بزغ فجر الإمبراطورية الرومانية عام 27 قبل الميلاد، لما منح مجلس الشيوخ الروماني أوكتافيان- الابن الذي تبناه يوليوس قيصر وأصبح وريثه- لقب أغسطس أي الموقر أو المعظَّم. إن كان لهذا اللقب أي دلالة فقد دل على ارتقاء أوكتافيان لمنصب إمبراطور في جميع النواحي باستثناء الاسم فقط، ما شكل نهاية للجمهورية الرومانية كما يرى العديد من المؤرخين المعاصرين.

حصل أوكتافيان على هذا اللقب بعد خروجه منتصرًا من سلسلة من الحروب الأهلية التي أشعلها اغتيال يوليوس قيصر عام 44 ق.م. في خضم هذه الحروب حارب مارك أنطونيو -جنرال قيصر السابق- بعضًا من مغتالي قيصر من أجل الهيمنة على العالم الروماني، وتحالف لاحقًا مع كليوباترا ليقاتلا أوكتافيان.

في حين واصلت بعض مؤسسات الجمهورية أداء عملها -كمجلس الشيوخ- بعد عام 27 ق.م، فإن نفوذها وسلطتها قد تقلصا وانتقلا إلى يد أغسطس وخلفائه.

باكس رومانا- السلام الروماني:

يستخدم مؤرخو الزمن الحالي مصطلح «السلام الروماني» لوصف الحقبة الممتدة بين عامي 27 ق.م -عندما مُنِح أوكتافيان لقب أغسطس- وعام 180 بعد الميلاد لما توفي الإمبراطور ماركوس أوريليوس. تُستخدَم هذه العبارة أحيانًا للإشارة إلى كونها حقبة مستقرة نسبيًا في التاريخ الروماني مقارنةً بحقب أخرى سابقة ولاحقة.

ومع ذلك فإن السلام كان نسبيًا في هذه الحقبة، إذ شهدت الإمبراطورية الرومانية الكثير من الحروب والاغتيالات والنزاعات الأهلية. حاول أغسطس تصوير عهده –الذي استمر حتى موته عام 14 م.- بأنه زمن سلام نسبي.

في كتاب «السلام الروماني: حرب وسلام وفتوحات في العالم الروماني» للمؤرخ أدريان غولدورثي، نجد الآتي: «معظم الصور التي جسدت أغسطس –خاصةً في النقوش والتماثيل النصفية- لم تظهره بهيئة قائد جيش أو جنرال، باستثناء القليل».

مع أن أغسطس أراد إظهار عهده بأنه عهد سلام فإن الواقع يختلف تمامًا، ففي أثناء حكمه حارب الجيش الروماني في أيبيريا واستولى على مناطق لم تكن تحت السيادة الرومانية. وتقدم عميقًا في ألمانيا الحالية على أمل بسط السيادة الرومانية عليها، لكن هذه الآمال تبخرت أمام كارثة سحق ثلاثة فيالق رومانية عن بكرة أبيها وقائدها كوينتيليوس فاروس في معركة غابة تويتوبورغ عام 9 م.

زعم المؤرخ الروماني سوتونيوس –الذي عاش بين عامي 70 و122 م.- أن هذه الهزيمة قد خلفت أثرًا عميقًا في أغسطس، يقول: «أثرت فيه الكارثة أبلغ التأثير، لدرجة أنه ولشهور متتالية لم يقص شعره أو لحيته، وكان أحيانًا يضرب رأسه بالباب صارخًا: كوينتيليوس فاروس، أعد إلي فيالقي! وكان يستحضر يوم الكارثة كل عام بوصفه يومًا للحزن والعويل».

أيضًا يزعم المؤرخ الروماني تاكتس (55 -120 م.) أن أغسطس في وصيته الأخيرة قد نصح خليفته وابنه المُتبَنى تيبريوس بألا يوسع الإمبراطورية، بل يبقيها ضمن حدودها الحالية. التزم تيبريوس فعلًا بالنصيحة وأبقى الإمبراطورية ضمن حدودها، أما الأباطرة اللاحقين فلم يعملوا بها، إذ شهد العالم الروماني مغامرات عسكرية للجيش الروماني انتهت بكوارث.

لم يبخل باكس رومانا بالصراعات والحروب الأهلية، بل غصَّ بها، فقد اغتال أفراد من الحرس الإمبراطوري- فرقة مهمتها حماية الإمبراطور- الإمبراطور كاليغولا الذي حكم بين عامي 37-41 م.، أما عهد نيرون (54-68 م.) فقد انتهى بحرب أهلية. اغتيل الإمبراطور دوميتيان (81-96 م.) أيضًا خلال حقبة باكس رومانا.

انطلقت أقوى الفتوحات العسكرية وأشدها -بعد وفاة أغسطس- في أثناء حكم الإمبراطور كلوديوس، الذي امتد عهده بين عامي 41-54 م. نجح كلوديوس وخليفته نيرون في غزو إنكلترا واحتلالها. في حملتهم على إنكلترا كاد الرومان أن يفشلوا، وكانوا قاب قوسين أو أدنى أن يُطردوا في خضم معاركهم مع بوديكا ملكة إيسيني عامي 60 و61 م.، لكن في النهاية خرجت الإمبراطورية الرومانية منتصرةً وضمت إنكلترا لحظيرتها، واحتفظت بها حتى عام 410 م.

لكن لم ينجح الرومان في مسعاهم لغزو أسكتلندا. في إحدى محاولاتهم الشهيرة التي وقعت في عهد الإمبراطور أنطونيوس بيوس (138-161 م.) استطاع الرومان الاستيلاء على جزء من أسكتلندا وبنوا سلسلة من التحصينات، يطلق عليها المؤرخون حاليًا «الجدار الأنطوني». في المقابل لم يستطع خلفاء أنطونيوس الاحتفاظ بأي جزء من اسكتلندا وتراجعت القوات الرومانية أخيرًا إلى «جدار هارديان» شمال إنكلترا، قرابة عام 160 م.

سعى حكام رومان آخرون إلى توسيع الإمبراطورية في أثناء حكمهم. أطلق الإمبراطور تراجان (98-117 م.) محاولة طموحة سعيًا لزيادة مساحة الإمبراطورية الرومانية، وهزم داشيا، إقليم يقع قرب رومانيا الحالية. احتفظ الرومان بداشيا حتى عام 270 م.

حاول تراجان أيضًا احتلال العراق. ومع أنه نجح في التقدم إلى الخليج الفارسي، لم تستطع قواته تثبيت أقدامها في الإقليم، وانسحب خليفته هارديان (117-138) من العراق، وركَّز اهتمامه على تحصين حدود الإمبراطورية الحالية وتعزيزها.

شهدت الإمبراطورية أيضًا خلال باكس رومانا تمردات وانتفاضات لا حصر لها، ففي يهودا ثار اليهود، ونتج من تمردهم تدمير القوات الرومانية الهيكل الثاني في القدس، الموقع الأقدس لدى اليهود، وهجر موقع قمران.

قامت عدت تمردات في يهودا في أثناء باكس رومانا، انتهى أحدها عام 136 م. بذبح القوات الرومانية أكثر من نصف مليون يهودي، أما الناجون فقد انتشروا وتبعثروا في أصقاع الأرض.

نهاية حقبة باكس رومانا:

يذكر دايفيد بوتر -أستاذ التاريخ الروماني والإغريقي في جامعة ميشيغان- في كتابه «الإمبراطورية الرومانية في مأزق حرج» أنه بعد وفاة ماركوس أوريليوس عام 180 م. أصبح ابنه كومودس إمبراطورًا، وقد عصفت المشكلات الداخلية بالإمبراطورية خلال حكمه. ونجا من محاولة اغتيال فاشلة عام 182، لكنها أدت إلى قتل عدد كبير من الناس الذين اتُهموا بانخراطهم في المؤامرة، ومنهم مستشاري ماركوس أوريليوس في مجلس الشيوخ.

في 31 ديسمبر 192 م. قتل نارسيس – لاعب رياضي درَّب كومودوس في معارك المصارعين- الإمبراطور. تبع اغتيال كومودس اندلاع حرب أهلية في عموم الإمبراطورية الرومانية، وأصبح عام 193 م. معروفًا بعام الأباطرة الخمسة.

انتصرت في الحرب الأهلية قوات موالية للقائد العسكري سيبتموس سيفيروس (193-211 م.). باشر سيفيروس –بعد هيمنته على الإمبراطورية- بسياسة جديدة هدفها محاولة توسيع حدود الامبراطورية، أطلق على إثرها حملات عسكرية صوب سورية والعراق الحاليين.

نجح سيفيروس في إخضاع المنطقتين لكن كان لذلك كلفة عالية، إذ يذهب المؤرخ المعاصر لتلك الحقبة كاسيوس ديو (155-235) إلى أن المنطقة الجديدة كانت سببًا لحروب مستمرة أدت إلى تكاليف باهظة. حاول سيفروس أيضًا إخضاع أسكتلندا، لكنه لقي حتفه في أثناء الحملة.

بعد وفاة سيفيروس بدأت حقبة طويلة من عدم الاستقرار والفوضى، زاد من شدتها غزو جماعات البربر، واحتلال قبائل القوط اليونان.

انتشرت سلسلة من الأوبئة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية بين عامي 250-271 م.، أُطلق عليها «طاعون قبرص/ سبيريان» تيمنًا باسم أسقف قرطاج الذي اعتقد أن العالم مقبل على نهايته. لقي إمبراطوران رومانيان على الأقل مصرعهما إثر هذا الطاعون.

كانت الآثار المترتبة على الطاعون مهولة، إذ يروي سبيريان في كتابه (دي مورتاليت) معاناة الناس من هذا الوباء: «تضطرم الأحشاء بالقيء المستمر الذي لا يتوقف، وتحتقن العيون بالدماء التي تسبب شعورًا بالاحتراق»

إصلاحات دقليديانوس:

شهد عهد الإمبراطور دقليديانوس استقرارًا نسبيًا، إذ سنَّ سلسلة من الإصلاحات الجذرية، فبدلًا من إمبراطور واحد، أرسى دقليديانوس «حكومة الأربعة» التي تتألف من أربعة أباطرة يتشاركون الحكم، مع أنه كان أهم الأربعة. جاءت هذه الخطوة سعيًا لإيصال حكومة الإمبراطورية إلى عتبة الاستقرار.

أدخل دقليديانوس إصلاحات على الاقتصاد وسك العملة ومنظومة المقاطعات ونظام القضاء، بهدف إيجاد حالة من الاستقرار في أوصال الإمبراطورية المترنحة.

سعى أيضًا إلى منع أبناء الأباطرة الأربعة من خلافة أبائهم، إذ اعتمد على نظام التعيين الذي يجريه أكبر إمبراطورين سنًا.

تنازل دقليديانوس عن الحكم عام 305 م.، آملًا أن يكون نظام حكومة الأربعة قادرًا على تحقيق انتقال سلمي للسلطة، لكن بعد ذلك بوقت قصير دخلت الإمبراطورية حربًا أهلية جديدة وانتهى العمل بنظام الأباطرة الأربعة.

نهوض المسيحية:

مع توالي المصائب على الإمبراطورية الرومانية، من حروب أهلية وغزو وأوبئة، نمت شعبية الديانة المسيحية. حقيقة أن الأباطرة الرومان كانوا يسقطون صرعى أمام المرض، ولم يكن بحيلة الكهنة الوثنيين أي شيء يفعلونه أو يشرحونه لإيقاف تفشي الوباء، عززت مصداقية العقيدة المسيحية. وكان لانتشار الوباء واحتمالية الموت المرتفعة أثرًا في تقبل المسيحيين الشهادة بصدر رحب.

واجه المسيحيون الاضطهاد رغم تزايد شعبية دينهم، إذ اضهدهم دقلديانوس خصوصًا، وأصدر مراسيم تأمر بتدمير كنائسهم ومخطوطاتهم واستعباد أي رجل حر يتحول إلى المسيحية، وعدم السماح لهم باللجوء إلى المحاكم والقضاء حال تعرضهم لهجوم أو اعتداء. تفاوتت درجة تطبيق مراسيم دقلديانوس في أرجاء الإمبراطورية الرومانية بين منطقة وأخرى.

غيرت الحرب الأهلية التي حلت بالإمبراطورية بعد تنازل دقلديانوس عن الحكم الموقف لصالح المسيحية كثيرًا. يُنسب الفضل إلى قسطنطين لسبغ صفة الشرعية على الديانة المسيحية، لكن في الواقع، أصدر عدة حكام متنافسين مراسيم لتشريع المسيحية عام 310.

في النهاية كان قسطنطين أحد أبناء أحد الأباطرة الأربعة، الذي انتصر في الحرب الأهلية وأصبح حاكمًا على عموم الإمبراطورية الرومانية عام 324 م. يعتقد الكثير المؤرخين المعاصرين أن قسطنطين قد اعتنق المسيحية في أثناء توليه الحكم، وعُمِّد قبل موته عام 337.

اندلعت حرب أهلية أخرى، في العقود التالية لموت قسطنطين، رغم نمو المسيحية تدريجيًا لتصبح الديانة الرسمية للإمبراطورية عام 380م.، وتنعكس الآية إذ أصبح الوثنيون عرضةً للاضطهاد والملاحقة.

سقوط الإمبراطورية الرومانية:

أمر قسطنطين بإنشاء مدينة جديدة أطلق عليها القسطنطينية، إسطنبول حاليًا. وبعد وفاته تصارع أحفاده للسيطرة على الإمبراطورية.

برز على السطح تدريجيًا نظام تمثل بوجود إمبراطور في النصف الغربي من الإمبراطورية الرومانية، وإمبراطور ثان –يحكم من القسطنطينية- يتحكم في النصف الشرقي. في بعض الأحيان تعاون الإمبراطوران وفي أحيان أخرى تصارعا، وظهرت بوادر الشقاق الديني، إذ أدى الاختلاف بين قسمي الإمبراطورية إلى ظهور الكنيسة الكاثوليكية التي اتخذت من الإمبراطورية الغربية مقرًا لها، والكنيسة الأرثوذكسية في الإمبراطورية الشرقية.

اختلف مصيرا قسمي الإمبراطورية، ففي القرنين الرابع والخامس واصلت الإمبراطورية الشرقية النمو والازدهار، وتمكنت من صد هجمات البرابرة، أما النصف الغربي فتدهور تدريجيًا وواصل فقدان أراضيه لصالح جماعات مختلفة استباحت حدود الإمبراطورية الرومانية.

أغارت جماعات القوط والفاندال والهون على الإمبراطورية الغربية. ونُهبت روما وهوجمت مرتين، الأولى على يد القوط عام 410، ثم الفاندال عام 455، ويمثل عام 476 نهاية الإمبراطورية الرومانية الغربية رسميًا.

أما الإمبراطورية الرومانية الشرقية فظلت متماسكة وتغير اسمها إلى الإمبراطورية البيزنطية. يستخدم المؤرخون المعاصرون هذا المصطلح مع أن من عاشوا في الإمبراطورية ظلوا يسمون أنفسهم الرومان.

كانت الضربة القاضية التي أنهت وجود الإمبراطورية الرومانية فعليًا على يد الجيش العثماني، الذي استولى على القسطنطينية عام 1453م.

اقرأ أيضًا:

اغتيال يوليوس قيصر وانهيار الإمبراطورية الرومانية

الإمبراطورية البيزنطية

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: نور عباس

المصدر