شهدت الحرب العالمية الأولى انهيار إمبراطوريات كان من بينها الإمبراطورية الروسية التي يحكمها القيصر نيقولا الثاني الذي كان الحاكم المطلق لدولة قارب عدد سكانها 150 مليون نسمة وامتدت حدودها من أوروبا الوسطى إلى المحيط الهادئ ومن حدود أفغانستان إلى المنطقة القطبية الشمالية.

أعلن نيقولا الثاني الحرب على ألمانيا والنمسا والمجر في يوليو 1914، وبعد أقل من ثلاث سنوات في مارس 1917، أُجبِر القيصر على التخلي عن الحكم بعد انضمام الجنود في بيتروغراد إلى العمال المضربين في احتجاجات على حكمه. وفي يوليو اللاحق جمع الثوار البلاشفة القيصر وعائلته في قبو وأردوهم قتلى طعنًا ورميًا بالرصاص منهين بذلك ثلاثة قرون من حكم سلالة رومانوف لروسيا. ومن تحت أنقاض الإمبراطورية ورمادها ولد الاتحاد السوفييتي وأصبح قوة عالمية.

هل كان للحرب العالمية الأولى دورٌ في إشعال فتيل الثورة البلشفية؟ أم أنها عجلت فقط من الانهيار الحتمي لدولة ملكية عفا عليها الزمن ولم تعد تصلح للبقاء والتنافس في عالم حديث؟ يبقى هذا السؤال موضع أخذ ورد ونقاش بين مؤرخين.

يشرح ستيفين ماينر -أستاذ التاريخ في جامعة أوهايو والمتخصص في روسيا والاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية- الأثر الذي سببته الحرب العالمية الأولى في روسيا: «كانت روسيا دولة غير مستقرة وتعاني اضطرابات ومشكلات داخلية وخطيرة أكثر من أي قوة عظمى أخرى، ولذلك كانت الفوضى الناتجة عن صدمة الحرب فيها أقوى بكثير من أي مكان آخر. الانهيار دون الحرب كان ممكنًا، لكن من وجهة نظري ليس مؤكدًا، وانخراط روسيا في دوامة الحرب العالمية الأولى المدمرة جعل هذا الانهيار حتميًا».

الحرب العالمية الأولى تكشف نقاط ضعف روسيا

كانت روسيا قبل الحرب أمام مفترق طرق، إذ يقول ماينر: «يجادل البعض أن روسيا كانت تطور ببطء مؤسسات سياسية واجتماعية أكثر حداثة وعصرية، وتميزت هذه المؤسسات بثقافة نابضة بالحياة ونخبة من المثقفين على درجة عالية جعلها تصمد أمام انتفاضة 1905، وكان اقتصادها الأسرع نموًا على مستوى العالم قبل 1914».

ومع ذلك يرى ماينر أن النظام القيصري قد واجه تهديدات كثيرة ليصل للاستقرار، تمثلت في ظروف العمل القاسية في المناطق الحضرية وانتفاضات العمال التي حاول جنود القيصر إخمادها بمجازر بحق عمال مناجم الذهب في سيبيريا عام 1912، وليزيد الطين بلة أقدم نيقولا الثاني على التراجع عن حزمة الإصلاحات الديمقراطية المحدودة التي وافق عليها عام 1905.

إن تصميم النظام القيصري على التمسك بالسلطة عطل جهود التحديث، تقول لين هارتنيت، أستاذة التاريخ في جامعة فيلانوفا وخبيرة في الثورة الروسية: «نتيجة لذلك تخلفت الإمبراطورية الروسية عن بقية دول أوروبا من ناحية القوة الصناعية والاقتصادية».

جعل ذلك روسيا ضعيفة في الحرب، لأن مصانعها لم تستطع إنتاج ما يكفي من الأسلحة والذخيرة لتجهيز جيش القيصر الذي يضم 1.4 مليون جندي، وفي بداية الحرب كان لدى الإمبراطورية الروسية 800 ألف جندي يرتدون اللباس العسكري ولا يملكون بنادق يتدربون بها، وغالبًا ما كان عليهم أن يستخدموا أسلحة قديمة يصل عمرها إلى أربعين عامًا، وذلك حسب ما يقوله جيمي كوفيلد في كتابه «وكان الثلج على أحذيتهم» الذي نشره عام 1999، وكان على بعض الجنود الذهاب إلى المعركة دون سلاح حتى يستطيعوا أخذ واحد من جندي مقتول أو مصاب. أما إنتاج روسيا من رصاص البنادق فكان يبلغ في البداية 13 ألف طلقة في اليوم، فوجب عليهم أن يحسبوا حساب الاستفادة من كل طلقة.

العسكر الروس يفقدون ثقتهم بالملك

وليزيد الوضع سوءًا من ناحية عدم الجاهزية للحرب، قاد نيقولا الجيش بنفسه دون خبرة أو تدريب كافيين لشغل منصب كهذا.

تقول مايهيل فولر، أستاذة في الدراسات الأوراسية والشرق أوروبية والروسية لدى جامعة ستيتسون: «تخيل نيقولا نفسه مخططًا عسكريًا لكن لم يكن كذلك». وأشارت أيضًا إلى أن نيقولا تجاهل مذكرة قبل الحرب من واحد من مستشاريه تحذر من أنه إذا آلت الأمور إلى الهزيمة أمام ألمانيا، فإن اندلاع ثورة اجتماعية في أعنف أشكالها وأشدها تطرفًا أمر حتمي.

وقد زاد من سوء الوضع عندما ترك نيقولا زوجته الألمانية آلكسندرا في بتروغراد للانضمام لجيوشه، إذ كانت معروفة بسلوكها الفظ ومقتها للثقافة الروسية، ما جعلها مكروهة عند عامة الشعب الروسي.

سرعان ما انقلبت الحرب لتصبح كارثة، إذ تعرض الروس لهزيمة قاسية في معركة تانينبيرغ بعد أسابيع قليلة على بدئها، وتعرض 30 ألف جندي روسي تقريبًا للقتل أو الإصابة وأسرت ألمانيا نحو 100 ألف جندي. تقول هارتنيت: «لم يتحسن الوضع مع مرور الوقت، وبنهاية السنة خسرت الإمبراطورية الروسية أكثر من مليون رجل، ونفدت الذخيرة وكانت البنية التحتية في البلاد غير مجهزة لإعادة تزويد القوات».

ومع أن الجنود الفلاحين عانوا أشد الخسائر، فإن ماينر يبين أن هوس السلطة الحاكمة في المحافظة على استقرار النظام جعل جل الخسائر في صفوف الضباط، فقد أضعفت هذه الخسارة الجيش كثيرًا، فقال: «عندما حان الوقت ليدعم الجيش ملكه أمام الثوار البلاشفة، لم يكن هذا الجيش مدافعًا ذا ثقة عن الملكية».

الانسحاب الروسي

مع قدوم ربيع 1915، اضطرت القوات الروسية إلى التراجع قبل هجوم اتحد فيه الألمان والنمساويون. تشير هارتنيت إلى أنه بجانب العدد المهول والمرعب من الجنود الروس القتلى والمصابين، صاحب الانسحاب أيضًا حدوث موجة ضخمة من اللاجئين، إذ تدفقت أعداد هائلة من الناس اليائسين على المدن الروسية التي تعاني مسبقًا من وطأة الحرب وأعبائها.

تقول هارتنيت: «قد فرغت رفوف المتاجر من المنتجات وازداد التضخم. ومع ازدياد الخسائر على الجبهة وارتفاع أعداد الجائعين واليائسين داخليًا، شعرت الحكومة الروسية بالضغط».

وترى هارتنيت أن نيقولا الثاني لم يستوعب مدى سوء وضعه، إذ تمسك باعتقاد أنه والشعب الروسي يرتبطان برابطة غامضة لا تتزعزع.

يبين فولر أنه من وجهة نظر نيقولا، حكمت عائلته منذ 300 عام وقد عينه الرب ملكًا، ويتجلى انفصاله عن الواقع في الرسائل التي كتبها لزوجته، إذ يذكر فيها أخبار الاحتجاجات المناهضة لنظامه وكأنها أمور عائلية تافهة وبسيطة. يقول فولر: «هو فقط غير واعٍ أن إمبراطوريته تواجه مشكلة صعبة».

طوابير الخبز شرارة التمرد

أنتجت روسيا طعامًا يكفي شعبها في أثناء الحرب، ولكن مع ذلك ظل الروس جائعين، إذ يرى ماينر أن المشكلة ليست في الإنتاج، بل في التوزيع والنقل اللذين كانا يتسببان بأزمات نقص في المادة كل فترة وأخرى. وبسبب كل هذه الأزمات المتوالية وعجز الحكومة القيصرية عن حلها بدأت تفقد الدعم السياسي.

لم يستطع مجلس الدوما -الهيئة التشريعية المنتخبة في روسيا- فعل الكثير لمواجهة سوء إدارة نيقولا للبلاد، لأن الأخير يملك سلطة تسمح له بحل مجلس الدوما إذ تجرأ أعضاؤه على مخالفته، ومع ذلك وبحسب تعبير هارتنيت: «تساءل أعضاء بارزون وبصوت عالٍ عن القرارات الأخيرة التي اتخذتها حكومة القيصر وهل كانت نتيجة غباء هذه الحكومة أم خيانتها».

وبحلول 1917 كانت الأزمة تضغط على روسيا لدرجة لم يعد يستطيع نيقولا تجاهلها.

تبين هارتنيت أن طوابير الخبز ازدادت في مدن كثيرة، وأبرزها في العاصمة بيتروغراد. بدأ العمال في مصنع باتيلوف الضخم إضرابًا في الأيام الأولى من مارس مطالبين بأجور أعلى، تعويضًا لهم عن أسعار الطعام المرتفعة، وبدلًا من قبول طلبات المحتجين، قفل المصنع أبوابه ما شجع آلاف العمال على الاستمرار في إضرابهم.

وبعد أيام قليلة وفي يوم المرأة العالمي سار عشرات الآلاف في مسيرات في شوارع بيتروغراد وانضم إليهم عمال المصنع المضربين والأمهات اللواتي يطالبن بالطعام لأطفالهن.

تقول هارتنيت: «كانت هذه الاحتجاجات المسمار الأخير في نعش استبداد آل رمانوف وطغيانهم».

وبعد ثلاثة أيام على الاحتجاجات، وجه ضباط القيصر أوامر إلى العساكر والشرطة بقمع المحتجين مستخدمين في ذلك أي وسيلة، وقد تسبب هذا العنف بمقتل قرابة 100 شخص، وفي اليوم التالي انضم الجنود للمتظاهرين.

لقد نال الجيش كفايته ونفد صبره من نيقولا وسياساته، ولذلك أقنعه جنرالاته على التراجع، وبعد ثلاثة أيام تنازل نيقولا عن العرش لصالح أخيه مايكل الذي رفض اعتلاءه، وبذلك وصل حكم آل رومانوف إلى نهايته.

أفقدت الحرب نيقولا قبضته على الحكم، ولكن ثورة فبراير كانت البداية فقط، فقد أتت حكومة انتقالية مكان النظام القيصري مؤلفة من نواب معتدلين في مجلس الدوما واشتراكيين وليبراليين تنازعوا فيما بينهم في محاولة منهم للسيطرة على روسيا مجددًا. حاولت الحكومة الجديدة البقاء في الحرب والالتزام بالتحالفات التي دخلت فيها الحكومة الملكية السابقة مع سعيها في ذات الوقت لإيجاد مخرج من الحرب.

ترتيب الألمان لعودة فلاديمير لينين

قرر الألمان -التواقون لإخراج روسيا من الحرب ليركزوا قتالهم على فرنسا وبريطانيا- زعزعة استقرار الحكومة الانتقالية، إذ رتبوا عودة الثوري الشيوعي فلاديمير لينين -الذي ترأس الحزب البلشفي- سرًا إلى روسيا بعد أن كان في المنفى في أوروبا في قطار شديد الحراسة، وعندما وصل لينين إلى روسيا كان شعاره: «السلام والخبز مطلبين للروس الذين ضاقوا ذرعًا بالحرب». ويقول فولر: «مهدت الحرب الطريق أمام لينين ليبدأ انقلابه في أكتوبر».

لم ينجح ألكسندر كيرنسكي -الرئيس الأخير للحكومة الانتقالية- في قيادته لهجوم على الألمان والنمساويين في يوليو 1917 وتبين أنه كان كارثيًا، فترى هارتنت أن الخسائر قد ازدادت وازداد السخط معها بفضل الدعاية البلشفية بين الوحدات العسكرية.

وعندما حاول كيرنسكي إرسال وحدات موالية للبلاشفة إلى الجبهة، نزل الجنود إلى الشوارع في انتفاضة ضد الحكومة الانتقالية التي أصبحت تعرف باسم أيام يوليو، ومع فشل هذا التمرد انتهت فترة حكم كيرنسكي وحكومته، وفي نوفمبر 1917 استولى البلاشفة على السلطة.

شهد شهر مارس اللاحق توقيع الحكومة البلشفية الجديدة في روسيا معاهدة بريست ليتوفسك مع ألمانيا والنمسا والمجر والإمبراطورية العثمانية وبلغاريا، تنازلت بموجبها عن مليون ميل مربع من أراضيها لإرضاء الألمان.

وانتهت بذلك الحرب العالمية الأولى بالنسبة لروسيا بعد أن أدت لإنهاء النظام القيصري، لكن نهايتها لم تحقق السلام بعد، إذ اندلعت حرب أهلية في وقت لاحق من ذلك العام بين البلاشفة ومعارضين للنظام، وانتصر البلاشفة في النهاية، وفي 1922 وُقعَت معاهدة لتأسيس اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية.

اقرأ أيضًا:

فلاديمير لينين

انهيار الاتحاد السوفييتي

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: محمد حسان عجك

المصدر