يعرفه الجميع بخطابه «لدي حلم» الذي ألقاه في العاصمة واشنطن عام 1968. حارب الفقر والتمييز العنصري على أساس اللون ونظَّم المسيرات السلمية ورفض العنف بجميع أشكاله ورأى أن الطريق لنيل السود حقوقهم وكرامتهم تبدأ بالأنشطة السلمية فقط، ولم يكن العنف خيارًا عنده البتة. نجح كثيرًا وواجه الفشل وقبل خطابه الأخير، تلقى تحذيرات بشأن مخاوف على حياته، ومع ذلك قابل جمهوره ولم يخشَ شيئًا لتنهي رصاصة حياته عام 1968. لنتعرف معًا على قصة حياة عراب حركة الحقوق المدنية السلمية وقائدها «مارتن لوثر كينغ».

كان القس الطبيب مارتن لوثر كينغ الابن قائدًا ملهِمًا وشخصية ساحرة لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، أدار كينغ حركة مقاطعة الحافلات في مدينة مونتغمري التي استمرت مدة عام، ووضعته تحت مراقبة الدولة المنقسمة على نفسها.

جذبت قيادته للحملة وحكم المحكمة العليا الصادر ضد التقسيم العرقي في الحافلات الأضواء إليه، إذ شكَّل كينغ مؤتمر القيادة المسيحي الجنوبي لينظم الاحتجاجات السلمية وليلقي أكثر من 2500 خطاب تحدث فيها عن الجور والظلم العرقي، لكنه لم يعمر طويلًا؛ إذ اغتِيل عام 1968.

حياته الباكرة

وُلِد مارتن لوثر كينغ في 15 يناير عام 1929 في مدينة أتلانتا في ولاية جورجيا الأمريكية، كان والده مايكل كينغ كاهن كنيسة إبنيزر المعمدانية ووالدته آلبيرتا وليامز خريجة كلية سبيلمان ومدرسة سابقة.

عاش كينغ مع والديه وشقيقته وشقيقه في منزل جدته والدة أمه ذي الطراز الفيكتوري حتى سن الخامسة إذ كان اسم مارتن «مايكل لويس».

ترعرع في عائلة من الطبقة الوسطى انخرط والده في محفل محلي للجمعية الوطنية المعنية بتنمية أوضاع سود البشرة، وقاد حملة ناجحة هدفت إلى تحقيق العدالة في الأجور بين أساتذة أتلانتا البيض والسود. أصبح والده كاهنًا لكنيسة إبنيزر المعمدانية بعد وفاة جده عام 1931، وخدم الكنيسة 44 عامًا.

بعد حضوره اجتماعات التحالف المعمداني العالمي في برلين عام 1934، غيَّر والد مارتن اسمه واسم ابنه إلى مارتن لوثر كينغ تيمنًا بالمصلح البروتستانتي مارتن لوثر، وقد ألهمته شجاعة كينغ في التصدي للشر المؤسسي.

دخل كينغ كلية مورهاوس في سن الخامسة عشرة وجعله تردده نحو وظيفته المستقبلية (رجل دين) ينخرط في نشاطات لا تتسامح معها الكنيسة؛ فقد لعب البلياردو وشرب الجعة ونال درجات امتحانية بالغة السوء في أول عامين دراسيين في مورهاموس.

درس كينغ علم الاجتماع وفكر في الالتحاق بمدرسة المحاماة، أعجبته مقالة هنري دايفيد ثورو «في العصيان المدني» وفكرتها القائمة على اللا انسياق مع النظام الجائر، حسم كينغ أمره بأن النشاط الاجتماعي هو هدفه والدين الوسيلة الأفضل لتحقيق هدفه هذا.

تخرج كينغ بدرجة جامعية بعلم الاجتماع في سن التاسعة عشرة عام 1948، وفي العام ذاته من شهر فبراير، عُيّن كاهنًا.

في سبتمبر عام 1948، التحق كينغ بمعهد كروز اللاهوتي ذي الأغلبية البيضاء في أبلاند في ولاية بنسلفانيا، وقرأ أعمالًا لأعظم علماء اللاهوت، لكن الإحباط نال منه لما رأى أنه لا توجد فلسفة كاملة بحد ذاتها.

وبعد سماعه محاضرة للقائد الهندي غاندي، شدَّه مفهوم غاندي القائم على المقاومة السلمية وخلص إلى أن العقيدة المسيحية القائمة على المحبة التي تعمل على مبدأ اللا عنف يمكن لها أن تكون سلاحًا قويًا في يد شعبه (السود).

عام 1951، تخرج كينغ بدرجة جامعية في علم اللاهوت وكان الأول على صفه، وفي سبتمبر من العام نفسه، التحق بكلية اللاهوت في جامعة بوسطن لدراسة الدكتوراه.

زواج مارتن لوثر كينغ

خلال إقامته في بوسطن، قابل كينغ كوريتا سكوت، مغنية تدرس الأصوات في معهد نيو إنغلاند الموسيقي. رأى كينغ فيها جميع الخصال التي يودها في زوجته، لكنها كانت مترددة بخصوص مواعدة كاهن، وتزوج الاثنان في الثامن عشر من يونيو عام 1953.

دُعِي كينغ إلى مدينة مونتغمري في ولاية آلاباما ليلقي عظة في كنيسة ديكستر أفينيو المعمدانية التي لها تاريخ حافل في أنشطة الحقوق المدنية، وفي مونتغمري كان كاهن الكنيسة بصدد الاستقالة من منصبه، وسحر كينغ بكلماته الحشد وأسرهم بها وتسلم رعاية الأبرشية عام 1954.

في هذه الأثناء، كانت كوريتا ملتزمة عمل زوجها لكنها كانت متضاربة حول دورها، وأراد كينغ منها البقاء في المنزل مع أطفالها الأربعة. شاركت كوريتا مشاعرها المتضايقة آنذاك في مقابلة صحفية نُشرت عام 2018 في صحيفة الغارديان البريطانية.

مقاطعة ركوب الحافلات في مدينة مونتغمري

لما وصل كينغ إلى مدينة مونتغمري لينضم إلى كنسية ديكستر أفنيو، اعتقلت الشرطة روزا باركس التي كانت تعمل سكرتيرة في الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين لرفضها التخلي عن مقعدها في الباص لرجل أبيض؛ قدم اعتقال باركس في الأول من ديسمبر عام 1955 فرصة ذهبية لرفع قضية لإلغاء آلية الفصل العرقي في نظام النقل.

تواصل إي. دي. نيكسون والكاهن رالف أبيرناثي مع كينغ ورجال دين آخرين وخططوا لمقاطعة شاملة للحافلات في المدينة، إذ اتخذت المجموعة قرارًا ينص على عدم ركوب أي شخص أسود الحافلات في الخامس من ديسمبر.

في ذلك اليوم رفض عشرون ألف مواطن أسود ركوب الحافلات، ولأنهم شكلوا قرابة 90% من مستخدمي خدمة النقل؛ فإن معظم الباصات كانت فارغة. وصل نظام النقل في مونتغمري إلى عتبة الإفلاس مع انتهاء المقاطعة التي استمرت 381 يومًا.

وبعد نجاحهم هذا، التقى قادة الحركة في يناير عام 1957 في أتلانتا وأسسوا مؤتمر القيادة المسيحي الجنوبي لتنظيم الاحتجاجات السلمية التي تقودها كنائس السود وانتُخِب كينغ رئيسًا للمؤتمر وظل في منصبه هذا حتى اغتياله.

بيرمنغهام

في أبريل عام 1963 انضم كينغ ومؤتمر القيادة المسيحي الجنوبي للكاهن فريد شاتلوورث العضو في الحركة المسيحية عن ولاية آلاباما لحقوق الإنسان في مظاهرة سلمية لإنهاء التمييز العنصري وإجبار شركات مدينة بيرمنغهام في ولاية آلاباما على توظيف ملوني البشرة.

أطلق رجال الشرطة خراطيم المياه والكلاب على المحتجين واعتُقل كينغ وأمضى ثمانية أيام في سجن بيرمنغهام واستغل الوقت ليكتب «رسالة من سجن بيرمنغهام» مؤكدًا فيها نهجه وفلسفته السلمية.

صدمت الصورة الوحشية في بيرمنغهام الأمة وتدفقت الأموال لدعم المحتجين في حين انضم الحلفاء البيض إلى المظاهرات.

وبحلول الصيف بدأت الشركات بتوظيف ملوني البشرة. دفعت الأجواء السياسية الناتجة عن هذا الحراك إلى تمرير قانون الحقوق المدنية.

في يونيو عام 1963 أعدَّ الرئيس جون كينيدي مشروع قانون الحقوق المدنية لعام 1964 ووقعه الرئيس ليندون جونسن بعد اغتيال كينيدي ليصبح قانونًا، وحظر القانون التمييز العرقي في الأماكن العامة وأكد على الحق الدستوري في التصويت ومنع التمييز في أماكن العمل.

مسيرة مارتن لوثر كينغ إلى واشنطن

خطة كينغ التالية كانت زحفه إلى العاصمة واشنطن؛ ففي 28 أغسطس عام 1963 استمع قرابة 250 ألف أمريكي إلى خطابات ألقاها ناشطو الحقوق المدنية، لكن الأغلبية قد أتت لتسمع كينغ.

ولخشيتها من حدوث أعمال عنف، عدَّلت إدارة كينيدي كلمة جون لويس عن لجنة التنسيق الطلابية الداعية للسلمية ودعت منظمات بيضاء للمشاركة، ما أدى إلى إقدام بعض المواطنين السود على الحط من شأن الحدث ووصفه مالكوم إكس بأنه «مهزلة في واشنطن».

تجاوزت الحشود كل التوقعات وازدادت حماستهم والخطباء يتكلمون حتى نهض كينغ وبدأ خطابه ببطء وعدل عن قراءة خطابه من الأوراق أمامه إما بسبب الإلهام الذي هبط عليه فجأة أو لصراخ منشدة أناشيد الكنسية ماهليا جاكسون ملأ فمها: «قل لهم عن الحلم يا مارتن!».

وقد أعلن أنه: «سيأتي يوم ما ويعيش أطفالي الأربع الصغار في بلد حيث لا يُحكم عليهم من لون بشرتهم بل من شخصياتهم وأفعالهم». ويعد خطابه ذاك من أبرز خطاباته.

فوزه بجائزة نوبل

أصبح كينغ شخصًا مشهورًا عالميًا وقد منحته مجلة التايم لقب الشخصية الأبرز في عام 1963. فاز كينغ بجائزة نوبل في السنة اللاحقة وتبرع بـ 54,123 دولارًا للنهوض بالحقوق المدنية ودعمها.

لم يتحمس الجميع لنجاح كينغ؛ إذ ومنذ حركة مقاطعة ركوب الحافلات، وضعه مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي إدغار هوفر في دائرة التحقيق والتمحيص والمراقبة وأمل إثبات أن كينغ تحت التأثير الشيوعي.

قدم هوفر طلبًا للمدعي العام روبرت كينيدي لوضع كينغ تحت المراقبة واقتحام منزله ومكاتبه والتنصت على مكالماته الهاتفية، ورغم كل تلك الجهود، فشلت الإف بي آي في إيجاد دليل يثبت تأثر كينغ بالمد الشيوعي.

الفقر

في صيف عام 1964 واجهت أفكار كينغ السلمية تحديات تمثلت باضطرابات دامية في الشمال.

ظن كينغ أن سبب هذه الاحتجاجات كان الفصل العنصري والفقر، إذ حوَّل بوصلة تركيزه نحو قضية الفقر، لكنه لم ينجح في جمع الدعم والتأييد.

نظَّم كينغ حملة لمواجهة الفقر عام 1966 وانتقل هو وعائلته إلى أحد أحياء السود في مدينة شيكاغو، لكنه وجد أن استراتيجيته الفعالة في الجنوب غير مجدية في شيكاغو.

وقد قوبلت جهوده «بمقاومة منظمة وتشكيك الناشطين الآخرين وعنف علني»، حسب ما كتب مات بيرس في مقالة نشرتها صحيفة لوس آنجلوس تايم في يناير عام 2016 في الذكرى السنوية الخمسين على أعمال كينغ وجهوده في المدينة.

يقول بيرس في مقالته: «عند وصول كينغ إلى مدينة شيكاغو، كان في انتظاره طابور من الشرطة وحشد من السكان البيض الغاضبين، وعلّق كينغ على ذلك المشهد بقوله: «لم أرَ حشودًا من قبل مدفوعة بالكراهية والحقد -حتى في ميسيسبي وآلاباما- كالحشود التي قابلتها في شيكاغو؛ بالفعل إنه مجتمع منغلق وسنعمل على جعله مجتمعًا منفتحًا»».

ورغم المقاومة التي واجهها كينغ في شيكاغو، فقد مضى رفقة مؤتمر القيادة المسيحي الجنوبي في مواجهة «المتربحين على العشوائيات والسماسرة والعمدة ريتشارد جي. ديلي» حسب توصيف التايم. كانت تلك مهمة صعبة وعسيرة.

بدأت حركة الحقوق المدنية بالانقسام؛ إذ عارض نشطاء متشددون كينغ وخططه السلمية وأطلقوا صيحات الاستهجان في أحد اجتماعاته.

تحول السود في الشمال وأماكن أخرى عن المسار السلمي الذي يدعو إليه كينغ نحو أفكار مالكوم إكس.

لم يقبل كينغ الخنوع وتناول في نقاشه ما وجد أنه فلسفة مؤذية للقوة السوداء في كتابه الأخير «أين نذهب من هنا: الفوضى أم المجتمع؟» سعى كينغ لتوضيح العلاقة بين الفقر والتمييز والنظر في انخراط أمريكا المتزايد في فيتنام الذي عدَّه عملًا غير عادل وتمييزي ضد السود ومن يعيشون تحت خط الفقر.

آخر أيامه

في ربيع عام 1968، ذهب كينغ إلى ممفيس في ولاية تينيسي لينضم إلى مسيرة لدعم إضراب نفذه عمال الصرف الصحي السود.

وبعد بدء المسيرة، اندلعت أعمال عنف وأُصيب 60 شخصًا وقُتِل شخص ما أدى إلى إيقاف المسيرة.

في الثالث من أبريل ألقى كينغ آخر خطاباته وقال إنه: «يرغب في حياة طويلة وقد تلقى تحذيرات في ممفيس، لكن الموت لم يعد مهمًا، لأنه وصل إلى القمة وقد رأى الأرض الموعودة».

في الرابع من أبريل عام 1968 تلقى كينغ رصاصة في وجهه ولقي حتفه بعد ساعة في مشفى سانت جوزيف. خيم الحزن على البلد الذي أنهكه العنف وتفجرت أعمال الشغب والاضطرابات في عموم البلاد.

دُفن مارتن لوثر كينغ في كنيسة إبنيزر المعمدانية التي كان هو ووالده كاهنيها سنوات كثيرة.

اقرأ أيضًا:

العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية، لمحة تاريخية

فريدريك دوغلاس: سيرة شخصية

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: تسبيح علي

مراجعة: عون حدّاد

المصدر