تصوُّرنا المُعاصر للكون يختلف تمامًا عما اعتقده الناس والعُلماء قديمًا، وهذا دليلٌ على قوة المنهج العلميّ وإصرار البشرية على فهم العلم.

عندما تسمع أن أحد العُلماء قال إن قوانين الفيزياء تسمح بظهور الكون من العدم، ستتردد في ذهنك أسئلة كهذه:

كيف يُمكن لمادة الكون أن تأتي من لا مادة؟

إذا كان غياب الشيء يعني أن طاقته صفر فمن أين جاءت 400 مليار مجرة؟

في هذه المقالة سنحاول أن نُجيب عن هذه الأسئلة.

كان وما زال للنظرية النسبية وميكانيكا الكم تأثيرٌ كبيرٌ على مفهومنا عن الكون، الزمان والمكان، ولكن، تكمن المُشكلة في أن النظريتين لا تّتفقان! إذ تعطينا النظرية النسبية وصفًا وشرحًا لحركة الأجسام الكبيرة وطبيعتها، أما ميكانيكا الكم تبحثُ في الجسيمات دون الذرية.

ومن هُنا ظهرت نظرياتٌ تُحاول المصالحة بين النسبية وميكانيكا الكم، ومنها (النظرية إم – M-Theory)؛ التي تتنبأ أن هناك عددًا كبيرًا من الأكوان التي خُلِقت من العدم ولا يتطلب وجودها وجود كائنٍ خارقٍ أو فوق طبيعيّ، أو بالأصح، تنشأ بشكلٍ طبيعيّ من القوانين الفيزيائية.

بالتأكيد، ستكون الأكوان الأخرى مُختلفة من حيث القوانين التي تسير بها، لكنها تتنبأ بوجود أكوان كثيرة جدًا يصل عددها إلى 10500 (10 مرفوعة للقوة 500)  لكُل منها قوانينه الفيزيائية الخاصة.

بهذا العدد الهائل من الأكوان -حيث لكلٍّ منها قوانينه الفيزيائية- فإذا قُدِّر لكائنٍ أن يُحلّل القوانين الخاصة بكل كون من تلك الأكوان في ميلي ثانية واحدة وبدأ بتحليلها منذ لحظة نشوء الكون فسيكون قد حلل 1020 منها فقط حتى الآن.

في لحظة الانفجار الكبير كان حجم الكون بـ (حجم بلانك- ()Planck size أي؛ جزء من مليار ترليون ترليون سنتيمتر، أي أن نشأة الكون كانت حدثًا كموميًا.

وبالرغم من أن النسبية وحّدت الزمان والمكان في ما يُسمى بالزمكان (زمان – مكان)، إلا أن الزمان لا يزال مُختلفًا عن المكان.

إذا أردنا العودة للوراء بعيدًا لفهم نشأة الكون فيتوجّب علينا مزج ما نعرفه من النسبية مع نظرية الكم، ولفهم ذلك، سنحتاج إلى أن نفهم مبدأ عمل الجاذبية في اعوجاج المكان والزمان.

تخيل أن الكون هو سطح طاولة بلياردو مسطَّحة، إذا دحرجنا كرة الطاولة فإنها ستتحرك في خطٍّ مستقيم، أما إذا أصبحت الطاولة معوجّة أو لها تجويفٌ كما هو مُبينٌ في الرسم، فستأخذ الكرة عندها مسارًا مقوسًا.

من السهل توضيح اعوجاج طاولة البلياردو في هذا المثال لأنها مقوسة إلى البُعد الثالث الذي يُمكننا رؤيته، لكن اعوجاج الزمكان في كوننا لا يُمكن رؤيته لأننا داخله، ويصعُب تخيّله.

لكن لا تقلق، يُمكننا الكشف رياضيًا عن الانحناء حتى لو لم نستطع رؤيته من خارج الكون.

تخيّل معي نملةً مسجونةً على سطح الطاولة، فحتّى دون مغادرة الطاولة تستطيع النملة اكتشاف الاعوجاج، المسافة حول مُحيط الدائرة في مكان مستوٍ تساوي تقريبًا 3 أضعاف المسافة عبر قطرها.

لكن إذا قطعت النملة المسافة عبر قطر الدائرة الموضحّة في الصورة، فستجد أن المسافة عبر قطرها أكبر من ثلث المساحة حولها (أي أن القطر أكبر ثلث المسافة حول الدائرة، وهذا يعتمد على عُمق الاعوجاج).

وهكذا ستعرف النملة أنها في مكانٍ به اعوجاج وليس مستويًا، إذ لم تفهم هذه السطور جيدًا اقرأ المثال من جديد وبتركيز حتى تفهم المقصود.

الأمر مُشابه لما يحدث مع كوننا، إذ إنه يُمدد أو يضغط المسافة بين نقاط الفضاء، مُغيرًا هندسته بطريقة يُمكن قياسها من داخل الكون، واعوجاج الزمان يمدد أو يضغط الفترات الزمنية بطريقةٍ مُشابهة.

لنعُد بتلك الأفكار إلى موضوع بداية الكون، حيث يمكن التحدث بشكلٍ مُنفصل عن المكان والزمان.

موضوع بداية الزمان يُشبه قليلًا موضوع حافة الأرض، عندما اعتقد القُدماء أن الأرض مسطحة، كان المرء حينها يتساءل إن كان البحر ينسكب عند حافته، وقد حُلت المُشكلة عندما أدرك أن الأرض ليست سطحًا مستويًا بل كُرة مُنحنية.

بالرغم من أن النسبية وحّدت الزمان والمكان، إلا أن الزمان ما يزال مُختلفًا عن المكان فإما أن تكون له نهاية أو يكون شيئًا آخر يمضي إلى الأبد.

مع ذلك، بمجرد إضافة تأثيرات نظرية الكمّ مع النسبية، فإن الزمان في حالات الاعوجاج القصوى يمكنه أن يتصرف كأبعاد المكان الأخرى.

في الكون المُبكّر، عندما كان الكون صغيرًا بما يكفي لتحكُمه قوانين الكم والنسبية، كان هُناك فعليًا أربعة أبعادٍ للمكان دون بُعد للزمان.

هذا يعني أننا عندما نتكلم عن بداية الكون، فإن الزمان الذي نعرفه لم يكُن موجودًا! يجب علينا تقبّل أن أفكارنا المُعتادة عن الزمان والمكان لا تنطبق على الكون المُبكّر، الأمر خارج خبرتنا، ولكن ليس خارج خيالنا وحِساباتنا الرياضية.

إذا كانت الأبعاد الأربعة للمكان، فماذا حدث لما قبل بداية الزمان؟

عندما يدمج المرء النسبية العامة مع نظرية الكم سيكون هذا السؤال بلا معنى، كمن يسأل عن شمال القُطب الشمالي.

إذن، هل تسمح قوانين الفيزياء بظهور الكون من العدم الآن؟

في الواقع، تسمح قوانين الفيزياء بنشأة الكون من العدم، أو كما قال لورانس كراوس في كِتابه (كونٌ من لاشيء): «إذا سألت عن خصائص كونٍ نشأ من العدم، فستكون خصائصه -باتباع قوانين الفيزياء- مطابقةً لكوننا!».

بالانتقال لعالم الكم -وتحديدًا لتجربة الشق المزدوج- فإن الجُسيم يمُرُّ من خلال الفتحتين بجميع الطرق الممكنة بطريقة تلقائية.

من وجهة النظر هذه سيظهر الكون تلقائيًا بكل الطرق المُحتملة وأغلب هذه الطُرق تخص أكوانًا أُخرى توجد بها قوانين فيزيائية مُختلفة.

لفهم ذلك، دعنا نتصوَّر أن الكون الممتد كسطح فُقاعة، إنَّ تصوُّرَنا عن الخلق الكمومي للكون يُشبه قليلًا تكوين الفُقاعات في الماء المغليّ، تُمثل الفقاعاتُ أكوانًا دقيقة تمتد لكنها تنهار ثانيةً بينما لا يزال حجمُها مكيروسكوبيًا، إنها تُمثّل أكوانًا بديلة لكنها ليست مُثيرة بقدر كوننا حتى تبقى مدة كافية لتتمدد وتكوّن مجرات ونجومًا، إلا أن قليلًا من تلك الفقاعات سيكبر بدرجة كافية ليكون بمأمنٍ من الانهيار على نفسه، وبتصميم الكون المماثل سيكون مُحيرًا فِعلًا لو كُنا النظام الشمسي الوحيد.

لكن الآن، نعرف مئات الكواكب التي تدور حول نجوم وهناك شكوكٌ بعدد لا يُحصى ضمن مليارات النجوم في كوننا.

وهذا يجعل وجود نظامنا الشمسي وكوكبنا أقل لفتًا للنظر وأقل إقناعًا بأن الأرض صُمِّمت بعناية حتى تُناسب الكائنات البشرية.

للإجابة عن السُؤال المذكور في بداية المقال (كيف يُمكن لمادة الكون أن تأتي من لا مادة؟)، سأُغيّر في السؤال قليلًا كي يُنساب الموضوع وسأجعله:

كيف يُمكن للكون أن يأتي من لا شيء؟

للإجابة، دعني أخبرك بالمكونات الثلاثة لصنع الكون وهي:

  • المادة (أي شيء له كُتلة).
  • الطاقة.
  • الفضاء (الكثير منه).

سنعتبر أن المادة والطاقة هما شيء واحد استنادًا إلى النظرية النسبية (الطاقة = الكُتلة × مُربع سرعة الضوء) أي كُل جسم هو عبارة عن طاقة.

إذن، من أين أتت الطاقة والفضاء؟ الإجابة بسيطة، وجدت من الانفجار الكبير.

اللغز هُنا: كيف يُمكن لكونٍ عظيم مُكوّن من مساحة وطاقة أن يتحقق ماديًا من لا شيء؟

السر يكمن في واحدة من أغرب الحقائق المُتعلقة بكوننا، قوانين الفيزياء تتطلب وجود شيء يُدعى طاقة سالبة.

دعنا نوضح ذلك بِمثال: نفترض أنك أردت أن تبني تلًّا، ستبدأ بالحفر من الأرض، ستستخدم التُربة لبناء هذه التلة، ولكن في الواقع أنت لا تصنع تلةً فقط! بل تصنع حُفرة، أو بالأصح، نُسخة سالبة من التلّ!

ما كان موجودًا في الحُفرة أصبح الآن تلًّا، لذا هي متوازنةٌ بشكلٍ كامل. (أي مجموع الموجب والسالب = 0)، فإذا جمعنا التل والحُفرة سيختفي الاثنان.

هذا المبدأ الذي يقف خلف ما حدث للكون، في لحظة بدايته عندما أَنتج فيها طاقة موجبة، أنتج بنفس القدر طاقة سالبة.

أين الطاقة السالبة الآن؟

إنها في المكوّن الثالث من وصفتنا للكون وهو الفضاء، وفقًا لقوانين الطبيعة المُتعلقة بالجاذبية والحركة، الفضاء نفسه مخزنٌ للطاقة السالبة.

الكون والمادة اللذان نراهما اليوم هما الجزء الموجب من الأشياء (أي كالتل)، والحفرة المقابلة (الفضاء) هي الجزء السالب.

هذا يعني، إن كان الكون يساوي صفرًا فيمكنه أن يَنشأ من العدم، لكن يبقى السؤال الآن، من الذي سبّب الظهور التلقائيّ للكون؟

الأشياء لا تظهر تلقائيًا في عالمنا، لكن، إن سافرنا إلى عالم الكمّ هُناك شيءٌ مُختلف، سندخل إلى عالمٍ حيث يكون فيه ظهور شيء من العدم أمرًا ممكنًا، هذا لأنه على مستوى الجزيئات مثل البروتون وفقًا لقوانين ميكانيكا الكم، فيُمكنه فعلًا أن يظهر تلقائيًا ومن العدم.

وبما أننا نعلم أن الكون في بدايته كان أصغر من البروتون هذا يعني أن الكون بالرغم من ضخامته وتعقيده يُمكنه ببساطة أن يندفع للوجود من العدم دون أن يخترق قوانين الفيزياء والطبيعة التي نعرفها.

حياتنا الطبيعية تجعلنا نشعر أن لكل شيء حدث هناك سببٌ وقع قبله بُمدة من الزمن، لكن ميكانيكا الكم لا تخبرنا أن مجموع طاقة الكون صفرٌ فحسب، بل وأن الانفجار الكبير حدث دون سبب أيضًا.

بالعودة إلى نظريات آينشتاين، نجد أنه خلال الانفجار الكبير بدأ الزمن!

لا نستطيع أن نذهب لما قبل الانفجار الكبير، لأنه وببساطة لا يوجد زمنٌ قبل الانفجار الكبير، يُمكن أخيرًا إيجاد شيء ليس له سبب لأنه لم يكن هناك وقتٌ ليوجد سبب!

وأختم المقال باقتباس لآينشتاين: «إن أكثر شيء غير مفهوم عن الكون هو أنه قابلٌ للفهم».


  • تدقيق: تسنيم المنجّد
  • تحرير: زيد أبو الرب

المصدر:

كتاب: التصميم العظيم لستيفن هوكينج / كتاب: كون من لا شيء لـ لورانس كراوس