تُعد الثقوب السوداء من أكبر المعضلات الفيزيائية التي شغلت اهتمام المجتمع العلمي لعقود من الزمن، فبينما تمضي هذه الأجرام الفلكية الهائلة إلى الزوال، تأخذ معها قطعًا صغيرةً من كوننا، وتختفي إلى الأبد، وهو ما تفسره نظرية النسبية لآينشتاين. لكن هذا الأمر مستحيل وفقًا للفيزياء الكمومية، فالمعلومات (خصائص الجسيم) لا تختفي إلى الأبد، بل يجب أن تبقى محفوظةً في كوننا.

طرح الراحل ستيفن هوكينغ مفارقة معلومات الثقوب السوداء كجزءٍ من أعماله الثورية في فيزياء هذه الأجسام المذهلة في كوننا، الأمر الذي ألهم الكثير من الباحثين من بعده، لتقديم حلول مقترحة لهذا التناقض بين النسبية العامة، وميكانيكا الكم على مدى نصف قرن.

هذا التناقض يعني وجود فجوة ما صغيرة، لكنها مهمة بين أعظم نظريتين في الفيزياء، ما دفع بعض العلماء إلى إجراء بعض التعديلات عليهما، كنمذجة النسبية العامة باعتبارها نظام شبيه بالجسيمات، أو محاولة التوفيق بين الفيزياء الكمومية، ونظرية الزمكان، أو المزج بينهما.

أثارت إحدى التعديلات الأخيرة لنظرية جديدة من فيزيائيين من المملكة المتحدة والولايات المتحدة وإيطاليا، بعض الاهتمام في وسائل الإعلام العامة، ولكن هذه التعديلات ستستغرق بعض الوقت للتأكد من أنها الحل المنشود الذي نسعى إليه لفك مفارقة ضياع معلومات الثقب الأسود.

لهذه التعديلات صبغة رياضية على نظرية سابقة تقترح أن الثقوب السوداء قد تمتلك هالةً زغبية تحيط بها، أي توهجات ذات طاقة منخفظة تحمل بصمةً تعريفيةً لكل المعلومات التي تبتلعها الثقوب السوداء.

وقبل أن نسترسل في الشرح أكثر يجب أن نوضح لما قد تكون الثقوب السوداء ذات الهالة الزغبية حلًا لمفارقة ضياع المعلومات في الثقب الأسود؟، وبالأحرى: لماذا توجد مفارقة أصلًا؟

الثقوب السوداء عبارة عن كتل من المادة ذات كثافة هائلة، من شأنها إحداث تشويه كبير جدًا في نسيج الزمكان ، فلا شيء يستطيع الإفلات، والهروب من جاذبيتها، حتى الضوء نفسه.

لم يخلق هذا الطرح مشكلةً كبيرة، لكن منذ حوالي نصف قرن، اقترح هوكينغ أن الثقوب السوداء يجب أن تُشع بطريقة فريدة إلى حد ما، معتمدًا في طرحه على قوانين ميكانيكا الكم، فيسبب الثقب الأسود انحناءً شديدًا في نسيج الزمكان، ما يغير من خصائص الحقول الكمومية المحيطة به منتجةً بذلك نوعًا من الطاقة في شكل إشعاع حراري.

رياضيًا هذا يعني أن الثقوب السوداء ستشع تدريجيًا، بينما تتقلص بوتيرة متسارعة إلى أن تختفي نهائيًا من الوجود في آخر المطاف.

عندما تسقط المعلومات في جسم مشع مثل النجم، تترك أثرًا على أطياف الضوء العشوائية التي تنطلق من سطحه، أو تغوص لتندمج في قشرته الباردة الكثيفة بعد موته، ولكن السيناريو مغاير بالنسبة للثقوب السوداء، فإذا صحّت نظرية إشعاع هوكينغ، ستختفي المعلومات جميعها، وهو ما يتعارض مع قاعدة أساسية في فيزياء الكم، التي تنص على أن معلومات الجسيمات ستبقى محفوظةً في الكون إلى الأبد.

يكمن جزء كبير من الجدل حول طبيعة معلومات الثقب الأسود في مدى استمرار خصائص هذه المعلومات ومحتوياتها وسلوكها في التأثير في الفضاء المحيط بها، حتى بعد انفلاتها من الثقب الأسود.

تنص النسبية العامة على أننا نستطيع التعرف على خصائص الثقب الأسود، كالكتلة، والزخم الزاوي، والشحنة، وتأثير جاذبيته على الفضاء المحيط به، أما ما يصدره من طاقة منخفضة على شكل إشعاع حراري، فيوصف على أنه زغب. ووفقًا للنظريات التي تؤكد وجود هذه الطاقة، ومع أنه يوجد قدر قليل من هذا الزغب (الطاقة)، سيتيح للمعلومات الكمومية التي تربط الثقب الأسود بكوننا الوجود إلى الأبد.

لذلك اشتغل علماء الفيزياء النظرية على محاولة إيجاد طرق لجعل القوانين التي تشوه الزمكان، تتوافق مع القوانين التي تتحكم بالجسيمات الكمومية.

يضع هذا الحل الجديد الجاذبية في إطار كمومي، وينظر إليها في شكل جسيمات أولية تُسمى الجرافيتون، وهي جسيمات افتراضية لم تُرصد بعد، لكننا جمعنا الكثير من المعلومات حول طبيعتها، وسلوكها وحالاتها الكمية المحتملة.

صمم فريق البحث نموذجًا معقولًا يوضح كيف تبقى المعلومات داخل الثقب الأسود على اتصال بالفضاء المحيط حول أفق الحدث، وذلك بناءً على سلسلة من الخطوات المنطقية، التي تبين كيف تتصرف جسيمات الجرافيتون في ظروف معينة، وقد لاقت هذه النظرية اهتمامًا بالغًا في الوسط العلمي، كونها تستند إلى إطار عمل متين، ولكن يوجد طريق طويل لنقطعه قبل أن نتمكن من تقديم حل نهائي لهذه المفارقة.

على العموم، توجد طريقتان يتقدم بهما العلم، الأولى أن تلاحظ شيئًا غريبًا، ثم تحاول تفسيره، والثانية أن تتنبأ بشيء غريب، ثم تحاول العثور عليه.

ختامًا يعد امتلاكنا لخريطة نظرية كهذه أمرًا هامًا في رحلتنا نحو حل واحدة من أكثر المفارقات الفيزيائية إثارةً للاهتمام والحيرة.

اقرأ أيضًا:

كيف قام ستيفن هوكينج بحل معضلة المعلومات في الثقب الأسود؟

ما هو الجرافيتون ؟

ترجمة: رضوان بوجريدة

تدقيق: ميرفت الضاهر

المصدر