نتائج جديدة قد تجيبنا على اكثر المسائل تعقيدا في النموذج القياسي للفيزياء


من بين الكثير من الأسئلة التي لم يتم الإجابة عنها وتقف كعقبة في وجه النموذج القياسي للفيزياء، جاعلة منه غير قادر على تفسير هذا الكون، لغز عدم تماثل المادة والمادة المضادة، وهو أحد أصعب هذه الأسئلة.

كان على المادة والمادة المضادة الناتجة من الانفجار الكبير أن تفني إحداها الأخرى، مكونة بذلك كون يكاد يخلو من الجزيئات، لكن مع كل هذا ما زلنا على قيد الحياة. وباستخدام كاشف مصادم الهدرونات الكبير في مختبر سيرن للأبحاث قد تكون فرصتنا الكبرى في شرح لغز وجودنا في هذا الكون.

كخلفية لمشكلة عدم التماثل في كوننا علينا أن نعلم أن قوانين الفيزياء تتوقع أن لكل جسيم من المادة العادية، جسيم يماثله لكنه مضاد له.

هذا يعني أن لكل إلكترون مشحون بالشحنة السالبة، يوجد الكترون مشحون بالشحنة الموجبة، وأن لكل ذرة هيدروجين اعتيادية، توجد ذرة هيدروجين مضادة.

وإذا حدث والتقى جسيم مضاد مع جسيم اعتيادي، يبيد أحدهما الآخر محررين بذلك طاقة على شكل ضوء تبدأ المشكلة عندما نرى أن النموذج القياسي للفيزياء يفترض بأن الانفجار الكبير أنتج كميات متساوية من جزيئات الباريون في حالة المادة والمادة المضادة، والتي نطلق عليها تسمية المادة الباريونية والمادة الباريونية المضادة.

والباريونات جسيمات تحت ذرية أساسية جداً، لأن تلك الباريونات هي البروتونات والنيوترونات التي تشكل معظم المادة المرئية في هذا الكون.

والحقيقة أن الكون انتهى إلى وجود المادة الباريونية أكثر من المادة الباريونية المضادة، لأنه لو نتجت كميات متساوية منهما عن الانفجار الكبير، كان يجب أن تمحو إحداها الأخرى بصورة شبه تامة، لنصل إلى كون يكاد يخلو من الجزيئات وتجوب فيه الإشعاعات.

ويحتسب النموذج القياسي للفيزياء شيئاً ضئيلًا من عدم تماثل جسيمات الباريون، لكن ذلك لا يفسر الوجود المفرط للمادة الباريونية في وقتنا هذا.

فكيف تكونت كل هذه المادة؟

إن خرق مثل هذا النوع من التماثل في الكون يدل على أن قوانين الفيزياء غير متماثلة بين جسيمات المادة والمادة المضادة، ويحاول الفيزيائيون معرفة إلى أي مدى تختلف هذه القوانين، وهذا ما يعرف بظاهرة خرق التكافؤ-Charge Parity Violation.

وجدت أبحاث سابقة دليلاً على ظاهرة خرق التكافؤ في جسيمات ميزون (وهي واحدة من عائلة جسيمات هاردون) لكن كي نتنبأ بكمية المادة الموجودة في الكون اليوم، علينا إيجادها في الباريونات أيضاً.

يحاول العلماء لأكثر من نصف قرن إيجاد دليل على وجود خرق التكافؤ في الباريونات، ويعملون اليوم على كواشف مصادم الهادرونات الكبير في سيرن في سويسرا، ويبدو أنهم وجدوا شيئاً في النهاية.

استخدم الفريق المصادم الكبير لإنتاج كميات كبيرة من نوع معين من الباريونات يشار إليه بالأحرف الإنجليزية كالتالي «Λb0»، وكذلك الجسيم المضاد له «Λb0-bar»، ورصدوا أيضاً كيف أن كل باريون يضمحل إلى بروتون (أو بروتون مضاد) وكذلك إلى ثلاث جسيمات مشحونة يطلق عليها «البيونات» عند ضربها معاً.

يوضح الفريق ويقول: «إن هذه الظاهرة فريدة جداً من نوعها ولم يتم رصدها مسبقاً إطلاقاً.»

ويكمل الفريق بالقول: «النسب العالية الإنتاج من مادة الباريونات في مصادم الهدرونات الكبير والقدرات الخارقة لكاشف مصادم الهدرونات مكنتنا من تجميع عينة واحدة مقدارها 6000 اضمحلال».

والأمر المهم أن هذه الجسيمات تضمحل إلى عدة مكونات مستقلة، لأن أي اختلاف واضح أو عدم تماثل بين كميات باريونات المادة والمادة المضادة قد يكون ناتج خرق التكافؤ. وهذا ما وجده الباحثون بالضبط.

وفي تقرير للفريق يقول: «تظهر بيانات مصادم الهدرونات الكبير درجة كبيرة من اللاتماثل في الكميات الحساسة لخرق التكافؤ عند اضمحلال الباريون من نوع Λb0 و Λb0-bar، وتصل الاختلافات في بعض الحالات إلى عشرين بالمئة.»

وهذا شيء مثير للحماسة، خاصة أننا قد نكون على وشك حل واحدة من أكبر المعضلات في الفيزياء الحديثة … لكننا لم نفعل ذلك بعد!

ويخبرنا معهد سيرن للأبحاث أن الأهمية الإحصائية – طريقة الفيزيائيين في قياس احتمالية أن النتيجة لم تكن محض صدفة – هي من مستوى 3.3 من الانحرافات المعيارية، ولا يمكن عادة الادعاء باكتشاف جديد إلا عندما تصل هذه النسبة إلى 5 درجات من الانحرافات المعيارية.

عندما نأخذ بالحسبان النجاح الكبير الذي حققه مصادم الهدرونات الكبير في إنتاج ردود أفعال الباريونات هذه، من المحتمل أن تكون المسألة مسألة وقت حتى نرى النتائج في حالتيها، إما إثباتها أو رفضها.

وكما يوضح كريس لي في صحيفة آرس تيكنيكا أنه يوجد بصيص أمل للتمسك بهذا الرقم الساحر رقم 5، ويقول: «يتم تدقيق ومراجعة نتائج فيزياء الجسيمات بواسطة تحليلات إحصائية حذرة جداً، حيث لا يمكن أن يكون الاكتشاف كاملاً حتى تكون نسبة كون الاكتشاف ضربة حظ تقل عن واحد من مليون. لم نتمكن من تحقيق هذه النتيجة حتى الآن (حيث أنها الآن واحد من الألف).»

ويكمل كريس لي قائلاً: «إن هذه النتائج مشجعة، وبهذا المعدل الذي يولد فيه مصادم الهدرونات البيانات، نستطيع القول أن عدم التماثل يمكن أن يعزز أو يختفي كاملاً سريعاً، ولكن النتائج المعطاة فيما يخص الميزونات مؤكدة تمامًا، وسيكون غريبًا أن نكتشف أن هذه النتائج خاطئة.»

كل ما نستطيع قوله هنا دعنا نتابع ما يحدث، إذ ما زال الباحثون يعملون على تحليل قاعدة بيانات جديدة أكبر من السابق جمعها مصادم الهايدرونات الكبير. نأمل جميعاً ألا ننتظر مدة طويلة لنرى ماذا سيجدون.


ترجمة: رامي الرضوان

تدقيق: أحمد شهم شريف
المصدر