يشير مصطلح انهيار العصر البرونزي إلى انهيار حضارات كبرى حول البحر الأبيض المتوسط خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر قبل الميلاد. ما تزال الأسباب الأساسية لانهيار العصر البرونزي موضع جدل بين الباحثين منذ أكثر من قرن، أما الحقبة التي بدأ فيها الانهيار وانتهى فتشكل نقطة خلاف أخرى. ما نعرفه أن العالم شهد بين عامي 1250-1150 قبل الميلاد دمار مدن واندثار حضارات بأكملها وقطع علاقات دبلوماسية وتجارية واختفاء أنظمة كتابة وانتشار الموت والدمار في جميع الأرجاء على نطاق لم يشهده التاريخ من قبل.

العصر البرونزي

سُمِي العصر البرونزي بذلك بسبب شعبية استخدام البرونز في التعدين، ولأنه دلالة تقليدية على الحقبة الزمنية. شهد هذا العصر تطور الحضارة في كل أرجاء حوض البحر الأبيض المتوسط وعلى جميع الأصعدة. أكثر ما تشتهر به فترة العصر البرونزي هو التقدم في الثقافة واللغة والتكنولوجيا والدين والفن وهندسة العمارة والسياسة والحرب والتجارة.

العصر البرونزي هو أكثر ما يجول في أذهان الناس عندما يسمعون عبارة التاريخ القديم، لأنه في أثناء هذه الحقبة بُنيَت أهرامات الجيزة ومعبد الكرنك. أما في بلاد الرافدين، فقد شهدت حقبة أوروك (4100-2900 قبل الميلاد) اختراع العجلة والكتابة من بين ابتكارات واختراعات أخرى. واندمجت هذه الحقبة بما يُسمَى بفترة السلالات القديمة (2900-2434 قبل الميلاد)، ثم حلت الحقبة الأكادية (2334-2218 قبل الميلاد) التي تأسس خلالها أول كيان سياسي متعدد الثقافات في العالم (الإمبراطورية الأكادية) على يد سرجون الأكادي (2234-2279 قبل الميلاد). لاحقًا ستصبح بابل المركز الثقافي والتعليمي الأبرز في بلاد الرافدين، أما عيلام فكانت تؤسس المدن الكبيرة.

وطد الحثيون نفوذهم في الأناضول (2700-2400 قبل الميلاد) وبنوا مدينة حتوسا العظيمة عام 2500 قبل الميلاد، وازدهرت إمبراطوريتهم. أما مملكة ميتاني، فقد امتدت من شمالي العراق وحتى تركيا. وتطورت الحضارة القبرصية في جزيرة قبرص وازهرت مدينة أوغاريت إحدى المدن الفينيقية في بلاد الشام، في حين بلغت الحضارة الميسينية في اليونان ذروة مجدها (1600-1100 قبل الميلاد).

ومع استقرار الكيانات السياسة آنفة الذكر وتمركزها، نمت التجارة حتى عام 1350 قبل الميلاد الذي شهد ارتباط آشوريا والإمبراطورية الحثية وبابل ومصر ومملكة ميتاني بشبكة تجارية وعلاقات دبلوماسية أشار إليها باحثو الزمن الحالي بنادي القوى العظمى. كانت هذه الشبكة عالمية وجمعت أقوى الملوك في ذلك الزمان وقد وُثِّق وجودها برسائل العمارنة التي تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد وكانت مراسلات بين ملوك مصر والدول الأخرى.

أدت العلاقات الحميمية بين تلك البلدان إلى ازدهار حال شعوبها ونموهم؛ فقد تطورت التجارة كما هو واضح في مشاريع البناء الكبيرة في مملكة مصر الجديدة. ولكن كما هو حال الأمم، فإن أسلوب الحياة هذا سيتغير تمامًا نحو الأسوأ ابتداءً من أواسط القرن الثالث عشر قبل الميلاد حتى نهايته، أي ما يُعرَف بانهيار العصر البرونزي. وعندما أوشك العصر البرونزي على نهايته، لم يبق من نادي القوى العظمى سوى مصر التي حافظت على أرضها سليمة وبصورة أقل لاحقًا.

أسباب الانهيار

في الوقت الذي صاغ فيه عالم المصريات الفرنسي غاستون ماسبيرو (1846-1916) مصطلح شعوب البحر في إشارة إلى القوى الغازية في القرنين الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد، عرض باحثون أسباب انهيار العصر البرونزي وقدموها على شكل سلسلة طويلة خطية متتابعة من الأحداث: زلازل سوت مدن بالأرض ومواسم حصاد سيئة سببت مجاعات قادت بدورها إلى فوضى اجتماعية وسياسية نتج عنها ثورات وتمردات داخلية. في ذات الوقت اجتثت المشكلات والصعوبات ذاتها شعوب كبيرة من أرضهم وأجبرتهم على الهجرة إلى البحر الأبيض المتوسط في سعي نحو إيجاد وطن جديد، لكن ما حدث هو أن هؤلاء المهاجرين قد أزعجوا السكان الأصليين. وفي نهاية المطاف، نتج عن هذه الضغوط قطع العلاقات التجارية والدبلوماسية وانهيار الحضارة في حوض البحر المتوسط.

تكمن مشكلة المفهوم الخطي لأسباب الانهيار في بساطته الشديدة؛ فجميع هذه الحضارات قد نجت من الغزو والزلازل والاضطرابات من قبل، ولكنه يفترض موعدًا زمنيًا محددًا لتاريخ بدء انهيار العصر البرونزي وانتهائه، ثم يجد الوقائع التاريخية التي تناسب السرد ويدعم ذلك الموعد الزمني. بينما يبدو الأمر أكثر واقعية من وجهة نظر باحثين (مثل إيريك كلين وبرنارد ناب وستيوارت مانينغ وبراندون دريك)، ومفادها أن كل هذه الضغوطات قد ألمت فجأة بحضارة حوض المتوسط في تعاقب سريع لدرجة أن لا تتعافى تلك الحضارات من كارثة حتى تحل أخرى عليها، يشير كلين إلى هذه الظاهرة بالعاصفة الكاملة من النوائب ويشرح قائلًا:

«قد يستطيع السكان الصمود إزاء كارثة واحدة كزلزال أو جفاف، لكنهم لن ينجوا من تأثيرات زلزال وجفاف وغزو مجتمعة معًا تحدث في تعاقب سريع، ما يسبب تأثيرًا يشبه الدومينو، فتتفكك أحد الحضارات وتنهار ما يؤدي إلى سقوط أخرى».

الكوارث الطبيعية:

يشير كل من ناب ومانينغ إلى أن الزلازل في البحر الأبيض المتوسط كانت شائعة، وأن حقبة القرنين الثالث عشر والثاني عشر لن تكون مختلفة في ذلك، ويستشهدان في دراستهما بالباحث روبرت دروز الذي عرض لائحة تضم 47 موقعًا في المنطقة دُمرَت خلال الخمسين عام من الانهيار، لكنه يقر بصعوبة التأكد بأن أيًا من تلك المواقع قد دمرها زلزال وأيًا قضى عليها غزو أو تمردات داخلية. ويبين ناب ومانينغ احتمال أن تكون سلسلة من الزلازل في إثر بعضها قد ضربت المنطقة وتقف وراء الدمار المنتشر في المنطقة.

التغير المناخي:

يشير عالم الآثار ديفيد كانيوسكي إلى أن التغير المناخي هو العامل الجوهري في انهيار العصر البرونزي، إذ يزعم كانيوسكي بأن تغيرًا مناخيًا مفاجئًا في نهاية العصر البرونزي الأخير سبّب شحًا في المحاصيل الزراعية على نطاق المنطقة بأكملها، ما قاد بدوره إلى أزمات اجتماعية واقتصادية وحالة من الفوضى وعدم الاستقرار.

يبين كانيوسكي أن هذه الأزمات ستؤول إلى موجات هجرة شاملة وعمليات احتلال سجلها سكان قبرص والأناضول ومصر. تكمن المشكلة في هذه النظرية في التسلسل الزمني لانهيار العصر البرونزي؛ إذ لا يوجد تاريخ محدد يبين متى بدأ الانهيار أو المدة التي استغرقها، وتمتد تواريخ المؤذنة ببداية انهيار العصر البرونزي بين أعوام 1250 إلى 1186 وحتى 1177 قبل الميلاد. لذلك، فإن تحديد التغير المناخي على أنه السبب الأوحد للانهيار ليس ممكنًا. يعبِّر ناب ومانينغ عن رأيهما في ذلك: «تعوزنا المعلومات المناخية المحددة والمفيدة لشرق المتوسط في تلك الحقبة» ويعترفان من جهة أخرى بأنه قد يكون للتغير المناخي دور محوري في الانهيار.

يشير الباحث براندون دريك إلى أن كهف سوريك في فلسطين يحفظ تاريخ سقوط الأمطار في شمال بلاد الشام لمئة وخمسين ألف عام، ويظهر انخفاضًا ثابتًا وغير مسبوق في هطول المطر استمر حتى نهاية عام 1150 قبل الميلاد، وفي ذلك الزمن كان ذلك التراجع في الهطول المطري كافيًا لإحداث جفاف. يلاحظ دريك أن الجفاف المسمى بالعظيم قد ضرب المنطقة بين عامي 1200-850 قبل الميلاد، وهذا ما أثبته فحص حبوب اللقاح والرواسب والرسائل المتبادلة بين الملوك في ذلك الزمان.

يستنتج دريك من ذلك: «أدى الانخفاض في درجات حرارة سطح البحر الأبيض المتوسط قبل عام 1190 قبل الميلاد إلى تناقص تدفق المياه العذبة السنوي من خلال تضاؤل معدلات التبخر، ما أدى إلى تلقي الرياح الغربية بخار مياه أقل نتج عنه تناقص في هطول المطر».

قادت مستويات الأمطار المتناقصة إلى الجفاف الذي أثر في الحصاد وأدى إلى مجاعة، والمجاعة بدورها قادت إلى حدوث هجرات وغزو.

التمردات الداخلية:

تُعرَّف حروب الطبقات بأنها ثورة تنقلب فيها الطبقات الدنيا على نخبة المجتمع وامتيازاتها، وقد عدَّها المؤرخون والباحثون سببًا من أسباب الانهيار. في أثناء حكم رمسيس الثالث (1186-1155 قبل الميلاد) وقع أول إضراب عمالي في التاريخ عندما لم يتلقَ بناؤو المدافن في مدينة دير المدينة أجورهم. وانتشرت أيضًا سرقة المدافن في ذلك الوقت، ويشير الباحث ويليام ستيبينغ: «من المثير للاهتمام أن أكثر ما اشتراه اللصوص من عمليات النهب كان الطعام». ويشير كلين إلى أن دمار المدينة الكنعانية جازر كان سببه تمرد داخلي بدأه سكان المدينة الذين عانوا فقدان إمدادات الطعام. تقترح الأدلة الأدبية والأثرية بوضوح أن فقدان الطعام هو ما شجع الطبقات الدنيا على الثورة على أولئك الذين عدّوهم مسؤولين عن احتكار الموارد ومنعها.

الغزو:

سابقًا، عزى المؤرخون انهيار العصر البرونزي برمته إلى شعوب البحر، وما تزال هوية هذا التحالف موضع جدال في يومنا الحالي. بغض النظر عن هويتهم أو من أين جاؤوا، فقد جلب أولئك القوم الدمار معهم إلى حضارات المتوسط. من بين أسماء القبائل التي شكلت تحالف شعوب البحر نذكر: الشيردين وشكلش ولوكا وتورشا وأكاواشا وبليست. تبين النقوش المصرية التي تعود إلى المملكة الجديدة أن هؤلاء القوم قد حاربهم رمسيس العظيم وابنه وخليفته مرنبتاح وهزمهم رمسيس الثالث عام 1178 قبل الميلاد.

ومع ذلك، تبقى نظرية الغزو ضعيفة لأنها تتجاهل السجلات المصرية حسنة التوثيق، خاصة تلك العائدة إلى عهد رمسيس الثالث التي أظهرت وصول شعوب وزوجاتهم وأطفالهم في عربات، ما يؤكد بوضوح أن شعبًا مهاجرًا كان يتبع القوة الغازية.

اضطراب العلاقات تجارية والأنظمة السياسية وانهيارها:

نوه بعض المؤرخين والباحثين بأن العلاقات التجارية والدبلوماسية المقطوعة قد تكون سببًا من أسباب الانهيار، لكن لا يمكن عدَّها عاملًا رئيسيًا لأنه لا يوجد سبب يدفع الدول العظمى لأن تنهي العلاقات وتقبل بتوقف نمو ثقافاتها وانتهاءها.

قد يكون اضطراب الحركة التجارية تتويجًا للمشكلات السابقة؛ فالطبيعة العالمية للتجارة في ذاك الوقت جعلت العالم قرية صغيرة ترتبط أركانها مع بعضها لدرجة أن انهيار دولة من أحد أركانه سيؤدي إلى انهيار الدول الأخرى. يعلق ستيبنغ على ذلك:

«تجادل الباحثون بأن حضارات العصر البرونزي قد شهدت انهيار أنظمة؛ فاقتصاداتهم كانت قليلة التنوع لدرجة كبيرة، أما شبكة التجارة فقد اعتمدت نسبيًا على الأوضاع والظروف السلمية. ظهرت مشكلات اجتماعية أيضًا كالديون والعبودية وهجران الأراضي واضطهاد الأرستقراطيين للفلاحين، فسببت حالة من التبرم والاستياء الشعبي. وفي نهاية القرن الثالث عشر، عطلت الصراعات العسكرية والقرصنة التجارة، ونتج عن ذلك انهيار اقتصادي وثورات وانهيار عام في النُظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية».

لا يمكن لأي من هذه الأسباب بمفردها أن تفسر انهيار العصر البرونزي. يتفق معظم الباحثين مع الاستنتاج الذي أوضحه بإيجاز مارك فان دي ميروب: «لا يوجد سبب واحد يمكنه تفسير ما حدث في جميع المناطق والدول».

قد يتناسب أحد السيناريوهات التي اقتُرحَت آنفًا مع أحد المناطق، لكن لا يناسب منطقة أخرى، والتفسير الخطي بأن مسبب ما يؤدي إلى مسببات أخرى يتجاهل العصور السابقة في التاريخ التي سادتها تحديات مماثلة ولكنها مع ذلك لم تسقط أو تنهار.

العصور المظلمة

سقطت الإمبراطورية الحثية ودُمرَت أوغاريت واختفت الحضارة الميسنية عن الوجود وتوالى سقوط مدن الشام واحدة في إثر الأخرى، ولم يكن القبرصيين بمنأى عن أهوال السقوط، فقد عانوا ويلاته أيضًا، ولم يبق من أثر العصر الذهبي لنادي القوى العظمى وازدهاره سوى الذكريات. وقد حفظت الأساطير هذه الذكريات، كان أشهرها من إبداع هومر وهزيود الإغريقيين اللذان عاشا في القرن الثامن قبل الميلاد وذكَّرا القارئ بعصر عظيم شهده الماضي وقد اختفى من وقت طويل ويفوق الحاضر بأشواط.

كتب كلين في كتابه بعنوان (1177 قبل الميلاد: العام الذي انهارت فيه الحضارة) جملة ختامية متفائلة: «من رماد الحضارات العصر البرنزي المنهارة، نبتت بذور الحضارات التي خلقت عالمنا الحديث». ويرى أنه: «في بعض الأحيان يستلزم الأمر حريقًا عظيمًا ليساعد النظام البيئي لغابة نمت طويلًا بالتجدد والتفتح من جديد». من دون شك، فإن جملة كلين صحيحة، لكنه يذكر أيضًا أن أحدنا قد يظل يتساءل ما الشكل الذي سيؤول إليه العالم الحديث لو لم يندثر العصر البرونزي.

من الواضح أن الأمر ليس مأساويًا ومظلمًا للدرجة التي تخيل الباحثون فيها الحقبة التي أعقبت انهيار العصر البرونزي، فالكثير من المكاسب الثقافية قد تحققت، ومثال ذلك في العصر الانتقالي الثالث في مصر (1069-525 قبل الميلاد) الذي اشتُهِر بالحرف اليدوية في مجال التعدين التي اشتغلت في الذهب والفضة، ولكن العنصر الرئيسي الأبرز في تلك الصناعة كان البرونز، فقد نجت المشغولات البرونزية من الانهيار كما نجا كثير من أوجه حضارات العصر البرونزي.

ومع أن بعض أنظمة الكتابة (سيما الميسينية والمينوية) اندثرت، فقد جاءت الأبجدية الفينيقية لتحل محلها. وتدريجيًا، تكيف سكان البحر الأبيض المتوسط الذين نجوا من الانهيار مع واقعهم الجديد وأعادوا بناء حياتهم. من الواضح أن تلك الحياة كانت مختلفة تمامًا عما كانت عليه لو لم يحدث الانهيار، ولكن كما لاحظ الفيلسوف اليوناني هيراكليتس، فإن جوهر الحياة هو التغيير وكل الأشياء في جميع الأزمان تخضع للتحول شئنا أم أبينا، وهذا ما واجهته حضارات العصر البرونزي.

ومع ذلك، فإن التشابه بين فترة الانهيار والعصر الحديث مذهل، ففي وقتنا الحالي كما كان الحال آنذاك، يرتبط العالم ارتباطًا وثيقًا بعلاقات التجارة العالمية والدبلوماسية، ومن المؤكد أن سقوط دولة واحدة سيؤثر في ثروات الدول أخرى.

وكما يلاحظ كلاين: «في نظام معقد مثل عالمنا اليوم، كل ما يتطلبه الأمر هو [نقطة تحول] حتى يتزعزع استقرار النظام برمته، ما يؤدي إلى الانهيار». يرى العلم الحديث والمراقبة التجريبية أن نقطة التحول تلك هي تغير المناخ؛ العامل الوحيد من بين أسباب انهيار العصر البرونزي الذي يراه علماء الآثار والعلماء المحترمون غير مسبوق في ذلك الوقت.

اقرأ أيضًا:

العصر الحديدي: تاريخ موجز

الكشف عن كبسولات زمنية من العصر الحديدي في إنجلترا

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: نور عباس

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر