في عام 1980، أجرى فريق من الباحثين بقيادة الفيزيائي لويس ألفاريز Luis W. Alvarez وابنه، عالم الجيولوجيا والتر ألفاريز Walter Alvarez، مسحًا لطبقات الصخور في شمال إيطاليا. اكتشف أعضاء الفريق، خلال هذه البعثة، طبقة من الصخور خالية من أي مؤشرات إلى حياة ميكروسكوبية سابقة فيها، سمكها سنتيمتر واحد ومنتشرة على كل مساحة المنطقة التي كانوا يعملون بها. لاحظ أعضاء الفريق أيضًا أنه بالإضافة إلى اختلاف هذه الطبقة بوضوح عن الطبقات التي فوقها أو تحتها، فإن الطبقة التي فوقها تختلف كثيرًا عن الطبقة التي تحتها.

تكهن الفريق حينها أن هذه الطبقة قد تكون ناتجة عن نيزك Meteor أو كويكب صغير Asteroid ضرب المنطقة قبل زمن طويل. لهذا فحص الفريق كمية عنصر الإيريديوم Iridium، الذي يوجد بكثرة في النيازك والكويكبات التي تصطدم بالأرض، ولكنه نادر الوجود في الطبيعة على الأرض. أتت نتائج هذا الفحص صادمةً لأنها أظهرت أن تركيز الإيريديوم في هذه الطبقة أعلى بـ 300 مرة من تركيزه الطبيعي على سطح الكرة الأرضية. أشارت هذه النتيجة الصادمة بوضوح إلى الأصول الفضائية لهذه الطبقة الصخرية الدقيقة.

تساءل الفريق عن كون هذه الظاهرة محلية، أم أنها تشير إلى حدث عالمي أثر في الكرة الأرضية بأكملها. لذلك أجروا قياسات إضافية في مناطق أخرى من العالم قبل أن يعلنوا عن نتائجهم. نشر فريق البحث نتائج قياس تركيز الإيريديوم في مقال شهير ظهر عام 1980 في مجلة «ساينس» المرموقة، حيث قدموا بيانات من ثلاث مناطق: الأولى في شمال إيطاليا، والثانية في الدنمارك، والثالثة في نيوزيلندا، ودعمت جميعها نظريتهم التي اقترحوها عن اصطدام كويكب قطره عشرة كيلومترات تقريبًا بالأرض قبل قرابة الـ 100 مليون عام.

لم يقتصر الفريق على تقديم الأدلة على وقوع هذا الحدث الكارثي، بل أضافوا في المقال على ذلك تنبؤًا مثيرًا، تلقى في ذلك الوقت انتقادات كبيرة. إذ اقترحوا أن هذا الحدث هو الذي أدى إلى انقراض الديناصورات وغيرها من الكائنات الحية، وأدى إلى اختفائها عن وجه الكرة الأرضية. وأطلقت هذه النظرية اسم «فرضية ألفاريز».

لم تلق هذه الفكرة في البداية قبولًا واسعًا لعدة أسباب، لكنها حفزت الباحثين في الجوانب المختلفة من الموضوع على بذل جهد كبير لتجميع الأدلة التي تدعمها أو تدحضها. تراكمت في العقد الذي تلا نشر «فرضية ألفاريز» الدلائل التي تدعمها، حتى رجحت الكفة على نحو حاسم في صالحها. تُوجت هذه الدلائل عام 1992 باكتشاف الموقع المحدد الذي ضرب فيه الكويكب الأرض قريبًا من شبه جزيرة يوكاتان في خليج المكسيك، حيث ترك فوهة تعرف باسم فوهة تشيكشولوب Chicxulub Crater. أصبحت اليوم فرضية ألفاريز هي النظرية المقبولة من الجميع تقريبًا لتفسير انقراض الديناصورات. إذ تشير الأبحاث والدلائل بدقة واضحة إلى أن كويكبًا بقطر 10 كيلومترات اصطدم بالأرض قبل 66.03 مليون عام، وترك فوهة يقارب عمقها الـ 30 كيلومترًا، ووسعها نحو الـ 200 كيلومتر.

فقد تحررت نتيجة هذا الاصطدام طاقة أكبر بسبعة مليارات مرة من القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما. أدى هذا الاصطدام وما تبعه من تداعيات على الكرة الأرضية كلها إلى اندثار أكثر من 75٪ من الكائنات، من ضمنها الديناصورات، لكنها لم تقض على الطيور على الرغم من أنها من سلالة الديناصورات والثدييات والزواحف وغيرها الكثير من أنواع الكائنات، التي أعطتها هذه الكارثة الفرصة لأن تتطور، وتتنوع خلال عشرات ملايين السنين الأخيرة لنصل إلى ما نحن عليه اليوم.

اكتشف علماء الجيولوجيا وعلماء تاريخ الحياة في العقود الأخيرة أن الانقراض الجماعي الكبير الذي حدث قبل 66 مليون عام The End Cretaceous Extinction هو الحدث الأخير من خمسة أحداث انقراض جماعي كبيرة حدثت في تاريخ الكرة الأرضية أدت إلى انقراض أغلب الأحياء أكثر من 70٪ منها، إضافةً إلى نحو ستة مراحل الانقراض الجماعي العادية انقرض خلالها عدد كبير من الأحياء، لكن، لم تصل نسبة الأنواع التي انقرضت إلى 50٪ من مجمل الكائنات الحية. المفاجئ في الأمر أن أغلب مراحل الاندثار الكبير حدثت نتيجة تغيرات جيولوجية أو نتيجة تفاعل الحياة نفسها مع البيئة ما أدى إلى تغير كبير في دورة الكربون في الطبيعة وثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي والمحيطات واستهلاكه في النباتات والحيوانات.

قبل أن نصف هذه الأحداث باقتضاب ينبغي لنا أن نتذكر أن الدمار الكبير الذي تخلفه كل من هذه المراحل بالذات الكبيرة منها، يؤدي إلى خلل في توازن الكائنات الحية مع بيئتها، ومع بعضها. قد يستغرق الكائنات الحية، بالذات المعقدة منها، عشرات ملايين السنين من التطور التدريجي لكي تصل مجددا إلى توازن معين مع بيئتها. إذ تنشأ بعد انتهاء كل حدث من هذه الأحداث ظروف بيئية جديدة تسمح للكائنات الحية التي صمدت أن تتطور من جديد، وتُجدد حالة التوازن خلال تطورها في الظروف الجديدة.

لهذا كانت هذه الكوارث -على الرغم من فداحتها- المحرك لإنتاج أنواع حياة جديدة ومتنوعة تسد الفراغ الذي تركته الأنواع التي سبقتها. ونستطيع القول إن لهذه الكوارث جانبين، الأول هو مشهد الدمار الكبير الذي تخلفه، لكن الجانب الآخر الذي لا يقل شأنًا عن الأول، هو أنها تعطي حيزًا جديدًا للتجدد والإبداع في التنوع وإنتاج الجديد الذي تدفع له عملية التطور. لن أتوسع هنا في تفاصيل كل من هذه الأحداث لكني سأذكر باقتضاب فقط زمن حدوثها، وكم الأنواع الحية التي اندثرت عن الكرة الأرضية نتيجة لها، وماهية مسبباتها.

حدثت أولى حالات الانقراض الجماعي الكبير The End Ordovician Mass Extinction قبل 444 مليون عام، وذلك كما يظهر نتيجة ظهور عصر جليدي كبير وسريع نسبيًا غطى الكرة الأرضية، واختفى بعد أقل من مليون عام. أدى هذا الحدث إلى انقراض نحو 85٪ من أنواع الكائنات الحية على الأرض. لكن ما حدث بعده بوضوح هو انتقال الحياة إلى اليابسة إذ تشير الدلائل الأحفورية جليًا إلى ظهور نباتات اليابسة بعد هذا الحدث بقليل.

الحدث المدمر الكبير التالي حدث قبل قرابة الـ 370 مليون عام The Late Devonian extinction، ونتج عنه اختفاء قرابة 75٪ من الأحياء المائية. يرجح الخبراء أن سبب هذا الحدث الكارثي هو انتشار النباتات على اليابسة، ما أدى إلى تعرية مكثفة للتربة عليها التي زادت نسبة المواد الغذائية التي تنجرف من اليابسة إلى الماء، ما أدى إلى ارتفاع كبير في نسبة الطحالب في الماء.

نتجت هذه السلسلة من الأحداث عن نزول حاد في نسبة الأكسجين في الماء ونشوء ما يسمى بالمناطق الميتة في قاع البحار، التي سببت انقراضًا كبيرًا في أنواع الأحياء المائية. نرى اليوم ظاهرة مشابهة لذلك في عدد كبير من البحار، وذلك نتيجة استعمال الأسمدة الزائدة في الزراعة، حيث تنجرف غالبية هذه الأسمدة إلى البحار، وتوفر مواد غذائية تتمتع بها الطحالب المائية على نحو خاص، التي تتكاثر بدورها بكثرة وتستهلك أغلب الأكسجين الذائب في الماء ما يقضي على كل أنواع الأحياء المائية الأخرى في هذه المناطق. توجد اقتراحات أخرى لمسببات هذا الحدث، مثل انفجار مستعر أعظم Supernova قريب من المجموعة الشمسي، أو انفجارات بركانية، أو اصطدام كويكب بالأرض، وغيرها، لكن الدلائل الأقوى تشير إلى تفتيت التربة نتيجة انتشار النباتات على اليابسة كما ذكرنا.

حدث الانقراض الجماعي الكبير الثالث، الانقراض البرمي The End-Permian Extinction، وهو أكبرها جميعًا، قبل 252 مليون عام انقرض خلاله ما يقارب الـ 95٪ من الأحياء على اليابسة وفي البحار. وتدل القياسات الأحفورية إلى أن الغابات أصبحت نادرةً جدًا على الأرض لقرابة أكثر من خمسة ملايين عام، وانخفضت نسبة الأكسجين في الجو من 30٪ إلى 10٪. للتذكير: نسبة الأكسجين الحالية في الغلاف الجوي هي 21٪. يجمع الخبراء على أن السبب الأساسي لهذه الفترة الكارثية هو بركان كبير جدًا وقع في سيبيريا، وتسمى آثاره «مصطبات سيبيريا» The Siberian Traps، وهي بقايا صخور بركانية تغطي مساحة 7 مليون كيلومتر مربع تساوي تقريبًا مساحة أستراليا تكونت على مدى مليون عام من انفجارات بركانية متكررة، وهي أكبر ظاهرة بركانية على سطح الأرض خلال الـ 500 مليون عام الأخيرة.

خسرت الحياة خلال هذه الفترة القاتلة جميع أنواع الأحياء التي يتخصص وجودها في بيئة معينة، بينما نجت من الانقراض أنواع الحياة التي تتميز بأنها غير متخصصة في بيئة معينة، بل تستطيع أن تعيش في بيئات مختلفة مثل الفئران في وقتنا الحالي. كان هذا الحدث مدمرًا لدرجة أن الحياة لم تسترجع تعدديتها المألوفة إلا بعد أكثر من 100 مليون عام منه. وكما في كل حدث من هذه الأحداث، تتغير أشكال الحياة على الأرض بعدها إلى حد بعيد. هذا ما حصل كذلك نتيجة لهذا الحدث المدمر، إذ ابتدأت الديناصورات في الظهور بعد فترة قصيرة منه، وكذلك نشأت أولى الثدييات بعد قرابة الـ 20 مليون عام من حدوثه.

وقع الحدث الرابع قبل قرابة الـ 205 مليون عام The End Triassic Extinction، وأدى إلى اختفاء نحو الـ 80٪ من أنواع الحياة على الأرض. ما زال هذا الحدث لغزًا كبيرًا لدى العلماء لغموض مسبباته. لكن يميل الكثيرون إلى الاعتقاد بأن سبب هذا الحدث هو انفجارات بركانية كبيرة ربما مرتبطة بعملية تفكك القارة العظمى، بانجيا، أدت إلى انتشار أكاسيد الكبريت في الجو وانخفاض في نسبة النباتات التي تغطي اليابسة، ما نتج عن انخفاض نسبة الأكسجين في الهواء.

وجد العلماء دلائل واضحة إلى أن الديناصورات أصبحت بعد هذا الحدث هي الكائنات السائدة على اليابسة. صمدت الديناصورات في هذه الفترة، كما يظهر نتيجة تطور جهازها التنفسي الذي يخزن الهواء في فراغات داخل جسمها، والذي تستطيع استعماله حتى تتنفس في شروط انخفاض الأكسجين. هذا عمليًا ما سمح للديناصورات بأن تكبر لاحقًا بهذا الشكل الكبير، وأن يتطور منها بعد 50 مليون عام فرع ليكون الطيور التي نراها اليوم، والتي تستعمل جهازًا تنفسيًا مشابهًا لذلك الذي كانت تملكه الديناصورات، يفيدها في طيرانها في طبقات الجو المرتفعة قليلة الأكسجين.

تُعلمنا أحداث الانقراض الجماعي الكبيرة الماضية أن لكل مرحلة من مراحل الانقراض الجماعي قصة مختلفة، تتنوع مسبباتها وطريقة إخلالها بالتوازن القائم، والتي تُؤثر بها على نحو مدمر في الحياة على الأرض. فقد يكون المسبب الأساسي براكين، أو كويكبًا كبيرًا، أو عصورًا جليدية مفاجئة وغيرها، ينتج عنها خلل في التوازن الحراري، أو في دورة الكربون، أو ارتفاع حمضية مياه المحيطات، وإلى ما ذلك من أحداث.

لكن على الرغم من تنوع تسلسل الأحداث التي حدث خلال مراحل الانقراض الجماعي الكبيرة ومسبباتها، فيوجد عامل واحد مشترك واضح بينها جميعا، هو وتيرة حدوث التغيرات. إذ نرى في جميع أحداث الانقراض الجماعي الكبيرة أم الصغيرة أن التغييرات التي تسببها تحدث بوتيرة سريعة جدًا، أكبر بكثير من السرعة التي تستطيع الكائنات الحية أن تتأقلم معها. لهذا تختفي غالبية هذه الكائنات، وتبقى منها فقط تلك التي كانت محظوظة لتملك طريقة للتلاؤم مع الواقع الجديد.

لعل أوضح الأمثلة على من تمتع بهذا الحظ هي الديناصورات، التي لم تكن عندما نشأت قبل 250 مليون عام هي الكائنات المسيطرة، فقد كانت آنذاك أنواع من الأحياء التي تنافسها بشدة، وعلى رأسها أنواع من عائلة التماسيح. لكن حدوث الانقراض الذي وقع قبل 205 مليون عام The End Triassic Extinction أثر كثيرًا في منافسيها، لكنه لم يؤذِها بنفس المقدار، وذلك، كما يظهر، لأن جهازها التنفسي كان بالصدفة ملائما للتعامل مع الظروف الجديدة أكثر من غيرها. لهذا نرى أن عوامل الصدفة والحظ قد تلعب دورًا كبيرًا أحيانًا في تقرير من يصمد أمام أحداث الانقراض الجماعي.

بعد أن أنهيت الحديث عن مراحل الانقراض الجماعي الكبير الخمسة، كان بودي أن أنهي هذا القسم من الفصل هنا. لكن، يا للأسف، نحن نعيش اليوم حدث الانقراض الجماعي الكبير السادس الذي قد يفوق بحجمه جميع الحوادث السابقة الخمسة، سببه الواضح والمباشر هو الإنسان. إذ يُحدث خللًا واضحًا في التوازن البيئي نتيجة الاستعمال المبالغ فيه وغير المراقب للمحروقات، بالذات استعمال النفط والغاز الطبيعي، ما يغير بحدة في دورة الكربون، ويسبب ارتفاعًا كبيرًا في درجة حرارة الغلاف الجوي. يعلمنا أشد أحداث الانقراض الجماعي الكبير، الحدث البرمي، أن ما حدث خلاله يشبه ما يحدث الآن.

قد كانت نتائج الحدث البرمي كارثية على نحو خاص نتيجةً لاجتماع ثلاثة عوامل: أولًا، ارتفاع حاد في حرارة الغلاف الجوي، ثانيًا، ارتفاع في حمضية المحيطات Ocean Acidification التي يسببها ارتفاع كبير في نسبة ثاني أكسيد الكربون الذائبة في مياه المحيطات، وثالثًا، هبوط في إنتاج الأكسجين نتيجة انخفاض في عملية التمثيل الضوئي الذي تسببه عملية إزالة الغابات المتسارعة التي يدفعها التكاثر السكاني والأرباح الكبيرة التي تجنيها أقلية صغيرة من ذلك. تشكل هذه الثلاثية الكارثية، الاحتباس الحراري وارتفاع حمضية المياه ونقص منسوب الأكسجين، ما يشبه بـ «العاصفة المتكاملة» التي تؤدي إلى تدمير أنواع الحياة المختلفة على الأرض.

أدى هذا كله إلى تعريف عصرنا على أنه عصر الانقراض الجماعي السادس الكبير The Holocene extinction، حيث نشهد اليوم بالمعدل اختفاء جنس واحد من الأحياء كل عام، وهي وتيرة أكبر بألف مرة من المعدل الذي كان قبل ابتداء الثورة الصناعية، الذي يقارب بالمعدل انقراض جنس حي واحد كل ألف عام. هذا ما حذرَنا منه العلماء منذ خمسينيات القرن الماضي، وهذا الذي ما زالوا يحذرون منه بإلحاح وإصرار شديدين، بالذات على ضوء تراكم الدلائل القاطعة لذلك. لأن حالات الانقراض الجماعي الكبيرة التي حدثت في الماضي تعلمنا أن الإخلال بالتوازن الطبيعي للأمور تعقبه كوارث عظيمة، سوف يكون ضحيتها عددًا كبيرًا من الأحياء على الأرض، وعلى رأسها نحن.

اقرأ أيضًا:

أي الحيوانات تعافت أولًا بعد الانقراض الجماعي الأضخم على الأرض؟

أي الحيوانات تعافت أولًا بعد الانقراض الجماعي الأضخم على الأرض؟

إعداد: سليم زاروبي

تدقيق: عون حدّاد