إذا شاهدت سلسلة أفلام حرب النجوم، ستلاحظ وجود عملة موحدة يتعاملون بها في جميع أرجاء المجرة، لكن هل يمكننا تطبيق هذه الفكرة على كوكبنا؟ يوجد اليوم 162 عملة متداولة حول العالم وفقًا للمنظمة الدولية لتوحيد المقاييس، والسؤال هو: أليس من الأبسط وجود عملة عالمية واحدة فقط؟ قد تبدو الفكرة غريبة وخيالية، ومع ذلك طرحها في القرنين السابق والحالي العديد من العلماء البارزين.

سنة 1961، طرح العالم الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد روبرت ماندل نظرية «المناطق المثالية للعملة»، التي تتضمن مناطق تتصف بارتباط العملات المحلية ارتباطًا وثيقًا. قدَّم ماندل أوروبا بوصفها مثالًا لنظريته، وطرح اليورو عملةً موحدةً للمنطقة.

سنة 1948، طرح ريتشارد كوبر، بروفيسور الاقتصاد الدولي في جامعة هارفرد، فكرة «إصدار عملة مشتركة لجميع الدول الصناعية الديمقراطية، إضافةً إلى سياسة نقدية مشتركة وبنك مشترك لإصدار هذه العملة وتحديد السياسة النقدية».

توقع كوبر وجود عملة عالمية بحلول عام 2010. وتوقعت مجلة the economist وجود عملة عالمية بحلول عام 2018، وأن يكون اسم هذه العملة فينيكس. لكن ها قد مرت الأعوام 2010 و2018 دون أن نقترب من تطبيق فكرة العملة العالمية الواحدة. إذن ما إيجابيات فكرة توحيد العملة عالميًا وسلبياتها؟

قبل الإجابة عن السؤال السابق، علينا أن نعلم أصل العملات، ومنشأ نظام التعامل النقدي.

منشأ العملة

بدأ البشر بعقد الصفقات عندما أراد شخص شيئًا يملكه شخص آخر، قد يكون هذا الشيء تفاحة أو غصن شجرة أو أي شيء كان «رائجًا» في ذلك الزمن.

يمكن إتمام الصفقة فقط إذا أراد الشخص الثاني شيئًا يملكه الشخص الأول كذلك. أي أنه لو كان بحوزتي تفاحة وأريد برتقالة، فيجب عليّ البحث عن شخص يملك برتقالة ويريد تفاحة. هذا هو نظام المقايضة، أول نظام للتعاملات بين البشر، وكان قائمًا على مقايضة سلعة بسلعة أخرى.

لا شك أن التعامل وفق هذا النظام لم يكن سهلًا. تخيل أنك تتنقل وبحوزتك عربة مليئة بالسلع هي «حافظتك»، لذلك كنا بحاجة إلى توحيد اختزان القيمة في شيء يسهل حمله والتنقل به.

ظهرت أول عملة في القرن السابع قبل الميلاد، بهيئة قطع معدنية استخدمتها الحكومات لدفع أجور المرتزقة مقابل خدماتهم. وكانت هذه «العملات النقدية» رمزية، أي أنها كانت قطعًا ترمز إلى أن الحكومة تدين لهؤلاء الأشخاص بقيمة ما. وسمحت الحكومات للمواطنين بدفع التزاماتهم الضريبية باستخدام هذه القطع المعدنية. ولذلك كان الطلب على هذه العملات كبيرًا، إذ اتفق المواطنون على استخدام هذه العملات ثمنًا للسلع والخدمات. وأصبحت قيمة هذه العملات تكمن في قدرة المواطنين على استخدامها لدفع الضرائب للحكومة، ولا شك أن ذلك أسهل من دفع الضريبة في صورة ماشية ومحاصيل.

هذا يعني أن فكرة العملة لم تكن نتيجة تخطيط دقيق تبعه التنفيذ، بل كانت محض صدفة. ما يؤدي إلى التساؤل، هل هي أفضل نظام نطبقه في عالمنا اليوم؟

مزايا توحيد العملة

ربما كنا سنستخدم اليوم تلك القطع المعدنية لو كانت تلك الحكومة في القرن السابع قبل الميلاد ترأس العالم اليوم. لكن منذ ذلك الوقت وحتى الآن، تشكل ما لا يُحصى من الدول، وظهرت مجموعة كبيرة من الأنظمة النقدية، وأصدرت الدول عددًا هائلًا من العملات. لا شك أن الأمر سيكون مختلفًا لو كان اقتصاد كل دولة يتصف بالاكتفاء الذاتي وعدم وجود أي تعاملات خارجية، لكن هذا ليس هو الحال اليوم.

أدى التطور السريع في تكنولوجيا الاتصالات والتحسينات التي طرأت على وسائل النقل إلى خلق اقتصاد عالمي نجد فيه الكثير من التعاملات الدولية بعدة عملات. زاد تعدد العملات من تعقيد عملية تبادل السلع والخدمات وخطوات إتمام هذه التعاملات وتكاليفها.

مثلًا، قد تشتري الشركة المصنعة للحواسيب في الولايات المتحدة الأقراص الصلبة من اليابان وتدفع ثمنها بالين، وتستورد الشاشات من كوريا الجنوبية وتدفع ثمنها بالوون، وتُجمع الحاسوب في معمل في الصين وتدفع المقابل بالرينمينبي. لا يستطيع المصنّع الأمريكي الدفع لمورّد الأقراص الصلبة بالدولار الأمريكي، بل عليه إيجاد من يملك الين الياباني ويريد مبادلته بالدولار الأمريكي، وتحدث هذه التعاملات عادةً في البنوك.

لا شك أن البنك سيتقاضى رسومًا من المصنّع الأمريكي لقاء تحويل العملة من الدولار إلى الين، من ثم يستطيع المصنع الأمريكي دفع النقود إلى المورد الياباني. يجب على المصنّع الأمريكي إجراء هذه العملية لتحويل الأموال إلى كوريا الجنوبية بعملتها وإلى الصين بعملتها كذلك، ما يعني المزيد من رسوم التعاملات التي يدفعها المصنّع للبنك، رسوم مقابل صرف العملة ورسوم التحويل بين دولة وأخرى.

وفقًا لوكالة بلومبيرغ، يبلغ حجم التداول اليومي في أسواق فوريكس نحو 6.6 ترليون دولار. وفق تصريحات موريسون بونباس رئيس جمعية العملات الموحدة، يبلغ حجم تكاليف التعاملات نحو 3 مليارات دولار في اليوم، أي 0.048% من حجم التداولات اليومية، وتشمل هذه التكاليف الدفع لتجار العملات والطاقم المساعد وأنظمة الحاسوب وغيرها. أي أن حجم هذه التكاليف يقارب 3 مليارات دولار يوميًّا، وبفرض أن عدد أيام العمل في العام 260 يومًا، تكون التكلفة السنوية لتعاملات صرف العملات الأجنبية 780 مليار دولار، وهو مبلغ هائل.

لو كانت العملة موحدة عالميًّا، لادّخر العالم نحو 800 مليار دولار سنويًّا فقط من تكاليف التعاملات. عندما تتعامل الشركات بعدة عملات، عليها الحد من الأخطار المتعلقة بتقلبات أسعار صرف العملات. قدرت شركة إيرباص انخفاض أرباحها بقيمة 100 مليون دولار مقابل كل سنت يرتفع به اليورو مقابل الدولار. تلجأ الشركات إلى «التحوّط» بهدف تخفيف أخطار تقلبات أسعار صرف العملات، وهي سياسة مالية معقدة تتبعها الشركات عبر مؤسسات مالية متشابكة، ولا شك أنها تتطلب جهدًا وتكاليف كبيرة.

تكمن المشكلة في أننا خلقنا صيغة أخرى لنظام المقايضة أدى إلى بروز عدة عملات عالمية تُستخدم لإجراء التعاملات، وزيادة في التكاليف التي تتطلبها الأعمال بسبب الحاجة إلى الوسطاء. قد يلغي وجود عملة واحدة عالمية ينظمها اتحاد نقدي عالمي معظم تكاليف التعاملات وجميع أخطار تغير أسعار الصرف.

عيوب توحيد العملة

سيحكم بنك مركزي عالمي العملة العالمية الموحدة إن وجدت، وسيكون هذا البنك مسؤولًا عن السياسة النقدية للعالم أجمع. لكن في كل دولة مزيجًا خاصًا بها من المشكلات الاقتصادية، والسياسة النقدية أداةً قوية لمواجهة مشكلات مثل التضخم أو الركود. مثلًا، يقلص المواطنون إنفاقهم في فترات الركود الاقتصادي، ما يؤدي إلى انخفاض إيرادات الشركات، ما يؤدي إلى وقف الشركات استثماراتها التوسعية، وقد يصل الأمر إلى تسريح بعض الموظفين.

لا شك أن من خسر وظيفته سيلجأ إلى الادخار بدلًا من الإنفاق، ما يؤدي إلى مزيد من الانخفاض في الإنفاق الاستهلاكي. وعند تفاقم هذه المشكلة في الاقتصاد، يتدخل البنك المركزي ويعدّل سياسته النقدية بتخفيض سعر العملة الوطنية أو طباعة نقود جديدة أو شراء السندات الحكومية وغيرها من أدوات السياسة النقدية بهدف زيادة حجم المعروض النقدي وتحفيز الاقتصاد. أما في حالة تفاقم مشكلة التضخم، فيتدخل البنك المركزي ويرفع أسعار الفائدة ويزيد الاحتياطي الإلزامي الذي تحتفظ به البنوك بهدف تخفيض حجم المعروض النقدي.

إذا كان يجب على بنك مركزي عالمي رسم سياسة نقدية عالمية مثالية، عليه أن يوازن بين احتياجات وأولويات جميع الدول المختلفة والمتضاربة. قد تواجه بعض الدول التضخم وبعض الدول الركود في الوقت ذاته. إن تصميم سياسة معقدة لدرجة تلبية احتياجات جميع الدول في الوقت ذاته أمر مستحيل.

ليست هذه المشكلة الوحيدة المتعلقة ببنك مركزي عالمي، بل توجد مشكلات أخرى حددها البروفيسور كينيث روغوف -أستاذ السياسة العامة وعلم الاقتصاد في جامعة هارفرد- مثل عدم إمكانية مراقبة أو ضمان عمل البنك المركزي العالمي حال غياب حكومة عالمية، لذلك قد يعمل هذا البنك دون أي رقابة عليه، ما قد يؤدي إلى مشكلة أخرى، وهي أن انعدام الرقابة على سلطة مركزية كهذه قد يجعلها تسلك سلوكًا مضادًّا لمبدأ المنافسة، فنحن نعيش في عصر الابتكارات المالية الساحقة التي تمهد الطريق لمستقبل مالي أكثر تطورًا، وقد تعد السلطة المركزية هذه الابتكارات مصدر تهديد لسلطتها، وقد تتخذ إجراءات تقيد الابتكار والتغيير في سبيل احتكارها للاقتصاد العالمي. إضافةً إلى أن تعيين محافظ البنك المركزي العالمي قد يمثل مشكلةً إضافية وسط النزاعات السياسية، فمن يقرر هوية محافظ البنك المركزي العالمي؟ إن عملية تعيين محافظ دون تحيز بالغة الصعوبة.

احتمالات للمستقبل

في ظل احتدام الجدل بين مؤيدي فكرة العملة العالمية الواحدة ومعارضيها، توجد إمكانية لحلول وسطى. قد تكون فكرة روبرت ماندل حول وجود «مناطق مثالية للعملة» قابلة للتطبيق، إذ قد توجد مجموعات من الدول تتصف بمستويات تطور متماثلة وحدود جغرافية متجاورة وأهداف مشتركة للعملة، مثل الاتحاد الأوروبي. وقد يكون لدينا عدة عملات عالمية لا عملة واحدة، إن حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي هي مثال واقعي دقيق عن هذه الفكرة. وهي الممتلكات الاحتياطية العالمية، وتتضمن حاليًّا الدولار الأمريكي واليورو والرينمينبي الصيني والين الياباني والجنيه الإسترليني. والمفترض أن هذه العملات تدعمها أكثر الاقتصادات حزمًا في العالم. قد تُستخدم حقوق السحب الخاصة أو ما يشبهها مخزنًا للقيمة في التعاملات الدولية لتجنب الكثير من تكاليف الصرف.

وعلينا ألا ننسى احتمالية اعتماد الدولار أو اليورو عالميًا، وهكذا تتحول عملة موجودة سابقًا إلى عملة عالمية.

ختامًا، ربما لم يخطر أفضل نظام عملات في الاقتصاد العالمي في ذهن أحد بعد، وعلينا انتظار العبقري المبدع الذي سيقدم لنا أفكاره في هذا المجال.

اقرأ أيضًا:

كيف يعمل سوق الأسهم؟

كيف تعمل البطاقات الائتمانية ؟

ترجمة: كميت خطيب

تدقيق: علي البيش

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر