اكتشف باحثون من مركز البحوث المختص بالمواد اللينة بجامعة كولورادو بولدر (المواد اللينة هي المواد القابلة للطي والتشكيل تحت عوامل ميكانيكية أو حرارية في درجة الحرارة العادية) حالةً جديدةً للمادة اقتُرِحت منذ أكثر من مئة عام وجرى البحث عنها منذ ذلك الوقت. يصف الفريق اكتشافهم المُسمى (الطور الخيطي الكهروحديدي للبلورات السائلة) في دراسة منشورة في مجلة PNAS. يقول البروفيسور في الفيزياء، المؤلف المشارك في الدراسة مات جلاسر: «يفتح هذا الاكتشاف بابًا إلى عالم جديد من المواد».

بعد أبحاث استمرت أكثر من قرن.. الكشف عن طور جديد للحالة السائلة - الطور الخيطي الكهروحديدي للبلورات السائلة - سلوك المواد السائلة والصلبة

تُعَد البلورات السائلة الخيطية موضوعًا جذابًا للبحث منذ سبعينيات القرن الماضي، إذ تمتلك هذه المواد سلوكًا خليطًا يشبه سلوك المواد السائلة والصلبة معًا، ما يجعلها قادرة على التحكم في الضوء، وقد استخدمها المهندسون على نطاق واسع في صناعة شاشات الكريستال السائل (LCD) في أجهزة الحاسوب والتلفزيونات والهواتف.

يمكن تمثيل الحالة الخيطية للبلورات السائلة بإسقاط مجموعة من الدبابيس على طاولة. تمثل الدبابيس الجزيئات الخيطية (التي تشبه القضبان) ذات الصفة القطبية، إذ يحمل رأس الدبوس شحنةً موجبة ويحمل طرفه المدبب شحنةً سالبة. في البلورات الخيطية التقليدية، ستشير نصف الدبابيس إلى اليسار والنصف الآخر إلى اليمين في توزيع عشوائي.

أما في الطور الخيطي الكهروحديدي للبلورات السائلة، تُظهِر الجزئيات انضباطًا أعلى، إذ تكون على شكل مجالات ضمن السائل، تملك جميعها اتجاهًا موحدًا (يمين أو يسار). يُسمى ذلك في لغة الفيزياء الترتيب القطبي.

يقول نويل كلارك البروفيسور في الفيزياء، مدير مركز أبحاث المواد اللينة: «قد يخلق اكتشاف هذا الطور من البلورات السائلة ثروةً من الابتكارات التكنولوجية، من أنواع جديدة لشاشات العرض إلى ذاكرة حاسوب غير مسبوقة. صدرت 40 ألف ورقة بحثية حول الأطوار الخيطية، وقد تقود إلى إمكانيات جديدة، خاصةً إن كان الطور الخيطي فيها كهروحديديًّا».

صور مجهرية للطور الجديد للبلورات السائلة

صور مجهرية للطور الجديد للبلورات السائلة

تحت المجهر

تطلَّب الاكتشاف سنوات طويلة من العمل. في العقد الثاني من القرن العشرين كان بيتر ديبي وماكس بورن الحائزان على جائزة نوبل أول من اقترح أن جزيئات المادة قد تكون في حالة مرتبة قطبيًّا تلقائيًا إذا صُمِّمت بلوراتها السائلة تصميمًا صحيحًا. بعد فترة قصيرة بدأ الباحثون باكتشاف بلورات صلبة تتصرف تصرفًا مشابهًا، إذ تشير جزيئاتها إلى اتجاه واحد يمكن عكسه بتعريضها لحقل كهربي. أُطلِق عليها الكهروحديدية (Ferroelectrics) لتشابهها مع المغناطيس.

في العقود اللاحقة، حاول العلماء إيجاد طور سائل يتصرف بطريقة مشابهة دون أي نتائج. حتى بدأ كلارك وفريقه بفحص RM734، وهو جُزيء عضوي صنعه فريق من العلماء الإنجليز قبل عدة سنوات.

كان الفريق الإنجليزي قد أعلن أن RM734 يُظهر طورًا خيطيًّا تقليديًّا في درجات الحرارة العالية، في حين يُظهر طورًا غريبًا في درجات الحرارة المنخفضة.

وعندما حاول فريق كلارك رصد ذاك الطور الغريب تحت المجهر لاحظوا شيئًا جديدًا. تحت تأثير حقل كهربي ضعيف، ظهرت مجموعة ألوان براقة على طرفَي الخلية المحتوية على بلورات سائلة.

يقول كلارك: «يشبه ذلك أن توصل مصباحًا بمصدر كهربي، ثم تجد أن المقبس وأسلاك التوصيل تتوهج بسطوع أعلى من المصباح ذاته!».

نتائج مذهلة

إذن ما الذي حدث بالضبط؟

بإجراء المزيد من الاختبارات، وجد الباحثون أن هذا الطور من RM734 أكثر استجابةً للحقل الكهربائي بـ 100 إلى 1000 ضعف مقارنةً بالبلورات السائلة الخيطية التقليدية، ما يدل على أن الجزيئات ضمن هذه البلورات السائلة تُظهِر ترتيبًا قطبيًّا عاليًا.

يقول كلارك: «عندما تشير جميع الجزيئات إلى اليسار، ثم تتعرض لحقل كهربي يدفعها للتوجّه يمينًا، تكون الاستجابة دراماتيكية».

اكتشف الفريق أيضًا أن هذه المناطق الفريدة تتشكل تلقائيًّا في البلورات السائلة عند تبريدها من درجات حرارة عالية، ما يشير إلى وجود بقع ضمن العينة تبدو فيها الجزيئات مُرتبة، ما يؤكد أن هذا الطور هو بالفعل طور خيطي كهروحديدي سائل. وقد فاق انتظام الجزيئات المتوافقة توقعات الفريق.

صور مجهرية للألوان البراقة الظاهرة في الطور الجديد للبلورات السائلة

صور مجهرية للألوان البراقة الظاهرة في الطور الجديد للبلورات السائلة

علّق جو مكلينان بروفيسور الفيزياء في جامعة بولدر، المؤلف المشارك في الدراسة: «السوائل تسودها الإنتروبيا، كل شيء يتذبذب. كنا نتوقع الكثير من الفوضى».

عندما فحص الباحثون مدى انتظام الجزيئات ضمن نطاق محدد، كان الأمر مفاجئًا للجميع على حد وصف مكلينان، فقد كان لجميع الجزيئات تقريبًا نفس الاتجاه.

الهدف القادم للفريق هو اكتشاف الآلية التي حقق بها السائل RM734 هذا التصرف النادر. يستخدم جلاسر والباحث ديمتري بيدروف من جامعة يوتاه محاكاةً حاسوبية للإجابة عن هذا السؤال.

يقول كلارك: «يرجح هذا العمل وجود سوائل كهروحديدية أخرى لم تُكتشف بعد، وقد تزيد التقنيات الجديدة -مثل الذكاء الاصطناعي- فعالية البحث».

اقرأ أيضًا:

اكتشاف بقايا أقدم سائل في النظام الشمسي داخل شظايا نيزك

ترجمة: محمد لؤي الحليمي

تدقيق: وائل حجازي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر