يعرف الباحثون منذ الخمسينيات أن الدماغ يشبه الحاسوب، تشغل فيه العصبونات وظيفة الدوائر الكهربائية في إجراء عدد كبير من الحسابات كل ثانية. وبعد ذلك بعقود، أثبت علماء اﻷعصاب وجود هذه الدوائر في الدماغ، لكن القيود التقنية أبقت أغلب تفاصيل هذه الحسابات بعيدة المنال.

أفصح علماء اﻷعصاب حديثًا عن إمكانية التعمق في دور هذه الدوائر الكهربية داخل الدماغ، ويرجع الفضل في ذلك إلى أحد الجزيئات التي تضيء بشدة استجابةً للتغيرات الكهربية الطفيفة التي تستعملها الخلايا العصبية لإجراء الحسابات.

تُعَد الجزيئات التي تضيء مع وجود أيونات الكالسيوم أنجح الوسائل الحالية لتتبع النشاط الكهربي للخلايا العصبية، إذ تعمل بديلًا للإشارة العصبية، عند تمرير عصبون إشارة كهربية إلى عصبون آخر.

غير أن تدفق الكالسيوم يُعَد أبطأ من أن يلتقط كل التفاصيل المرتبطة بالإشارة العصبية، وﻻ يستجيب لكل التغيرات الكهربية الطفيفة التي تؤدي إلى التدفق العصبي. (يمكن زرع أقطاب بدلًا من ذلك، لكنها قد تسبب ضررًا للعصبونات، إضافة إلى أنه من غير العملي تطبيق اﻷمر على عدد كبير من العصبونات دفعةً واحدة في الحيوانات).

وسيلة جديدة تمكن الباحثين من مشاهدة العصبونات في أثناء إجراء الحسابات - الدماغ يشبه الحاسوب، تشغل فيه الخلايا العصبية وظيفة الدوائر الكهربائية

لحل هذه المشاكل، ركز فريق من الباحثين بقيادة ميكائيل لين Michael Lin وستيفان ديودوني Stéphane Dieudonné، على الجزيئات المشعة fluorescent molecules التي تستجيب مباشرةً للجهد الكهربي في الخلايا العصبية، وأمضى لين وفريقه سنوات في العمل على هذه الفكرة.

ومع ذلك فلهذا النوع من الجزيئات مشاكله الخاصة، إذ ﻻ تستجيب إضاءته دائمًا للجهد الكهربي، لذا قرر لين وفريقه اللجوء إلى طريقة تعرف بيولوجيًّا بالتثقيب الكهربي Electroporation، وتعتمد على استعمال مسبار كهربي لثقب أغشية الخلايا، ما يؤدي إلى الانخفاض السريع للجهد الكهربائي (كما يحدث في بطارية مثقوبة)، وبتكرار العملية على مجموعة من الخلايا، يختار الفريق الخلايا التي تتمتع إضاءتها باستجابة أكبر للتحول في الجهد. تُعَد الخلايا الناتجة، المسماة ASAP3، أكثر مؤشرات الجهد استجابةً حتى اليوم.

في المقابل ركز ديودوني وفريقه على مشكلة أخرى: كيف نفحص العصبونات في الدماغ بطريقة أنجع؟ لتحفيز الخلايا المتفلورة كخلايا ASAP3 للإضاءة عميقًا في الدماغ، يستعمل الباحثون غالبًا طريقة تُسمى التصوير ثنائي الفوتون، التي تعتمد شعاع ليزر اﻷشعة تحت الحمراء الذي يستطيع اختراق النسيج، لكن لفحص عدة عصبونات بسرعة كافية لمشاهدة الإشارة العصبية، التي تدوم جزءًا من ألف جزء من الثانية، يجب على الباحثين تحريك بقعة الليزر بسرعة من عصبون إلى آخر، ما يصعب القيام به بدقة في الحيوانات.

الحل الذي قدمه ديودوني وفريقه لهذه المشكلة هو خوارزمية الإثارة فائقة السرعة للحجم المحلي Ultrafast Local Volume Excitation (UloVE)، ويفحص فيها الليزر عدة نقط في المساحة المحيطة بالعصبون دفعةً واحدة. يقول ديودوني: «تعتمد هذه التقنية تشكيل كل ذبذبة ليزر وإرسالها إلى الحجم المناسب في النسيج، وهو الاستعمال اﻷمثل لقوة الضوء، ونأمل أن يمكننا هذا من تسجيل ملايين المناطق في الدماغ وتحفيزها كل ثانية».

بجمع التقنيتين معًا، تمكن الباحثون من تتبع التفاصيل الدقيقة لنشاط الدماغ عند الفئران في أكثر القشرة الدماغية، وهي الطبقة العليا من الدماغ التي تتحكم في الحركة واتخاذ القرارات إضافةً إلى وظائف معرفية عليا أخرى. يقول لين: «يمكنك اﻵن النظر إلى العصبونات في أدمغة الفئران وهي حية بدقة عالية، ويمكنك تتبع هذا النشاط الدماغي لمدة زمنية طويلة».

تمهد هذه التقنية الطريق لدراسة كيفية معالجة العصبونات للإشارات القادمة من عصبونات أخرى وكيفية اتخاذ القرارات -إن جاز التعبير- في أثناء التدفق العصبي، إضافةً إلى دراسة التغير في كيفية إجراء الحسابات في العصبونات عبر الزمن.

يركز لين وفريقه حاليًا على الاستمرار في تطوير وسائلهم. يقول لين: «خلايا ASAP3 قابلة للاستعمال جيدًا حاليًا، لكننا واثقون من وجود ASAP4 وASAP5 مستقبلًا».

اقرأ أيضًا:

المرونة العصبية ودورها في علاج الإدمان

اكتشاف خلايا دماغية نوعية للجنس داخل أدمغة الفئران

ترجمة: حمزة جبار

تدقيق: زيد الخطيب

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر