تعد الرياضيات بالقطع، علمًا بالمعنى الواسع للمعرفة المنهجية الوضعية، لكن معظم الناس يستخدمون تعبير “العلم” لوصف العلوم الطبيعية فقط.

فحيث تصنع الرياضيات اللغة التي تستخدمها العلوم الطبيعية لمحاولة وصف وتحليل الكون، يكون هناك رابط بديهي بين الرياضيات والعلوم الطبيعية، من البديهي كذلك أن تحاول المدراس والجامعات والهيئات الحكومية دمجهما سويًا (الرياضيات والعلوم).

من ناحية أخرى، فإن المشتغلين بالرياضيات لا يعدون نفسهم علماء، والعكس صحيح.

إذًا: هل تعد الرياضيات علمًا؟

العلم الطبيعي يقوم على دراسة الكون الفيزيائي، وهو ما لاتفعله الرياضيات، لذا فإن الرياضيات لا تعد علمًا طبيعيًا حقيقيًا.

مما يطرح سؤالا أقل شهرة وهو إذا ماكانت منهجية الرياضيات مماثلة لمنهجية العلوم الطبيعية، بالرغم من الفارق في موضوع الدراسة.

الهدف من العلوم الطبيعية هو وضع وتنقيح وصف تقريبي أو نماذج محاكاة لأي من نواحي الكون الفيزيائي.

الخاصية التي تميز العلم عن دونه من الوسائل في هذا المسعي هو منهجه المميز.

بعبارة بسيطة، يتكون هذا المنهج من طرح سؤال، صياغة فرضية، اختبار الفرضية، ومن ثم، بناء على نتائج الاختبار، رفض أو قبول الفرضية بظروف معينة.

من المعتاد أن يكرر المرء العملية بعد تحسين السؤال أو الفرضية أو قدرته على اختبارها.

الشاهد الأهم على صحة الفرضية هو الدليل التجريبي المتاح، لذا فإن الفرضية المثبت خطأها (الفرضية التي لا تتسق مع البيانات السليمة) هي فرضية غير مقبولة.

(الفرضية التي لا يمكن إثبات خطأها عن طريق البيانات التجريبية ليست فرضية علمية.).

لاحظ أن النظرية العلمية أو الفرضية تعتبران على أفضل التقديرات مقبولتان شرطيًا في وقت معين، لأن ظهور دليل جديد قد يجبرنا على تعديلهما أو رفضهما كليًا.

أما في الرياضيات، فإن الشاهد الأهم على الصحة هو الإثبات وليس الدليل التجريبي.

مما يعكس الفرق الجوهري في مسعى المرء: الرياضيات تهتم بالعثور على أنواع من معينة من الحقائق المطلوبة.

لكي تكون عبارة رياضية ما صحيحة كنظرية، يجب أن تكون نتيجتها صحيحة دائمًا عندما تكون فرضيتها متحققة، حيث لا يمكن قبولها إلا مع وجود دليل: وهو سلسلة من البراهين المنطقية تثبت أن الاستنتاج لابد أن يتبع الفرضية.

الأدلة التجريبية، بالقطع، تلعب دورًا كبيرًا في ممارسة الرياضيات.

فالتخمين يتكون عادة من ملاحظة نمط متكرر في عدد من الأمثلة، ويتم اختباره في أمثلة أخرى قبل محاولة إثباته.

لكن الأدلة من هذا النوع ليست كافية بحد ذاتها، خذ على سبيل المثال مبرهنة أن كل عدد زوجي أكبر من أربعة هو مجموع عددين فرديين (ليسا بالضرورة مختلفين).

لدينا العديد من الأدلة التجريية التي تثبت هذه الفرضية: 6 = 3+3، 8 = 5+3، 10 = 7+3، 10 = 5+5، 12 = 7+5 إلخ.

لكنه لا يمكننا الجزم بأن هذا صحيح حتى يتوصل أحدهم إلى إثباته رياضيًا.

حتى ذلك الحين، يكون من المقبول أن نتصور أن شخصأ ما قد يعثر على عدد زوجي كبير جدًا لا يتكون من مجموع عددين فرديين.

الفارق الأساسي في المنهجين، ومواطن الضعف في كليهما، يمكن شرحه في الفكاهة التالية: تم سؤال مجموعة من الأكاديميين في فترة استراحة في غرفة واحدة إذا ماكانت كل الأعداد الفردية الأكبر من واحد هي بالضرورة أعداد أولية.

بدأ الفيزيائي في التجربة: 3 هي عدد أولي، 7 عدد أولي، 9 لا تبدو كعدد أولي لكن قد يكون ذلك خطأ في التجربة، 11 عدد أولي، 13 عدد أولي، الاستنتاج هو أن الأدلة التجريبية أميل إلى دعم الفرضية، أن كل الأعداد الفردية هي أعداد أولية.

يخشى المهندس أن يهزمه الفيزيائي، يباشر بالتجربة أيضًا، 3 عدد أولي، 5 عدد أولي، 7 عدد أولي، 9 عدد أولي، 11 عدد أولي، 13 عدد أولي، 13 عدد أولي، 15 عدد أولي، الاستنتاج: كل الأعداد الفردية هي أعداد أولية.

الإحصائي يختبر مجموعة عشوائية من الأعداد الفردية: 17 عدد أولي، 29 عدد أولي، 41 عدد أولي، 101 عدد أولي، 269 عدد أولي، الإستنتاج: كل الأعداد الفردية (غالبًا) هي أعداد أولية.

يلاحظ الفيزيائي أن التجارب الأخرى أكدت على استنتاجه، لكن عالمة الرياضيات تسخر من الجميع لكون كل التجارب هي “مجرد أمثلة”، ثم تقول: 3 هي عدد أولي، ومن ثم من خلال استنباط بسيط متروك للقارئ يمكن استنتاج أن كل الأعداد الفردية أكبر من واحد هي أعداد أولية.

الرياضية مخطئة بحسب معايير عملها، لأنها لم تقدم إثباتًا مقبولا لدعم ادعاءها بأن كل الأعداد الفردية هي أعداد أولية، يجدر القول أن ترك الجزء الأصعب (أو المستحيل) للقارئ هو عادة سيئة منتشرة في مجال الرياضيات.

على الجانب الآخر، وفي ضوء الأدلة المتاحة، يعد الفيزيائي بمعايير مجاله مصيبًا إلى حد بعيد في قبول الادعاء.

ينبغي أن نعترف بأن الفروق الملحوظة أعلاه ليست حاسمة تمامًا، حتى مع إهمال حقيقة أن للرياضيات جانبًا تجريبيًا، فبعض المساحات التي تطبق فيها الرياضيات في محاكاة الكون الفيزيائي تعتبر مساحات رمادية.

المشكلة الأساسية أن المرء قد لا يكون واثقًا في حقيقة تم إثباتها بطريقة رياضية إلا بمقدار دقة محاكاة النموذج الرياضي للجزء من الكون الفيزيائي الذي يدرسه.

من ناحية أخرى يكون المرء واثقًا تمامًا في حقيقة ذلك في دراسة الرياضيات (حيث يكون الجزء من الكون الذي يدرسه هو الرياضيات ذاتها)، مثل علوم الكومبيوتر، حيث الأشياء الفيزيائية الخاضعة للتحليل تكون مصنوعة من الأصل لتطابق نمطًا دقيقًا من الناحية الرياضية، أو أجزاء من الفيزياء النظرية، حيث خضعت بعض النظريات لاختبارات مطولة جدًا.

لكن المرء لا يمكن أن يكون واثقًا دائمًا على سبيل المثال في التنبؤات الاقتصادية بعيدة المدى.

المغزى هنا، هو أنه عند تطبيق الرياضيات على مشاكل من عالم الواقع، يجب على المرء أن يضبط استعماله للمعرفة الرياضية بالمعرفة التجريبية والاختبار.

بزيادة الاحتكاك بين الرياضيات والعلوم الطبيعية، إلى جانب المشاكل العملية الناشئة عن التوصل إلى الإثباتات المطولة ومراجعتها، يمكن القول أن المساحات الرمادية تتمدد.

بل وذهب البعض إلى أن الإثبات والتأكد في الرياضيات هم شيئان شبه منقرضان، بالرغم من أن معظم من يؤمنون بمكانة الرياضيات “التجريبية” لا يزالون يؤمنون بأهمية دور الإثبات الرياضي.