يتزامن ظهور نوع الإنسان المنتصب homo erectus (أول الرئيسيات التي تشبه البشر المعاصرين) بغرابة مع تغير جلي في النظام الغذائي لدى البشر القدامى. يتمثل هذا التغيير تحديدًا في زيادة استهلاك اللحوم؛ ما أدى إلى استنباط فرضية أن أكل اللحوم هو ما جعلنا بشرًا، إلا أن الرابط بين أكل اللحوم وتطور أدمغتنا قد يكون أكثر تعقيدًا مما ظن الباحثون سابقًا.

يُعَد الإنسان المنتصب من أقدم أشباه البشر، وقد تطور في أفريقيا قبل مليوني عام، وكان أفراد هذا النوع أطول من أشباه البشر الذين سبقوهم، لكن سيقانهم كانت أطول، وأذرعهم أقصر، وأدمغتهم أكبر حجمًا.

الفرضية

يمثل ظهور الإنسان المنتصب قفزةً تطورية عظيمة لأشباه البشر جميعًا، وقد أدت زيادة استهلاك اللحوم المتزامنة مع ظهوره -حسبما أظهر السجل الأحفوري- إلى وضع الفرضية التي تزعم أن اللحوم هي ما جعلتنا بشرًا، لتفسير أصول البشر المعاصرين H. sapiens.

بُنيَت الفرضية على أساس أن أكل اللحوم وفّر المغذيات اللازمة لنمو أدمغة أكبر حجمًا وإحداث تغيرات جسمية أدت في نهاية المطاف إلى نشوء البشر المعاصرين.

تُعَد اللحوم مصدرًا غذائيًا ذا قيمة غنية، وتحتوي اللحوم عمومًا على مواد مغذية أكثر من النباتات، فقد يكون أكل اللحوم هو ما أعطى أسلافنا الأفضلية التطورية؛ تفترض هذه النظرية أن طول الأجسام وسرعة الهضم وسهولته وزيادة حجم الدماغ جميعها ترجع إلى أكل اللحوم، ولكن بالطبع لا يتفق جميع العلماء مع هذا الافتراض.

لكن فريقًا بحثيًا أعاد تحليل بيانات قديمة في دراسة نُشرَت حديثًا في دورية بروسيدينغز التابعة للأكاديمية الوطنية للعلوم. كشفت هذه الدراسة أن الزيادة الملحوظة في أدلة أكل اللحوم في المواقع الأثرية قد تعكس زيادة اهتمام علماء الآثار بالأمر بدلًا من أن تكون أدلة حقيقية على تحوّل الإطار الزمني لتطور البشر، فعند تنقيب مجموعة أكبر من الحفريات في مكان ووقت ما، فإن من المنطقي أن نجد المزيد من الأدلة.

لذا، قد تكون نظرية «أكل اللحوم هو ما جعلنا بشرًا» مبنيةً على الانحياز عوضًا عن الحقيقة.

ما يظهره العلم

استهلك أسلاف البشر المعاصرين اللحوم إلى جانب النباتات، فقد عثر الباحثون على علامات جزارة (أيْ خدوش على عظام حيوانات مستخرجة) في حفريات يبلع عمرها 2.6 مليون سنة، وعثروا أيضًا على أدوات حجرية لفصل اللحم عن هيكل الحيوان العظمي، ما يشير إلى أن أسلافنا أشباه البشر الذين عاشوا في فترة ما قبل التاريخ كانوا على الأرجح يأكلون اللحوم منذ ذلك الوقت على الأقل.

وفقًا للسجل الأحفوري، ظهرت زيادة كبيرة في أكل اللحوم قبل مليوني سنة مع ظهور الإنسان المنتصب.

ظن العلماء عقودًا أن هذين التحولين ليسا مجرد مصادفة بل إنما مرتبطان جوهريًا، لذلك افترضوا أن النظام الغذائي الغني باللحوم حفز تطور خصائص الإنسان المنتصب الناشئة بفضل الأسلاف من أشباه البشر الذين كانوا يأكلون كثيرًا من اللحوم.

كان هذا بالفعل ما اعتقدته بريانا بوبينر -إحدى كتّاب الدراسة وعالمة أنثروبولوجيا في المتحف السميثسوني للتاريخ الطبيعي- إذ تقول: «لقد كنتُ واثقة في فرضية أن اللحوم جعلتنا بشرًا».

ولكن عندما أعادت بوبينر وفريقها تحليل بيانات قديمة مجمعة من 59 موقعًا أثريًا في شرق أفريقيا تعود إلى ما بين 2.6 و1.2 مليون سنة، لم يجدوا شيئًا!

حلل فريق بوبينر الحفريات بعد تقسيمها إلى مجموعات من مئة عام، مع ضبط عدد العينات من كل نقطة زمنية مرجعية باستخدام متغير وكيل proxy ووجدوا أن أدلة أكل اللحوم آخذة في الزيادة مع عدد العينات التي تمثل كل نقطة زمنية.

تقول بوبينر: «وجدنا أن احتمالية العثور على أدلة على أكل اللحوم تزداد بازدياد حجم العينة الحفرية»؛ أي أن النظرية السابقة قد تكون معطوبة بسبب التحيز في اختيار العينات، الذي يعني أنك عندما تبحث عن شيء ما، على الأرجح ستجده.

ترى بوبينر أن الميل في هذا التحليل الجديد يصبح أقل وضوحًا، وأن أكل اللحوم يتذبذب على نحو غير منتظم في مختلف المواقع الأثرية بعد بداية ظهوره في السجل الأحفوري منذ 2.6 مليون سنة.

ما المهم في المسألة؟

تفاجأت بوبينر من النتائج تمامًا، إذ إن العديد من دراساتها السابقة بُنيَت كذلك على الافتراض السابق.

أشارت بروبينر أيضًا إلى أنه ما تزال هناك وفرة من الأدلة على أن أسلافنا كانوا يأكلون اللحوم وأن أكل اللحوم ساهم على الأرجح في أصولنا التطورية، ولكنها أضافت أن المسألة على الأغلب أكثر تعقيدًا من افتراض أن شيئًا وحيدًا حفز تطور البشر المعاصرين: «قد يكون هناك أكثر من عامل واحد وراء هذه التغيرات الكبيرة في تاريخنا التطوري».

أما هنري بون (وهو عالم تنقيب بشري من جامعة ويسكونسن لم يشارك في الدراسة الجديدة) لم يوافقها الرأي إلا في تعدد العوامل وراء تاريخنا التطوري، فمن وجهة نظره، لم يكن أكل اللحوم إطلاقًا العامل الوحيد وراء التحول التطوري.

يقول بون: «لا أحد يقول إن أكل اللحوم هو العامل الوحيد المسؤول عن تطور الجنس البشري، ولكن إن لم يكن أكل اللحوم هو ما جعلنا بشرًا، فماذا قد يكون»؟

تعزو إحدى النظريات الأخرى أصول البشر إلى الطبخ بالنار الذي أتاح الوصول إلى مغذيات أكثر، وتزعم نظريات أخرى أن السبب كان الجدات اللاتي كانت تطعم الأطفال، ما عزز من نظامهم الغذائي، وتفيد نظرية ثالثة بأن أكل الحشرات عوضًا عن الحيوانات الضخمة هو ما ساعد على تطور البشر وأدمغتهم الكبيرة، غير أنه لا توجد أدلة حفرية ترجع إلى مليوني عام يمكنها دعم أي من هذه النظريات.

يرى بون أن بوبينر ومساعديها أنشأوا مغالطة رجل القش نظرًا إلى تركيزهم على تقديرهم لكثافة العينات.

اكتُشفَت أولى أدلة أكل اللحوم في قطع عظمية صغيرة، ولكن يقول بون إن المواقع الأثرية للإنسان المنتصب تتضمن خمسين حيوانًا نافقًا (جميعها في رواسب لا يزيد سمكها عن عشرة سنتيمترات)؛ لذا يعتقد أن أكل اللحوم كان عرضيًا وعشوائيًا بخلاف استهلاك اللحوم المنتظم والمتناسق الذي لوحظ في السجل الأحفوري للإنسان المنتصب في عدة مواقع أثرية بعد مليوني عام، وأوضح أن الدراسة الحديثة أخطأت بعدم التمييز بين المواقع الأثرية، إذ يتمتع كل موقع منها بمجموعة فريدة من الظروف التي تحدد جودة الحفريات.

يقول بون: «يزيد تأثير كل تلك العوامل من تشويش المسألة».

أما شارا بايلي -عالمة أنثروبولوجيا بيولوجية من جامعة نيويورك لم تكن مشاركة في الدراسة الأخيرة- ترى أن أكل اللحوم على الأرجح أدى دورًا مهمًا في تاريخنا التطوري لكنه لم يكن العامل الوحيد.

تقول بايلي: «أظن أن أكل اللحوم أدى دورًا في جعلنا بشرًا، فقد اتضح أن أكل اللحوم انتشر لاحقًا في العصر البليستوسيني، وكان على الأرجح أكثر أهمية في فترات زمنية محددة وبين سكان معينين أكثر من غيرهم».

ما الخطوة التالية؟

تقر بوبينر بأن لهذه الدراسة أوجه قصور، من ضمنها الفرضيات التي اضطر الفريق إلى وضعها إزاء المواقع الأثرية وكثافة العينات من أجل إجراء التحليل، وتقول: «لقد كان ذلك علامة تحذيرية أثارت قلقنا جميعًا»، ولكنها تتطلع إلى الاستجابة مع جميع ردود الفعل، من ضمنها الآراء الناقدة مثل رأي بون، وهي تأمل بأن تحفز الدراسة الأشخاص غير المختصين في هذا المجال على إعادة التفكير في حميتهم الغذائية.

تقول بوبينر: «يتمسك العديد من الأشخاص بحراك حمية باليو أو حمية رجل الكهف، الذي يؤمن بأن أكل اللحوم كان التغيير الغذائي الأكثر أهمية في تاريخنا التطوري، ولكن أسلافنا كانوا قوارت، يأكلون كل شيء متاح لهم».

وتضيف: «لا يمكنني تخيل أحد أسلاف البشر القدامى يقول: كلا لن أتناول هذه الدرنات أو لن أتناول هذا العدس، فالطعام طعام».

«أحيانًا أمزح عندما يتساءل بعض الناس ‹إذن، ممَّ تتكون حمية رجل الكهف؟› لقد تكونت من كل شيء حرفيًا، إذ تضمنت كل شيء كان قابلًا للأكل في الماضي».

اقرأ أيضًا:

دور النظام الغذائي في تطورنا قبل 2 مليون سنة

أين كان موقعنا في النظام البيئي قبل مليوني سنة؟

لماذا انقرضت كافة الأنواع البشرية ولم يبق سوى نوعنا؟

حمية باليو أو حمية رجل الكهف: ما هي مكوناتها وفوائدها ومضارها

ترجمة: رحاب القاضي

تدقيق: سمية بن لكحل

مراجعة: تسنيم الطيبي

المصدر