تميزت الثورة الصناعية بفترة من التنمية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر تحولت بموجبها المجتمعات الريفية والزراعية في أوروبا وأمريكا إلى مجتمعات صناعية متمدنة.

بدأت البضائع التي كانت تُصنع حرفيًا ويدويًا بدأب وكدّ تُنتَج بكميات ضخمة في المصانع بفضل استحداث آلات وتقنيات جديدة في النسيج وصناعة الحديد والصناعات الأخرى.

بدأت الثورة الصناعية -التي أعطاها استخدام الطاقة البخارية دفعة قوية إلى الأمام- في بريطانيا، وانتشرت بعدها إلى الولايات المتحدة بحلول ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، وإلى سائر العالم.

يشير المؤرخون المعاصرون إلى هذه الفترة بالثورة الصناعية الأولى تمييزًا لها عن فترة ثانية من التصنيع حدثت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وشهدت تقدمًا كبيرًا في الفولاذ والكهرباء وصناعة السيارات.

إنكلترا: مهد الثورة الصناعية

كان مناخ بريطانيا الرطب وملاءمته لتربية الأغنام من العوامل المؤثرة في امتلاك هذه الأمة تاريخًا طويلًا في إنتاج النسيج مثل الصوف والكتان والقطن. قبل الثورة الصناعية، كانت تجارة النسيج البريطانية صناعة صغيرة ومنزلية ينجزها عمال الغزل والحائكون والصباغون في الورش الصغيرة وحتى في المنازل.

في منتصف القرن الثامن عشر، جعلت ابتكارات مثل المكوك الطائر ودولاب الغزل والرافعة المائية والنول الكهربي نسج القماش والغزل والخيوط أسهل بكثير، إذ أصبح إنتاج القماش أسرع وتطلب وقتًا وعملًا أقل.

أظهر الإنتاج الآلي الأكثر كفاءة أن مصانع النسيج البريطانية الجديدة بإمكانها تلبية احتياجات الطلب المتزايد على القماش سواءً للمستهلك المحلي أو للتصدير إلى الخارج، إذ وفرت المستعمرات سوقًا محتكَرة لبضائعها. وشهدت صناعة الحديد البريطانية ابتكارات جديدة.

من الصناعات المبتكرة التي برزت حديثًا صهر الحديد بفحم الكوك -مادة تنتج عند تسخين الفحم- بدلًا من صهره باستخدام الفحم الحجري التقليدي، كانت هذه الطريقة أرخص وأنتجت مادة عالية الجودة، وسمحت لإنتاج الحديد والفولاذ البريطاني بالتوسع استجابة للطلب الذي أوجدته الحروب النابليونية بين عامي 1803 و1815، والنمو الذي شهدته لاحقًا صناعة السكك الحديدية.

الثورة الصناعية: كل ما يجب أن تعرفه عنها - كيف تحولت المجتمعات الريفية والزراعية في أوروبا وأمريكا إلى مجتمعات صناعية متمدنة

أثر طاقة البخار

برزت الطاقة البخارية -أحد رموز الثورة الصناعية- أوائل القرن الثامن عشر، عندما صمم توماس نيوكومين نموذجًا لأول محرك بخاري حديث. عمل محرك نيوكومين الذي سماه «المحرك البخاري الهوائي» على تشغيل الآلات المستخدمة في ضخ المياه خارج الأبراج المستخدمة في تهوية المناجم.

بدأ المهندس الأسكتلندي جيمس وات في ستينيات القرن الثامن عشر بإضافة تعديلات على نموذج نيوكومين، إذ ألحق بالمحرك جهاز تكثيف مياه منفصل جعل المحرك أكثر فعالية وكفاءة بأشواط. تعاون وات لاحقًا مع جيمس بولتون لاختراع محرك بخاري دائري الحركة، ما جعل الصناعات البريطانية ومنها صناعات الطحين والورق، ومصانع القطن والحديد ومعامل التقطير والمحطات المائية وقنوات المياه تعتمد في تشغيلها على الطاقة البخارية.

كانت العلاقة بين الفحم و الطاقة البخارية تكاملية، فمع حاجة المحركات البخارية إلى الفحم لتعمل، مكَّنت الطاقة البخارية المعدِّنين من الحفر عميقًا واستخراج المزيد من هذا المصدر الرخيص نسبيًا للطاقة. زاد الطلب على الفحم بسرعة هائلة في أثناء الثورة الصناعية وبعدها، إذ لم يكن ضروريًا فقط لتشغيل المصانع المستخدمة لإنتاج البضائع المصنعة، بل كان أيضًا ذا أهمية كبيرة للقطارات والسفن البخارية المستخدمة في نقل هذه البضائع.

النقل زمن الثورة الصناعية

شهدت شبكة الطرق في بريطانيا -التي كانت بدائية وقديمة نسبيًا قبل عهد التصنيع- نهضة عملاقة، ففي فترة قصيرة وصل طول الطرق والقنوات المستخدمة في أرجاء بريطانيا إلى أكثر من ألفي ميل بحلول عام 1815.

في أوائل القرن التاسع عشر عرض ريتشارد تريفثيك للمرة الأولى قطارًا يعمل بالبخار، وسنة 1830 بدأت قطارات مشابهة بنقل الشحنات والمسافرين بين المراكز الصناعية في مانشستر وليفربول. آنذاك كانت القوارب والسفن البخارية تُستخدَم على نطاق واسع وتنقل البضائع على طول أنهار بريطانيا وقنواتها وعبر المحيط الأطلنطي أيضًا.

الاتصال والأعمال البنكية في أثناء الثورة الصناعية

شهدت الفترة الأخيرة من الثورة الصناعية تقدمًا مهمًا في وسائل التواصل إذ ظهرت الحاجة إلى تواصل فعَّال نظرًا إلى بعد المسافات. سنة 1837 سجل المخترعان البريطانيان ويليام كوك وتشارلز ويتستون براءة اختراع أول نظام للإرسال التلغرافي التجاري، وفي الوقت ذاته كان سامويل مورس ومخترعون آخرون يعملون على نماذجهم الخاصة في الولايات المتحدة. سيُستخدَم اختراع كوك وويتستون لاحقًا في إرسال الإشارات في شبكة السكك الحديدية، لأن سرعة القطارات الجديدة قد أوجدت الحاجة إلى وسائل اتصال أكثر تطورًا.

بلغت البنوك والممولون الصناعيون مرحلة جديدة من البروز والتميز في أثناء الثورة الصناعية، إضافةً إلى نظام العمل المعتمد على الملاك والمديرين. تأسست بورصة لندن في سبعينيات القرن الثامن عشر، أما بورصة نيويورك فقد ظهرت في تسعينيات القرن ذاته.

سنة 1776، نشر الفيلسوف الاجتماعي الأسكتلندي آدم سميث (1723-1790) -الذي يُعد مؤسس علم الاقتصاد الحديث- كتاب «ثروة الأمم» الذي روَّج فيه لنظام اقتصادي قائم على التجارة الحرة والملكية الفردية لوسائل الإنتاج وعدم التدخل الحكومي.

ظروف العمل

مع أن الكثير من الناس في بريطانيا قد بدؤوا بالانتقال من المناطق الريفية إلى المدن قبل الثورة الصناعية، تسارعت هذه الهجرة كثيرًا بحلول عهد التصنيع، إذ حوَّل ظهور المصانع الكبيرة البلدات الصغيرة إلى مدن رئيسية خلال عقود قليلة. جلب هذا التمدن السريع تحديات وصعوبات كبيرة تمثلت في معاناة المدن المزدحمة من التلوث وقصور نظام الصرف الصحي ونقص مياه الشرب النظيفة.

ومع أن التصنيع قد زاد من الإنتاج الاقتصادي وحسَّن مستوى معيشة الطبقتين العليا والوسطى، ظلت الطبقة العاملة والفقيرة تعاني. فقد أدت مكننة العمل الناتجة عن الابتكارات التقنية إلى جعله شاقًا في المصانع وخطيرًا في بعض الأحيان، إذ أُجبِر الكثير من العمال على العمل ساعات طويلة مقابل أجور زهيدة. وقد أثار هذا التحول احتجاجات وحركات معارضة للتصنيع نذكر منها حركة «لوديتس» المعروفة بمقاومتها العنيفة للتغيرات التي طرأت على صناعة النسيج البريطانية.

في العقود التالية، أدى السخط والغضب من ظروف العيش والعمل التي كانت دون المستوى المطلوب إلى تشكيل اتحادات العمال وتمرير قوانين جديدة لعمالة الأطفال، وتشريعات في مجال الصحة العامة في بريطانيا والولايات المتحدة. هدفت هذه القوانين إلى تحسين حياة الطبقة العاملة والمواطنين الفقراء الذين تأثروا سلبًا بسبب التصنيع.

الثورة الصناعية في الولايات المتحدة

تعود بدايات عهد التصنيع في الولايات المتحدة إلى افتتاح المهاجر الإنكليزي سامويل سلاتر القادم حديثًا إلى الولايات المتحدة أول مصنع نسيج في باوتبكيت- رود آيلاند عام 1793. عمل سلاتر أولًا في أحد المصانع التي افتتحها ريتشارد أركرايت، مخترع الرافعة المائية. ومع أن قوانين العمل تمنع هجرة النساجين، فقد هاجر سلاتر وجلب معه تصاميم أركرايت من إنكلترا أيضًا. لاحقًا بنى سلاتر عدة مصانع قطن في نيو إنغلند وعُرف بأبي الثورة الصناعية الأمريكية.

سلكت الولايات المتحدة طريقها الخاص نحو التصنيع، معتمدةً على ابتكارات استعارتها من بريطانيا وعلى مخترعين من أبنائها مثل إيلي وايتني الذي اخترع محلاج القطن عام 1793 وأحدث ثورة في صناعة القطن في البلاد، وعزز من تمسك الجنوب بالعبودية لاعتماده على المستعبَدين في جني القطن.

بحلول نهاية القرن التاسع عشر ومع استمرار الثورة الصناعية الثانية، انتقلت الولايات المتحدة من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي متنامٍ، مع ما رافق ذلك من مشكلات. بحلول منتصف القرن التاسع عشر كان التصنيع قد تأسس على أرضية قوية وصلبة في غرب أوروبا وشمال شرق أمريكا. وبحلول أوائل القرن العشرين أصبحت الولايات المتحدة الدولة الصناعية الأولى في العالم.

يتجادل المؤرخون بشأن العديد من جوانب التصنيع منها التوقيت الزمني الدقيق، ولماذا انطلق من بريطانيا ولم ينطلق من أجزاء أخرى من العالم، وبشأن الفكرة القائلة إنه كان تطورًا تدريجيًا أكثر منه ثورة. تبقى إيجابيات الثورة الصناعية وسلبياتها معقدة، فمن جهة كانت ظروف العمل غير الآمنة شائعة، وما نزال حتى اليوم نعاني التلوث الناجم عن استخدام الفحم وانبعاث الغازات. على الجانب الآخر أدى الانتقال إلى المدن والابتكارات التي جعلت الملابس والتواصل والنقل بأسعار معقولة متاحة للجميع إلى تغيير مسار تاريخ العالم. بصرف النظر عن هذه الأسئلة، فإن الثورة الصناعية قد أحدثت تأثيرًا اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا ثوريًا، وكان لها دور أساسي في تأسيس المجتمع المعاصر.

اقرأ أيضًا:

اكتشاف تفاصيل أقدم طرق التحنيط

دراسة للحمض النووي تكشف التاريخ المروع لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: تسنيم المنجد

المصدر