في البداية وقبل حوالي نصف مليار سنة من الآن، كانت الحياة بسيطة وتسير بانتظام وهدوء، وفجأة أصبحت البيولوجيا معقدة وبدأت الخلايا المتشابهة بفك القيود التي تربطها، وبدأت بتقسيم المهام والأعمال فيما بينها لتتحول إلى أول عضو في مملكة الحيوان. كيف ظهر السلف الأول للحيوانات ؟ سؤال كان محط النقاش لفترة طويلة.

كشفت دراسة جديدة أن شكلًا مبكرًا من الخلايا الجذعية قد يكون هو الخط الفاصل بين الميكروبات العتيقة (ancient microbes) والحيوانات البدائية (primordial animals).

يوجد اليوم اثنان من المزاعم المتنافسة حول (أول حيوان على الأرض) يميل العلماء إلى دعم إحداهما؛ فيزعم الفريق الأول أن الإسفنجيات (Sponge) (١) هي أول أشكال الحيوانات على الأرض بينما يزعم الفريق الثاني أن أول الحيوانات هي المشطيات (Comb Jelly) (٢).

وبالطبع يمتلك كل فريق أسبابًا كافية ليعتقد بأن الجد الأول لمملكة الحيوان هو بالضرورة قريب أو ينتمي إلى الشعبة الخاصة بهم عن غيرها من التصنيفات، إذ يبدو الإسفنج من الناحية التشريحية أقرب إلى الحيوان البدائي لو كنا سنتخيله، لكن الأمشاط رغم أنها تبدو أكثر تعقيدًا إلا أنها تمتلك جينات قديمة المظهر بشكل لافت.

بدأ علماء الأحياء في جامعة كوينزلاند في أستراليا البحث بشكل أعمق في الشيفرة الوراثية للإسفنج من خلال تحليل ما يعرف بترنسكريبتوم (transcriptome) (٣) فهو يصف النشاط الجيني خلال استمرار عمل الخلايا، وبسرعة أصبح هذا النوع من التحليل هو المفضل لدى علماء الأحياء الذين يرغبون في معرفة كيف تتصرف الخلايا ذات الجينوم المتماثل بهذه الطريقة الفريدة.

تقول عالمة الأحياء ساندي ديجنان (Sandie Degnan):

«لم تستخدم هذه التكنولوجيا إلا في السنوات القليلة الماضية، لكنها ساعدتنا أخيرًا في معالجة سؤال قديم، واكتشاف شيء مخالف تمامًا لما اقترحه أي شخص على الإطلاق».

«لدينا الآن فرصة لإعادة تصور الخطوات التي أدت إلى ظهور السلف الأول للحيوانات الأولى، والقواعد الأساسية التي حولت الخلايا المنفردة إلى حيوان حي متعدد الخلايا».

الخلايا المكونة لأجسامنا مناسبة بشكل فردي ومحدد لأداء مهام معينة كما هو الحال في عالم الحيوانات، هذا التمايز يصنف الكائنات الحية لدينا باعتبارها مجرد كتل متماثلة من الخلايا تتماسك معًا لحماية نفسها.

تخيل علماء الأحياء لأكثر من قرن أن هذه المستعمرات الأولى المتمايزة هي أقرب ما يمكن للأعضاء الحديثة من شعبة الإسفنجيات ولقبوها بالإسفنج البسيط (humble sponge).

ونظرًا لأن الخلايا القمعية (choanocytes) التي تبطن أحشاءها تبدو بشكل مثير للريبة شبيهة بتلك الكائنات التي تدعى السوطيات الطوقية أو مقتمعات السوط (choanoflagellates)، دعى ذلك علماء الأحياء للاعتقاد بأن القضية قد أغلقت على (أول حيوان في العالم).

تقول ديجنان: «اعتقد علماء الأحياء لعقود أن النظرية الحالية كانت غير عقلانية، إذ إن الخلايا القمعية الإسفنجية تبدو إلى حد كبير شبيهة بالكائنات أحادية الخلية (السوطيات الطوقية) وهي الكائنات التي تعتبر أقرب الأحياء للحيوانات».

ولكن يعرف علماء الأحياء أنه يمكن أن تكون كل هذه المظاهر خادعة، إذ يمكن ببساطة أن تكون السوطيات الطوقية تعاونت في يوم مشمس منذ 600 مليون عام لصنع إسفنج. لكن أظهرت الأبحاث اختلافات جوهرية من الناحية الجينية والكيميائية الحيوية بينها والخلايا الصفراوية الإسفنجية.

لتحقيق تقدم في الاختبارات، قارنت ديجنان وفريقها من الباحثين السلوكيات والنصوص لدورة حياة ثلاثة أنواع مختلفة عن طريق مقارنة أنسجة من الإسفنج الأصلي أو الأول والذي يدعى (Amphimedon queenslandica) مع تلك السوطيات الطوقية ونوعين متماثلين من الكائنات أحادية الخلية.

هذا الاختبار أشبه بمقارنة السلاسل الجينية لخلايا الإسفنج وخلايا ما قبل الحيوانات بل ومحاولة معرفة مدى التقارب بينهما وما إذا كانا ينتميان إلى نفس التصنيف، لكن بعد كل ذلك تبين أن خلايا الأمعاء لدى الإسفنج والسوطيات الطوقية (gut cells) لا تنتمي إلى ذات التصنيف.

والمفاجئ في الاختبار والأكثر دهشة هو التصنيف الذي ينتمي إلى نوع غير متمايز أو مختلف من الخلايا الإسفنجية تدعى الخلية الأميبية من اللحمة المتوسطة متعددة القدرات (pluripotent

mesenchymal archaeocyte)، وفي المقابل كانت خلايا الإسفنج التي لم تحسم أمرها تشبه إلى حد كبير سلف الحيوانات البدائية أكثر من تلك التي تحولت إلى خلايا الأمعاء أو الجلد.

يقول العالم البحري بيرني دجنان (Bernie Degnan) زميل العالمة ساندي ديجنان:

«لقد وجدنا أن السلف الأول للحيوانات متعددة الخلايا على الأغلب لم تكن مثل خلايا الإسفنج الحديثة، لكنها كانت أشبه بمجموعة من الخلايا القابلة للتغيير، كانت الجدة الأقدم لجميع الخلايا في مملكة الحيوانات، إذا جاز التعبير مماثلة بعض الشيء للخلية الجذعية». هذا له معنًى كبيرًا في بعض النواحي، إذ تكونت الحيوانات من مجموعة متنوعة أكبر من أنواع الخلايا بالمقارنة مع النباتات والفطريات.

تطوير موهبة للتكاثر بسرعة كان يمكن أن يعطي أسلافنا الحيوانية ميزة أثناء تجمعهم، ومن الممكن أن الحيوانات الأولى تميزت عن طريق تطوير أساليب تنظيمية تسمح بوجود أشكال متعددة من الخلايا المتمايزة في الوقت نفسه وفي ذات التجمع السكاني.

فهم كل هذا له آثار تتجاوز تطورنا حاليًا لكن يمكنه أن يساعدنا أيضًا في كشف التعقيدات الكامنة وراء السرطان، إنها الأيام الأولى لفريق الخلايا الجذعية (Team Stem Cell) لكن من الواضح بالفعل أن النقاش الدائر حول الحيوان الأقدم بعيد عن الحل حتى الآن.

(١) الإسفنجيات: هي حيوانات تدعى علميًا (Porifera) وتشكل شعبة مستقلة تدعى شعبة المساميات أو الإسفنجيات وهي كائنات بحرية ترشيحية التغذية يُضخ فيها الماء إلى داخل المطرس البيولوجي لترشيح الماء واستخلاص دقائق الطعام.

(٢) المشطيات: هي مجموعة من الحيوانات اللافقارية تعيش في المياه البحرية في جميع أنحاء العالم، وتشتهر بمجموعات الأهداب التي تستخدمها للسباحة تدعى (أمشاط).

(٣) ترنسكربيتوم: هي مجموعة كل جزيئات الحمض النووي الريبوزي التي تتضمن الحمض النووي الريبوزي المرسال والحمض النووي الريبوزي الريبوسومي والحمض النووي الريبوزي الناقل وغيرها من أنواع الحمض النووي الريبوزي غير المشفر التي يتم إنتاجها في خلية واحدة أو تجمع من الخلايا، تنتج جزيئات الحمض النووي الريبوزي تلك من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين.

اقرأ أيضًا:

الذكاء الاصطناعي يعثر على سلف شبحي غير معروف في الجينوم البشري

اكتشاف الحلقة المفقودة في سلف البشر أوسترالوبيثيكوس سيديبا

سلف غامض للإنسان كان يستخدم هذه الأدوات قبل 700 ألف سنة في الفلبين

ترجمة: عمر النبواني

تدقيق: محمد نجيب العباسي

مراجعة: رزان حميدة

المصدر