الخط المسماري نظام كتابة طوره السومريون القدماء في بلاد ما بين النهرين (3500-3000) قبل الميلاد. وتُعَدُّ الكتابة المسمارية إحدى أهم الإسهامات التي قدمها السومريون والإنجاز الأبرز لمدينة أوروك السومرية التي طورت هذا النظام عام 3200 قبل الميلاد.

كلمة مسماري مشتقة من الكلمة اللاتينية “cuneus”، أي الوتد أو الإسفين، نظرًا إلى أسلوب الكتابة إسفيني الشكل. في الكتابة المسمارية يكبس الكتبة بأداة شق معروفة بالقلم على الطين الطري بحذر من أجل إحداث طبعات إسفينية تمثل رمزًا (رسمًا) تصويرًا يمثل كلمة، ولاحقًا رموزًا صوتية (الكلمة بصورة أقرب إلى فهمنا الحالي لما تعنيه الكلمة).

استخدمت جميع حضارات بلاد الرافدين العظيمة -كالسومريين والأكاديين والبابليين والعيلامين والحثيين والآشوريين والحرانين- الكتابة المسمارية حتى تخلت عنها لصالح الكتابة الأبجدية في مرحلة زمنية ما بعد عام 100 قبل الميلاد.

مع اكتشاف الألواح المسمارية الطينية لبلاد الرافدين ثم فك رموزها أواخر القرن التاسع عشر، غيَّرت هذه الألواح الفهم البشري للتاريخ، فقبل هذا الاكتشاف عُدَّ الكتاب المقدس الكتاب الأقدم والأكثر موثوقية في العالم. غيَّر الباحث اللامع والمترجم جورج سميث (1840-1876) فهمنا للتاريخ عندما ترجم ملحمة جلجامش عام 1872، إذ مكَّنت هذه الترجمة من فهم الألواح المسمارية وتفسيرها، ما غيَّر الفهم التقليدي للرواية التوراتية للتاريخ، وفتح المجال أمام البحث والتفسيرات الموضوعية للتاريخ لتأخذ مجراها.

المسمارية القديمة:

إن الألواح المسمارية الأقدم المعروفة بالمسمارية الأولى تصويرية، لأن المواضيع التي ناقشتها كانت واقعية ومادية ومُدركة مثل الملك أو المعركة أو الفيضان، ولكنها تطورت وازدادت درجة تعقيدها لأن الموضوعات أصبحت أكثر غموضًا وتجردًا مثل إرادة الآلهة والسعي للخلود. بحلول عام 3000 قبل الميلاد تبسطت الرموز والصور وتوضحت وشرحت ضربات القلم الكلمة من حيث مفهومها ودلالتها، كالشرف بدلًا من الرسم التصويري للكلمة (الرجل الشريف). تحسنت اللغة المكتوبة من طريق الرسوم الرمزية التي أقصت القيمة الصوتية لرمز معين لتعبر عن العلاقات القواعدية والنحو لتحديد المعنى.

وفي توضيح لفكرة الرسم الرمزي تكتب الباحثة إيرا سبار: «تُسمى هذه الطريقة الجديدة في تفسير الرموز بمبدأ الرسم الرمزي. وتوجد أمثلة قليلة فقط عن استخدام الرسم الرمزي في المراحل الأولى من الكتابة المسمارية بين 3200 و3000 قبل الميلاد. إذ يصبح الاستخدام المتسق لهذا النوع من الكتابة الصوتية واضحًا فقط بعد 2600 قبل الميلاد، ويشكل بداية نظام كتابة حقيقي يتميز بمزيج معقد من الرسوم التصويرية والرموز الصوتية -دلالة للأحرف والمقاطع الصوتية- التي سمحت للكاتب بالتعبير عن الأفكار. بحلول منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد، استُخدمَت الكتابة المسمارية -المكتوبة أساسًا على الألواح الطينية- على نطاق واسع في الوثائق الاقتصادية والدينية والسياسية والأدبية والعلمية».

تطور المسمارية:

لم يعد على المرء أن يعاني لفهم معنى الرسم التصويري، إذ يقرأ الكلمة بمفهومها الذي ينقل المعنى الذي يريده الكاتب بوضوح. قُلِص عدد الرموز المستخدمة في الكتابة من 1000إلى 600 لتسهيل الكلمة المكتوبة وتوضيحها. ومثال ذلك ما يذكره المؤرخ بول كريوازيك، إذ أشار إلى أنه في زمن الكتابة المسمارية الأولى «كان كل ما ابتدعه السومريون وسيلةً لتسجيل الأشياء والمواد والأغراض وليس نظام كتابة، فقصة عن خروفين في معبد الإلهة إنانا لا تروي لنا أي شيء عن هذين الخروفين، هل قد سُلمَا إلى المعبد أم استُلمَا منه؟ هل كانا نافقين أم حيين؟ ولا تخبرنا أي شيء آخر عنهما».

تطورت الكتابة المسمارية لدرجة أنه أصبح من الممكن التعبير بها بوضوح، وبالاستفادة من مثال كريوازيك المذكور، سنفهم هل كان الخروفان ذاهبين إلى المعبد أم آتيين منه؟ ولأية غاية؟ وهل كانا حيين أم نافقين؟ وفي الوقت الذي كتبت فيه الكاهنة والشاعرة أنهدونا (2285-2250) تراتيلها وأناشيدها المشهورة إلى الآلهة إنانا في مدينة أور السومرية، كانت المسمارية متطورة كفاية لفهم الحالات العاطفية -كالحب والعشق والخيانة والخوف والشوق والأمل- والأسباب الأساسية التي تقف وراء اختبار الكاتب مواقف كهذه.

الأدب المسماري:

كُتبَت جميع الأعمال العظيمة لبلاد الرافدين مثل «أتراحاسيس» و«نزول إنانا» و«أسطورة إتانا» و«إنوما إيليش» و«ملحمة جلجامش» الشهيرة بالخط المسماري، واكتنفها الغموض حتى أواسط القرن التاسع عشر عندما فك رموز المسمارية وترجمها إلى الإنكليزية رجال من أمثال جورج سميث والقس إدوارد هينكس (1792-1895) وجول أوبيرت (1825-1905) وهنري كريسويك رولينسون (1810-1895).

عُرضَت ترجمات رولينسون في البداية أمام الجمعية الملكية الآسيوية في لندن عام 1837 ومجددًا عام 1839. في عام 1846 عمل رولينسون مع عالم الآثار أستن هنري لايارد في أثناء تنقيبه في مدينة نينوى وكان مسؤولًا عن أقدم الترجمات من مكتبة آشوربانيبال المكتشفة في ذلك الموقع. ركز إدوارد هينكس على المسمارية الفارسية واضعًا أنماطها ومحددًا الأحرف الصوتية فيها. حدد جول أوبيرت أصول المسمارية وأرسى قواعد المسمارية الآشورية. جورج سميث كان مسؤولًا عن فك رموز ملحمة جلجامش، وفي عام 1872 اشتهرت قصة الفيضان من بلاد الرافدين.

كان رولينسون -إلى جانب علماء الآثار المختصين في الإمبراطورية الآشورية ومنهم تي. جي. بينش- في مقدمة من طور دراسات لغة بلاد الرافدين، وأصبح كتابه «النقوش المسمارية لبابل وآشوريا القديمتين» -إضافةً إلى مؤلفات أخرى- المرجع النموذجي لأي موضوع يتعلق ببلاد الرافدين بعد نشره في ستينيات القرن التاسع عشر. وما تزال هذه الأعمال تحظى بالاحترام والتقدير في الوقت الحالي.

يُنظَر إلى جورج سميث على أنه مفكر من الصف الأول، وقد وافته المَنية في عمر 36 في بعثة استكشافية إلى نينوى عام 1876. تعلم جورج بنفسه ترجمة الكتابة المسمارية، وكانت مساهمته الأولى في فك رموزها في بداية عشرينيتاه. شكلت وفاته -وهو في ريعان الشباب- خسارة عظيمة للتقدم المُحرَز في ترجمات الكتابة المسمارية في القرن التاسع عشر.

كان أدب بلاد الرافدين بمثابة المعلم الذي استقت منه جميع المؤلفات المكتوبة التي ظهرت لاحقًا، إذ نستطيع التعرف على الأفكار العائدة لبلاد الرافدين ومواضيعه في النتاجات المصرية والإغريقية والرومانية، وما تزال حتى يومنا الحالي يتردد صداها عبر حكايات الأناجيل وقصصها. عندما فك جورج سميث رموز المسمارية؛ أحدث تغييرا جوهريًا في الطريقة التي أدرك بها البشر تاريخهم وفهموه.

اكتشاف أدب بلاد الرافدين -الذي يعود قسم كبير منه إلى سومر- قد فنَّد الكثير من القوانين والشرائع التي عاش الناس في ضوئها وتوجيهاتها. ومنذ هذا الاكتشاف وفك رموز الكتابة المسمارية، تغير تاريخ الحضارات بالكامل.

اقرأ أيضًا:

الحضارة السومرية

ملحمة جلجامش: كل ما تود معرفته

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: نور عباس

مراجعة: حسين جرود

المصدر