يشير مصطلح (بيريسترويكا) الذي يعني إعادة البناء في اللغة الروسية إلى سلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية. وكان الهدف منها بث النشاط في اقتصاد الاتحاد السوفييتي الذي كان يمر بحقبة من الركود في ثمانينات القرن الفائت.

صمم هذا النظام الرئيس (ميخائيل غورباتشوف)، الذي كان مشرفًا على أغلب التغييرات الجوهرية التي حصلت في عجلة الاقتصاد والحياة السياسية في أمته منذ الثورة الروسية. لكن هذه التغييرات التي حصلت بالتزامن مع حالة عدم استقرار نمت داخل الاتحاد السوفييتي وخارجه أوصلته إلى الانهيار في عام 1991.

ظهرت أولى محاولات الإصلاح عام 1984، إذ ألقى (ميخائيل غورباتشوف) خطابًا بعد شهرين من وصوله إلى السلطة، وذلك في مدينة (سان بطرس بيرغ) التي كانت تُسمى آنذاك (لينينغراد). وانتقد في هذا الخطاب ضعف النظام الاقتصادي للاتحاد السوفيتي وعدم كفاءته، ليكون بذلك أول قائد شيوعي يفعل ذلك علانية.

تبع ذلك الخطاب، خطاب آخر في شهر فبراير من عام 1986، ألقاه (غورباتشوف) أمام مؤتمر الحزب الشيوعي. تحدث فيه عن الحاجة إلى إعادة هيكلة اقتصادية وسياسية، وهو ما يسمى (بيريسترويكا)، ودعا إلى حقبة جديدة من الشفافية والانفتاح، وهو ما يسمى (غلاسنوت).

لكن مع حلول عام 1987، لم تحقق هذه المحاولات الأولى سوى القليل من أهدافها. وهنا باشر (غورباتشوف) بإطلاق برنامج أكثر طموحًا.

كانت (البيريستوريكا) تغضب البيروقراطيين السوفييت. لكن مع ذلك، خفف (غورباتشوف) من السيطرة المركزية على الكثير من الشركات، وسمح لبعض المزارعين والمصنعين أن يقرروا بأنفسهم المنتجات التي يصنعونها وكميتها، وأن يحددوا أسعارها بأنفسهم أيضًا.

حفز هذا الإجراء المزارعين والمصنعين على الاتجاه نحو تحقيق الأرباح، لكنه تعارض أيضًا مع أنظمة ضبط الأسعار ومراقبتها التي شكلت أساس الخطط الاقتصادية السوفييتية. وكان أيضًا خطوة أغضبت الكثير من المسؤولين رفيعي المستوى الذين ترأسوا سابقًا تلك اللجان المركزية القوية.

في مايو عام 1988، استحدث (غورباتشوف) سياسة جديدة سمحت بإنشاء شركات تعاونية محدودة داخل الاتحاد السوفييتي. ما أدى إلى ظهور متاجر ومطاعم ومعامل يملكها الأفراد. علمًا أن القيادة الروسية لم تسمح بأية مظاهر للسوق الحرة الرأسمالية في الاتحاد السوفيتي منذ البدء بتطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة التي أطلقها (فلاديمير لينين) عام 1922 بعد الحرب الأهلية الروسية التي لم تستمر طويلًا. ومع ذلك، اختار (غورباتشوف) خطواته بعناية، يقول المؤرخ (وليام تابومان) مؤلف كتاب (غورباتشوف: حياته وزمنه): «كانت سياسةً أو خطةً لاستحداث المشاريع الخاصة دون تسميتها بذلك».

في الحقيقة لم يُستخَدم مصطلح الملكية الخاصة قط. وأصبحت كثير من الشركات التعاونية الجديدة أساسًا للنظام (الأوليغارشي)، وهو نظام نخبوي لا يزال مسيطرًا على زمام الأمور في روسيا حتى يومنا هذا.

(غورباتشوف) يخفف القيود على التجارة

ترك (غورباتشوف) القيود المفروضة على التجارة الأجنبية جانبًا، وسهل الإجراءات التي من شأنها السماح للمصنِّعين وأجهزة الحكومة المحلية بتجاوز المنظومة المركزية الحكومية البيروقراطية الخانقة. وشجع الاستثمار الغربي أيضًا، مع أنه عاد فيما بعد إلى سياسته الأصلية، التي دعت إلى أن تكون روسيا المالك والمدير الوحيد لمعظم هذه المشاريع التجارية الجديدة.

خرجت مظاهرات شارك فيها آلاف العمال، وطالبوا بمزيد من الحقوق والحريات، واحتجوا على قصور صناعة الفحم وضعفها. في البداية، حافظ (غورباتشوف) على ضبط النفس، لكنه عاد عن نهجه السابق مجددًا عندما واجه ضغطًا من المتشددين بعد إضراب ضخم شارك فيه 300 ألف من عمال المناجم عام 1991.
الإصلاحات الاقتصادية تنعكس سلبًا على الاتحاد السوفيتي

عندما أسس غورباتشوف هذه الإصلاحات، كان يهدف إلى تحقيق قفزة في الاقتصاد السوفييتي المتعثر، لكن كثيرًا منها قد أنتج تأثيرًا عكسيًا. فمثلًا، لطالما وفر القطاع الزراعي الطعام بتكلفة منخفضة بفضل عقود من الدعم الحكومي الكبير. أما بعد التغييرات التي حصلت، أصبحت أسعار الطعام أعلى في الأسواق، وفقد الكثير من السوفييت القدرة على تحملها.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد زاد الإنفاق الحكومي والدين كثيرًا، وأدت الضغوطات التي مارسها العمال للمطالبة بأجور أعلى إلى اتجاه البلاد إلى مستويات خطيرة من التضخم.

إذا كان (غورباتشوف) قد واجه معارضة من المتشددين لتجاوزه الحدود وتحركه السريع جدًا، فقد انتقده آخرون أيضًا على تلكؤه. إذ دعا بعض الليبراليون إلى إنهاء كامل للجان التخطيط المركزية، الأمر الذي رفضه (غورباتشوف)، يقول (تابومان):

«سيقول منتقدوه المتطرفون إنه لا يتحرك بالسرعة الكافية لينشئ اقتصادًا حرًا، لكنه لم يقدم على ذلك لأن أي مسعى لخلق سوق حر قد يُحدِث اضطرابات وبلبلة كانت قد وقعت -في الحقيقة- في عهد بوريس ييلستين».

الإصلاحات السياسية في ظل (بيريسترويكا)

عندما كشفت الإصلاحات في ظل سياسة (غلاسنوت) عن أهوال الماضي في الاتحاد السوفييتي، ومواطن ضعفه وقصوره في الحاضر، تحرك (غورباتشوف) ليعيد تجديد النظام السياسي للاتحاد السوفيتي برمته تقريبًا.

في اجتماع للحزب عام 1988، عرض (غورباتشوف) بعض الإجراءات، ودعا من خلالها لإجراء أول انتخابات ديمقراطية منذ اندلاع الثورة الروسية عام 1917. وظن المتشددون الذين دعموا تدابير (غورباتشوف) في بداية الأمر أن موعد هذه الانتخابات سيكون بعيدًا، ما سيسمح لهم بالسيرطرة على العملية بأسرها في أثناء حدوثها، لكن غورباتشوف أعلن عن إجرائها في الأشهر اللاحقة.

اتسمت الحملة التي نتجت عن انتخابات مؤتمر جديد لنواب الشعب بأنها استثنائية ومميزة، ففي حين احتفظ بعض من أعضاء الحزب الشيوعي بالكثير من مقاعدهم، انهزم متشددون آخرون في صناديق الاقتراع لصالح مصلحين ليبراليين. وانتُخِب منشقون وسجناء سابقون، كالناشط والفيزيائي الحائز على جائزة نوبل (أندريه ساخاروف)، بوصفهم مرشحين أطلقوا حملات على النمط الغربي.

في جلسة المؤتمر العام الجديد الأولى التي عُقدَت في مايو عام 1989، خصصت الصحف ومحطات الراديو والتلفاز -التي اكتسبت زخمًا بعد رفع القيود عنها في ظل سياسة غلاسنوت- ساعات لنقل اللقاءات التي أظهرت بجلاء الصراع بين المحافظين والليبراليين. يقول (تابومان):

«توقف الجميع عن العمل؛ قد يبدو الأمر أن البلاد بأسرها قد بدأت للتو مشاهدة التلفاز، النوافذ كانت مفتوحة وكان بالإمكان سماع النقاشات الدائرة في الشقق». وعام 1990 أصبح (غورباتشوف) الرئيس الأول والوحيد للاتحاد السوفيتي.

مناوئو (بيريسترويكا) يشنون هجومًا مضادًا

كما هو الحال مع الإصلاحات الاقتصادية، فإن المصلحين المنتخبين حديثًا قد استغلوا منصابهم لنقد التغيير الذي وجدوه محدودًا. ولم يكن الحال أفضل مع المتشددين، إذ أن ضغوطاتهم لم تكن أقل شراسة.

في مارس عام 1988، نشرت الصحيفة الأكبر في الاتحاد السوفييتي هجومًا كبيرًا على (غورباتشوف)، في مقالة كتبتها الكيميائية والناقدة الاجتماعية (نينا أندريفيا). في هذه المقالة، التي يُحتمل أنها كُتبَت بموافقة ضمنية من المكتب السياسي الذي يشكل أعلى مستوى في الحزب الشيوعي، كتبت (نينا):

«لا أستطيع التخلي عن مبادئي» وقد نُظِر إلى المقالة على أنها محاولة لزعزعة استقرار حكم (غورباتشوف).

سمحت إصلاحات إضافية بإنشاء الأحزاب السياسية، ونقلت زمام التحكم والسيطرة من أيدي الحكومة المركزية إلى الهيئات الإقليمية والمحلية، لكنها أضعفت قاعدة الدعم التي أسس (غورباتشوف) نظامه عليها، لأن الحزب الشيوعي فقد احتكاره للسلطة السياسية في الاتحاد السوفيتي.
الأحداث الدولية في ظل (بيريستويكا)

تمسك (غورباتشوف) بوعده بإنهاء انخراط الاتحاد السوفيتي في الحرب في أفغانستان، ذلك البلد الذي غزته بلاده عام 1979. وقد انسحبت قوات الاتحاد السوفييتي من أفغانستان انسحابًا كاملًا عام 1989، بعد عشرة أعوام مُنيت في أثناءها بخسائر بشرية تُقدَّر بخمسة عشر ألف قتيل.

بدأ الاتحاد السوفييتي بالتعامل مع الغرب، وأقام (غورباتشوف) علاقات مهمة مع قادة مثل رئيسة الوزراء البريطانية (مارغريت تاتشر)، وقائد ألمانيا الغربية (هيلمت كول). أما أكثر العلاقات التي نسجها (غورباتشوف) شهرة، كانت مع الرئيس الأمريكي (رونالد ريغين).

توصل (غورباتشوف)، الذي كان قائدًا من نوع آخر يختلف عن المألوف من القادة الشيوعيين، مع (ريغين) -المعارض الشرس للشيوعية- إلى سلسلة من الاتفاقيات المهمة. منها معاهدة INF عام 1987، التي أنهت وجود الأسلحة النووية متوسطة المدى في أوروبا. وفي ذات العام، وقف (ريغين) بجانب جدار برلين وألقى أشهر خطاباته خلال فترته الرئاسية: «سيدي غورباتشوف انقض هذا الجدار».

انهيار التكتل السوفيتي أحد النتائج التي تمخضت عن (بيريسترويكا)

سرَّع فشل نظام (بيريسترويكا) في سقوط الاتحاد السوفيتي. فبعد عقود من التحكم المطلق ببلدان التكتل الشرقي، أرخى الاتحاد السوفيتي في ظل رئاسة (غورباتشوف) قبضته.

وفي عام 1988 صرَّح (غورباتشوف) للأمم المتحدة، أنه سيقلل من حجم القوات السوفييتية، وقال لاحقًا أن الاتحاد السوفيتي لن يتدخل بعد الآن في الشؤون الداخلية لتلك البلاد.

لقد كان انهيار حلف الاتحاد السوفيتي السريع مع البلدان الثمانية التي تدور في فلكه مذهلًا؛ فمع نهاية عام 1989 انهار جدار برلين وكانت ألمانيا تتجه نحو التوحد. أما باقي الدول كبولندا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا فقد انتقلت للديمقراطية بفضل ثورات سلمية.

بدأت حركات الاستقلال القومية تجتاح الاتحاد السوفييتي في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، واستمدت إلهامها من الإصلاحات التي مر بها الاتحاد السوفيتي في ظل سياستي (بيريسترويكا) و(غلاسنوت)، إضافةً إلى انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية أيضًا.

ونظرًا إلى أن صعوبات نصف عقد من الإصلاح التي مر بها الاتحاد السوفيتي قد سببت زعزعة في استقرار الحزب الشيوعي، حاول (غورباتشوف) تصحيح ما آلت إليه الأمور بتغيير مواقفه لاسترضاء المتشددين والليبراليين. وذهبت مطالبه بدعم غربي -وعلى الأخص إلى الرئيس الأمريكي (جورج دبليو بوش)- أدراج الرياح.

في أغسطس عام 1991، تحالف متشددون مع أفراد من (كي جي بي)، وحاولوا الانقلاب على غورباتشوف وخلعه من السلطة؛ لكنه احتفظ بها ولو لمدة مؤقتة. وفي ديسمبر، وبعد قرابة خمسة وسبعين عامًا على اندلاع الثورة الروسية في عهد الحزب الشيوعي، وصل الاتحاد السوفيتي إلى نهايته. إذ استقال (غورباتشوف) في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1991. وأذن سقوط الاتحاد السوفيتي بنهاية الحرب الباردة.

اقرأ أيضًا:

الحرب الباردة وتقارب القوى المتصارعة خلالها

ما أسباب الحرب الباردة؟

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: جنى الغضبان

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر