في عشرينيات القرن الماضي، عندما كان مجال الفيزياء الكمومية لا يزال طفلًا، كان لدى عالِم فيزياء فرنسي يُدعى لويس دي برولي فكرةً مثيرة للاهتمام.

ردًا على الغموض حول فكرة: هل الضوء والمادة هما في الأساس جسيمات أم موجات؟ اقترح دي برولي فكرةً بديلة: ماذا لو كان كلا الأمرين صحيحًا؟ ماذا لو كانت المسارات التي تسلكها الأجسام الكمومية تسترشد بشيء ما يرتفع ويهبط مثل تموجات المحيط؟

كانت فرضيته أساسًا لما سيُسمى فيما بعد «نظرية الموجة التجريبية»، لكنها لم تسلم من العوائق، مثل أي فكرة جميلة تتعثر في وجه التجربة، مع ذلك سرعان ما أصبحت تُعد فكرةً رائعة في تاريخ العِلم.

اليوم، يؤيد غالبية الفيزيائيين ما يُعرف بـ «تفسير كوبنهاغن لميكانيكا الكم»، الذي عمومًا لا يحدد المواقع الدقيقة للجسيمات وزخمها حتى تُقاس، من ثم تُلاحظ!

بالمقابل تقترح نظرية الدليل الموجي أن للجسيمات مواقع محددة في جميع الأوقات، لكن ذلك سيجعل العالم يبدو غريبًا بطرق متعددة، ما أدى إلى رفض العديد من الفيزيائيين للفكرة.

مع ذلك فإن شيئًا ما يتعلق بـ «جسيمات دي برولي الموجية» تجعل من المستحيل إهمالها. وعلى مدار القرن الماضي، استمرت الفكرة في الظهور بتزايد في الفيزياء الحديثة، بالنسبة إلى البعض هي مفهوم قد يساعدنا أخيرًا على فهم معنى أصغر الجسيمات الكمومية وحتى أكبر المجرات.

إذن ما الموجة التجريبية؟

لفهم ماهية الموجة التجريبية فهمًا أفضل، من المفيد أولًا فهم الأشياء التي لا ينطبق عليها هذا التصور.

في عشرينيات القرن الماضي، حيرت تجارب عالية الدقة علماء الفيزياء، في تجربة على الضوء والجسيمات دون الذرية، إذ بدا سلوكها أشبه بسلوك الموجة، لا الجسيم.

فُسرت النتائج تفسيرًا أفضل بواسطة مجال جديد للرياضيات، يدمج نظرية الاحتمالات وميكانيكا السلوك الموجي.

وفقًا لعالمي الفيزياء النظرية، الدنماركي نيلز بور والألماني فيرنر هايزنبرغ، اللذان وضعا أُسس تفسير كوبنهاغن، كان التفسير المنطقي هو التعامل مع الاحتمالات بوصفها جزءًا أساسيًا من الطبيعة. إذ يمثل السلوك الموجي عدم اليقين المتأصل في العملية.

عدم اليقين هذا ليس ناشئًا عن عدم المعرفة! وفقًا لنيلز بور، فإن الأمر يشبه أن الكون لم يتخذ قرارًا بعد بشأن مكان الجسيم ووضعه، واتجاه دورانه، ونوع الزخم الذي قد يمتلكه. هذه الخصائص لا يمكن القول إنها موجودة إلا بعد إجراء الملاحظة.

من الصعب تحديد ما يعنيه ذلك على المستوى الحدسي. قبل الفيزياء الكمومية، كانت رياضيات الاحتمالات أدوات للتنبؤ بتدحرج النرد، أو دوران عجلة، أو توقع نسبة أوراق اللعب المقلوبة من بين كومة منها على طاولة. تمثل الرياضيات مجرد ترتيب لعدم معرفتنا، في حين أن الواقع موجود بنسبة 100% يقينًا في الخلفية.

أما الآن فيقترح الفيزيائيون نوع من عدم اليقين ليس ناشئًا عن عدم المعرفة، هذا صعب التخيل.

كان هدف فكرة دي برولي عن الموجة الافتراضية هي إعادة نوع من المادية أو «التجسيم» إلى مفهوم الاحتمال. الأنماط المتناثرة للخطوط والنقاط التي لوحظت في التجارب هي تمامًا كما تبدو، إذ إن ارتفاع الموجات وهبوطها عبر وسط ما، لا يختلف كثيرًا عن تموجات بركة من المياه!

في مكان ما على تلك الموجة يوجد جسيم حقيقي، له موقع حقيقي، لكن مصيره رهن بالتغيرات المرتبطة بتدفق المائع الذي يوجهه. هذا يبدو منطقيًا، وأسهل في التخيل مقارنةً بفكرة أن كوننا متردد في اتخاذ القرار! لكن عمليًا، لم يكن الوقت مناسبًا لفكرة دي برولي البسيطة.

قال باولو كاسترو، الأستاذ بجامعة لشبونة: «مع أن فرضية دي برولي تبدو منطقية، تدفع بعض مشكلاتها الأولية المجتمع العلمي إلى التمسك بأفكار نيلز بور».

أشار الفيزيائي النمساوي وولفجانج باولي، أحد رواد الفيزياء الكمومية، إلى أن نموذج دي برولي لا يفسر الملاحظات حول تشتت الجسيمات. ولا يفسر كذلك تفاعل الجسيمات التي تفاعلت مع بعضها سابقًا، والتي سيكون لها خصائص مرتبطة عند ملاحظتها لاحقًا، وهي الظاهرة المعروفة باسم «التشابك».

متى نشأت نظرية الموجة التجريبية؟

لمدة ربع قرن تقريبًا، ظل مفهوم دي برولي عن الجسيمات التي «تركب» موجات من الاحتمالات محتجبًا في ظل مبدأ عدم اليقين الأساسي لبور وهايزنبرغ. عام 1952، أعاد الفيزيائي الأمريكي ديفيد بوم إنتاج المفهوم ذاته في نسخة أطلق عليها اسم «الموجة التجريبية».

على غرار اقتراح دي برولي، جمعت فرضية الموجة التجريبية لديفيد بوم بين الجسيمات والموجات بوصفها شراكة موجودة، بصرف النظر عن وجود المراقب، إذ تتداخل مع الموجة وتتغير خصائصها.

في تعديل لمفهوم دي برولي، تفسر الفرضية الجديدة المصائر المتشابكة لجسيمات متعددة مفصولة بالوقت والمسافة، بوجود «جهد كمي»، يعمل بوصفه قناة لتبادل المعلومات بين الجسيمات.

يُعرف ذلك الآن بنظرية «برولي-بوم»، وقد قطعت الموجة التجريبية شوطًا طويلًا في العقود اللاحقة.

يقول كاسترو: «الفرضية الرئيسية الجديدة هي أن الموجة الكمومية تشفر المعلومات الفيزيائية، وتعمل بوصفها جهاز حاسوب طبيعي يتضمن حالات محتملة. لذلك، قد يوجد تراكب للحالات المشفرة بوصفها معلومات مادية في موجة ثلاثية الأبعاد، إذ يغير الجسيم حالته إلى أخرى بقراءة المعلومات المناسبة من الموجة».

لماذا لم تُقبل نظرية الموجة التجريبية على نطاق واسع؟

فلسفيًا، تُعد النظرية جيدة اعتمادًا على قدر النتائج التجريبية التي تفسرها، والملاحظات التي يمكنها توقعها. بصرف النظر عن مدى جاذبية الفكرة، فإنها إن لم تحقق نتائج أدق مقارنةً بمنافسيها، فقد لا تكسب الكثير من المعجبين.

لا تساهم نظرية الموجات التجريبية فعليًّا في نموذج دقيق للطبيعة، بل تشرح فقط ما يكفي عن الفيزياء الكمومية بطريقة منطقية تجذب الانتباه، لكن ليس بالقدر الكافي لاستبدال الفرضيات السابقة.

إذن ما الدليل على صحة نظرية الموجة التجريبية ؟

لاحظ باحثون فرنسيون عام 2005 أن قطيرات الزيت تقفز بطريقة غريبة عبر حمام من الزيت المهتز! وتتفاعل مع الوسط الذي يتضمن حلقة تغذية راجعة تشبه إلى حد ما جزيئات دي برولي التي تتصفح الأمواج. كان ذلك حاسمًا لملاحظاتهم التي أفادت بتحديد قدر معين لحركات الجسيم، دون اختلاف عن القياسات الصارمة التي تحدد حركات الإلكترونات حول نواة الذرة.

كانت أوجه التشابه بين الموجات على مقياس أكبر والموجات الكمومية مثيرة للاهتمام بما يكفي للإشارة إلى نوع من الميكانيكا الموحدة التي تتطلب مزيدًا من البحث.

اختبر الفيزيائيون في معهد نيلز بور في جامعة كوبنهاغن النتائج الشبيهة بالكم، استنادًا إلى نموذج قطرة الزيت، بناءً على أنماط التداخل ضمن تجربة الشق المزدوج الكلاسيكية، لكنهم فشلوا في تكرار النتائج. مع ذلك، فقد اكتشفوا تأثير تداخل مثيرًا للاهتمام في الحركة المتغيرة للموجات، ما قد يخبرنا المزيد عن موجات كمومية متنوعة.

وفي مشاركة قيمة لحفيد نيلز بور -عالم فيزياء السوائل توماس بور- اقترح تجربة فكرية تستبعد فعليًا الموجات التجريبية.

في حين تدحض النتائج السلبية والتجارب الفكرية بالكاد المبادئ الأساسية للنسخة الحالية من موجات برولي-بوم التجريبية، فإنها تعزز التحديات التي يواجهها المدافعون عنها بهدف دعمها، لترتقي إلى نظرية حقيقية.

يقول كاسترو: «تعد الذاكرة الكمومية الموجية مفهومًا قويًا، لكن لا يزال أمامنا الكثير لنفعله».

هل تصبح نظرية الموجة التجريبية مستقبل الفيزياء الكمومية؟

ثمة فجوة واضحة في قلب الفيزياء الكمومية، فجوة تستدعي تفسيرًا بديهيًا لسبب «ركوب» الواقع أنماطًا عشوائية تشبه الموجات.

من المحتمل أن ثنائية الموجات والجسيمات لا مثيل لها في واقعنا، لكن فكرة وجود وسيط يشبه الموجة يعمل بوصفه نوعًا من الأجهزة الحسابية للفيزياء هي فكرة مغرية جدًا لا يمكن تجاهلها.

لكي تنتصر نظرية الموجة التجريبية، سيحتاج الفيزيائيون إلى إيجاد طريقة لانتزاع «راكب الأمواج» -الجسيم- من موجته الكمية! وإظهار إمكانية وجود الاثنين بصورة مستقلة وتجريبية، يمكن تحقيق ذلك بواسطة انبعاث جسيمين وفصل أحدهما عن مساره بواسطة قياسه. ثم نجعل هذه الموجة الكمومية الفارغة تتداخل مع موجة الجسيم الآخر، ما يغير سلوكه.

عمليًا، يجب أن تكون الأجهزة المطلوبة لاكتشاف مثل هذا الحدث حساسة للغاية. وهذا ليس خارج نطاق الممكن، لكنها مهمة تتطلب صبرًا قبل تنفيذها. قد تحمل الموجات التجريبية الفارغة مفتاح حل المشكلات العملية في الحساب الكمي، بجعل الموجات أقل عرضة للتشويش من محيطها.

سيستطيع الفيزيائيون في المستقبل أن يطلعوا على الملاحظات التي قد تجعل الكون أكثر منطقية. إذا اكتشفت التجارب شيئًا ما، فسيكون ذلك مؤشرًا قويًا إلى أنه رغم السكون الظاهر، فإن قلب الفيزياء ينبض، حتى حين لا يشاهده أحد!

اقرأ أيضًا:

طريقة جديدة تسمح بقياس الحالات الكمومية بسرعة و دقة نقلة نوعية في الفيزياء الكمية

مشكلة في الفيزياء الكمية ليس لها حل

ترجمة: أنور عبد العزيز الأديب

تدقيق: تسبيح علي

المصدر