ما الدور الذي لعبته بعض أنواع البكتيريا التي عاشت قبل 2.5 مليار عام في تطوّر الحياة على الأرض قبل تكوين الأكسجين في غلافنا الجوي؟


في نقطةٍ ما بين بداية تشكّل الأرض والحياة في يومنا هذا، كان الغلاف الجوي للأرض شبه خالٍ من الأكسجين، على الرغم من ذلك وجد العلماء أنها لم تكن خالية من الحياة.

إذ يعتقد العلماء أنّ للنصف الأول من عمر الأرض الذي يبلغ اليوم حوالي 4.5 مليار عام، دورٌ مهم في نشوء وتطوّر الأشكال الأوليّة للبكتيريا القديمة، ولكن لازالت الأدلة ضعيفةً ومبعثرة، مثيرةً بذلك بعض التساؤلات كإمكانية نجاتها واستمرارها في بيئةٍ تحتوي على واحدٍ بالألف من الواحد بالمئة (0.001%) من مقدار الأكسجين الموجود اليوم في غلافنا الجوي.

ولكن بالنسبة إلى أحد البحوث الحديثة في جامعة سينسيناتي الأمريكية في ولاية أوهايو، فإنّ الأدلة على وجود البكتيريا في هذا العصر المبكّر، وُجدت كمتحجراتٍ في موقعين مختلفين من محافظة كيب الشمالية في جنوب أفريقيا، ويوضّح ذلك البروفيسور المساعد تشايا Czaja، في جامعة سينسيناتي بأنّ هذه المتحجّرات تمثّل أقدم شكلٍ نعرفه اليوم لبكتيريا الكبريت، التي ستساعدنا في فهم طبيعة النظام البيئي وتنوّع الحياة في الفترة التي سبقت حدث الأكسجة العظيم (ظهور الأكسجين الحر في الغلاف الجوي من مصادر حيوية بكميات كبيرة)، والذي يُعتبر فترةً إنتقاليةً كبرى في تطور الغلاف الجوي للأرض.

ويبيّن الدكتور تشايا أنّ الطبقة الصخرية الغنية بالسيليكا المعروفة بصخور الصوان الرسوبي (Chert rocks) التي عثروا فيها على هذه المتحجّرات عام 2014 تقع قرب قرية كورومان في جنوب أفريقيا فيما يعرف بكراتون كابفال Kaapvaal craton (هو جزءٌ قديم مستقر من الغلاف الصخري للأرض حيث يتكون الغلاف من من طبقتين أرضيتين علويتين، القشرة والوشاح العلوي)، وتبلغ من العمر 2.52 مليار عام، قد احتوت على عيّناتٍ من البكتيريا كانت تعيش في بيئةٍ شديدة الظلام في القاع العميق للمحيط في الفترة الجيولوجية المعروفة بالحقبة السحيقة الحديثة قبل 2.5 إلى 2.8 مليار عام.

وتمتّعت هذه البكتريا التي عاشت قبل ملياري عامٍ من ظهور أوّل النباتات والأشجار (التي ظهرت قبل ما يقارب 450 مليون عام) بأشكالٍ كروية، وأحجامٍ كبيرة بشكلٍ استثنائي مقارنةً بأحجام البكتيريا في يومنا هذا، محاطًة بجدران ملساء، ومقاربة لبعض الكائنات أحادية الخلية التي تحيا في قاع المحيطات وفي بيئةٍ غنيةٍ بالكبريت، وتكاد تكون معدومة الأكسجين.

وبذلك يأتي هذا الاكتشاف كدليلٍ جديدٍ يدعم فرضيّة العلماء بوجود أشكالٍ للحياة في الغلاف الجوي القديم الذي يحتوي على أقل من 1% من الأوكسجين الحر، تعيش في أطيان المياه العميقة حيث لا تحتاج إلى ضوء الشمس أو الأكسجين للحصول على الطاقة، ولكن لم تكن لديهم الأدلة الكافية فيما سبق.

ويناقش الدكتور تشايا ذلك بأنّ العثور على صخورٍ بهذا العمر حالةٌ نادرةٌ جدًا، وبذلك فإنّ معرفة الباحثين بهذه الحقبة الجيولوجية يعتمد على العيّنات المأخوذة من مواقع جغرافية قليلة مثل كيب الشمالية في جنوب أفريقيا والأخرى في غرب أستراليا.

مما جعل العلماء العلماء خلال السنوات الماضية يفترضون إمكانية انتماء هذه البقعتين في يومٍ ما إلى قارّة واحدة ضخمة تعرف بـ فالبار Vaalbara، قبل أن تتعرض للانفصال نتيجة لحركة الصفائح التكتونية المستمرة.

و باستخدام تقنيات القياس الإشعاعي والتحليل الهندسي المقياسي لنظائر العناصر في الصخور لتحديد عمرها الجيولوجي، استطاع الدكتور تشايا القول بأنّ هذه العيّنات تنتمي إلى صخورٍ قديمة تشكّلت في قاع البحر التابع لهذه القارّة الضخمة في صخور غنية بمركب الكبريتات.

وبحسب هذا المقياس فإن هذه البكتيريا قد انتشرت بوقتٍ قصير سابق للعصر الذي انتشرت فيه بكتيريا المياه الضحلة، والتي قامت بإنتاج المزيد والمزيد من الأكسجين في الغلاف الجوي كناتجٍ ثانوي لعملية البناء الضوئي. ويشار إلى هذه الفترة بحدث الأكسجة العظيم، قبل ما يقارب 2.4 إلى 2.2 مليار عام.

تُظهر الصورة بعض التراكيب المجهرية ذات خصائص فيزيائية مشابهة للبكتيريا الكروية أو العنقودية.

وتوضّح النماذج الأحفورية مجموعات كبيرة من البكتيريا، حيث كانت تعيش في الرواسب العميقة، منهمكة باستهلاك مركبات كبريتيد الهيدروجين ذات الرائحة الشبيهة برائحة البيض الفاسد، ثم تقوم بطرح الكبريتات بشكلٍ غازي عديم الرائحة، وهو مشابه إلى حدٍ كبير لما تقوم به البكتيريا اليوم التي تقوم بتدوير المركبات العضوية المتحللة إلى عناصر أولية وغازات. حيث يمكن اعتبار الفضلات التي تنتجها أحد أنواع البكتيريا كغذاءٍ لأنواعٍ أخرى.

واختتم الدكتور تشايا حديثه بأنّه لا يستطيع الجزم حول ما إذا كانت هذه البكتيريا القديمة مطابقة للبكتيريا اليوم، ولكنّه يخمّن بأنّها كانت تقوم بنفس العمليات الكيميائية التي تقوم بها البكتيريا هذه الأيام، حيث من الممكن أنّها كانت تستهلك المركبات الذائبة من المعادن الغنية بالكبريت القادمة من الصخور في اليابسة نتيجة لعوامل التآكل والتعرية ثم تنجرف إلى البحر، أو من البقايا البركانية في قاع البحر.

ولكن لا زال النقاش قائمًا حول الفترة التي انتعشت فيها هذه البكتيريا (البكتيريا المؤكسدة للكبريت) وكيف يمكن أن تكون لها يدٌ في عملية تطوّر الحياة على الأرض، ولكنّ هذه المتحجّرات تخبرنا بأنّ هذه البكتيريا كانت موجودة قبل 2.52 مليار عام، وبأنّها كانت تقوم بأعمال رائعة ومميّزة.


ترجمة: مصطفى الشوك
تدقيق: جعفر الجزيري
المصدر