمت إصابتها، ولكن سيكون هناك العديد من الأخطاء بهذا البروتين بشكلٍ لن يُتمّ إنتاج أي فيروس جديد آخر.

إن جعل الحيوانات مقاومة للفيروسات قد يكون تحديًا أكبر بكثير. فجينوم البشر مثلاً عبارة عن 6 مليارات حرف مقارنة ب 4 مليارات عند الـ E.coli.

غير أن فريقًا من البيولوجيين ومن بينهم شيرش يحاولون تحصيل 100 مليون دولار لصناعة جينوم بشري كامل من الصفر.

إن الخطة الأساسية لا تتضمن تعديل الشفرة الجينية، ولكن إن نجح هذا المشروع فسيمهّد الطريق للقيام بذلك.


ترجمة: لمى عدناني
تدقيق: جعفر الجزيري
المصدر