للفيروسات سمعة سيئة، إذ إنها السبب في جائحة كورونا الأخيرة، بواسطة فيروس كوفيد 19، إلى جانب قائمة طويلة من الأوبئة والأمراض التي أصابت البشرية منذ القدم. ما يطرح تساؤلًا: ألا توجد بعض النقاط المضيئة في هذه العلاقة المظلمة بين البشر والفيروسات؟ ألا يوجد ما يمكن أن نعده فوائد للفيروسات، ونكون ممتنين لها بعض الشيء؟

ينظر الكثير من علماء الأحياء إلى نوع محدد من الفيروسات من هذا المنظور، وهي العاثيات أو آكلات الجراثيم: الفيروسات التي تصيب الجراثيم. من المعروف أن الفيروسات إذا ما أصابت الخلية، فإنها تجبرها على تنفيذ تعليمات المادة الوراثية للفيروس.

القوة الهائلة للعاثيات

تسهم العاثيات في الحفاظ على التوازن الطبيعي بإصابة تجمعات الجراثيم والقضاء على الكثير منها، ما يحد من أعدادها، لنتخيل دور العاثيات يكفي أن نعرف أنها تقتل نحو 40% من الجراثيم الموجودة في المحيطات يوميًا، ما يساعد على التحكم في تكاثر الجراثيم وتوزع المادة العضوية، ويحافظ على التوازن الطبيعي.

أثارت هذه القدرة الفائقة على استهداف الجراثيم دون سواها حماسة الأطباء لاستثمارها في علاج بعض الأمراض، وقد نجحت تلك المحاولات باستخدام عاثيات طبيعية أو مُحضرة مخبريًا في بعض الحالات، إذ يصاب الإنسان بجراثيم لا تتأثر بالصادات الحيوية المتوفرة، ما يُسمى «العلاج بالعاثيات»، الذي أصبح خيارًا مطروحًا في حالات الإصابة بجراثيم مقاومة للصادات الحيوية.

أشارت أبحاث جديدة إلى دور آخر للعاثيات، إذ تتلاعب بالمادة الوراثية للجراثيم، ما ينتج جينات جديدة تمنحها صفات جديدة.

يمكن القول إن العاثيات هي أكثر الكائنات عددًا في الطبيعية، إذ إنه في أي لحظة يوجد ما لا يقل عن نونيليون عاثية في هذا العالم. (النونيليون: 1 إلى يمينه 31 صفرًا).

مثل سائر الفيروسات، تتكاثر العاثيات بمعدلات عالية، ومادتها الوراثية عرضة للطفرات بدرجة كبيرة، ما يؤدي إلى تنوع صفاتها.

تمتلك معظم العاثيات درعًا صلبًا يحميها هو «القفيصة»، التي تحتوي مادتها الوراثية. يكون لهذا الدرع عادةً القدرة على تخزين حمض نووي أكثر مما تحتاج إليه خلال تكاثرها، ما يعني أنها تمتلك مساحة إضافية تستوعب المزيد من المادة الوراثية، فهي قادرة على تخزين جينات جديدة ليست ضرورية لحياة العاثية، لكنها تمثل حقلًا لتجاربها الجينيّة.

كيف تستثمر الجراثيم ما تفعله العاثيات؟

لفهم ما يحصل عند إصابة الجراثيم بفيروس العاثية، من المهم الاطلاع على دورة حياة العاثية ذاتها.

تأخذ العاثية أحد شكلين، الأول شديد الخباثة والآخر معتدل. تضرب العاثيات الخبيثة الخلايا، بغزو الخلية أولًا ثم إجبارها على نسخ الفيروس، ما يؤمن له وظيفة التكاثر، ويستمر ذلك حتى تموت الخلية.

أما العاثيات المعتدلة فتتوارى في المادة الوراثية للخلية، وتبقى مزروعةً هناك سنوات طويلة قبل أن يثيرها شيء ما، فتتحول إلى الشكل الخبيث الشرس الذي يُجبر الخلية على نسخ الفيروس مرات، قبل أن تنفجر الخلية المصابة بسبب تراكم نسخ الفيروس.

مثلًا، عندما تتأذى الخلية المصابة ويتضرر حمضها النووي، تستشعر المادة الوراثية لفيروس العاثية الخطر الداهم الذي قد يصيبها، لذا تؤثر الانفصال عن المادة الوراثية للخلية، كالقفز من سفينة توشك على الغرق. حينها تشرس العاثية وتسلك السلوك العدواني، أو توقف نشاطها بانتظار تحديد الأذية التي لحقت بالحمض النووي.

طوّرت الجراثيم عبر الزمن آليات للتحكم في دورة حياتها، ما أثمر جهازًا جينيًا معقدًا، يساعدها على استكشاف أي أذيات أو أضرار تلحق بحمضها النووي، فعندما يقع مثل هذا الأمر، تنشطُ مجموعة من الجينات وتحاول إصلاح الضرر الواقع، ما يُسمى «الاستجابة لنداء الاستغاثة الجرثومي»، فإذا لم يُصلح الضرر، تموت الخلية.

تُنسق الجرثومة الاستجابة بواسطة بروتين يشبه في آلية عمله المفتاح الكهربائي، فإذا وُجد ضرر في الحمض النووي يُفعَّل هذا البروتين، وإلا فسيبقى معطلًا.

بالنظر إلى الآلية السابقة، يمكن فهم العلاقة التطوريّة بين العاثية والخلية الجرثومية، ما يطرح سؤالًا حول أي الكائنين قد طوّر هذا النموذج من الاستجابة الشبيهة بالمفتاح الكهربائي أولًا، أهو الجرثوم أم فيروس العاثية؟

أظهرت بعض الأبحاث ارتباط تلك الآلية بالعاثية أولًا، إذ اكتشف العلماء أن جراثيم العصوانيات التي تستعمر أمعاء الإنسان، تتحكم في استجابتها لنداء الاستغاثة الخاص بها، بواسطة «مفتاح» فيروسي، تمكنت العصوانيات من استثماره واستخدامه في جهازها الجيني المعقد، ما عزز القول بأنها فيروسية الأصل.

«مفتاح التبديل البروتيني» هو مثال للمنتجات الفيروسية التي استطاعت الجراثيم استثمارها تطوريًا، إذ أظهرت دراسات لبعض جينات الانقسام الخلوي في بعض الجراثيم، الأصل الفيروسي لبعضها، وكشفت أن أحدها كان جينًا لتصنيع سموم العاثية.

حاليًا، تطرح بعض الدراسات شكوكًا حول الأصول الفيروسية لبعض الجينات الجرثوميّة المحتوية على معلومات تركيب السموم والأسلحة الجرثومية، كتلك التي تستخدمها الجراثيم لغزو الخلايا، أو جينات التمويه التي تساعدها على الفرار من هجمات الجهاز المناعي.

الجانب المضيء للفيروسات

قد ينظر القارئ بعين الإعجاب إلى الفيروسات بعد قراءة السطور السابقة، لكنه لا يلبث أن يتذكر مدى فظاعة الإصابة بالأمراض الفيروسية. مع ذلك، تتزايد الاكتشافات عن مساهمة بعض الفيروسات في خلق أشكال جينية جديدة، لا في الجراثيم فحسب، بل في النباتات والحيوانات أيضًا.

ثبت أن لبعض الجينات الفيروسية دورًا مهمًا في تشكيل المشيمة في الثدييات، وهو العضو الذي يساعد أجنتها على العيش داخل الرحم قبل أن تولد. أيضًا فإن لبعض الجينات الفيروسية الأخرى دورًا في الحفاظ على رطوبة جلد الإنسان.

أيضًا ترجح بعض الأدلة كون النواة، الجزء الأهم في كل الخلايا الحيوانية والنباتية، بحد ذاتها ابتكارًا فيروسيًا.

يتكهن الباحثون بدور أسلاف الفيروسات الحالية في خلق عالم الأحياء الذي نعرفه، بتعديلها الحمض النووي للخلايا. لذا يجب علينا إعادة التفكير في نظرتنا السلبية إلى الفيروسات بوصفها كائنات شريرة، فربما لا يزال البشر أحياء إلى اليوم بسببها. إنها أحد أشكال قوة الحياة الخلاقة.

اقرأ أيضًا:

العاثيات: الفيروسات الآكلة للجراثيم

الفيروسات القهقرية الراجعة ERV وعلاقتها بالتطور وإثبات السلف المشترك

ترجمة: محمد شبو

تدقيق: بدور مارديني

المصدر