كيف تشكلت المجرات؟


يمكنك في ليلةٍ هادئةٍ النَّظر إلى السَّماء ورؤية شريطٍ لامعٍ ممتدٍ، هذه هي مجرَّة درب التَّبانة الّتي سرد القدماء العديد من الأساطير عنها. كان جاليليو أوّل من نظر إلى ذلك الشَّريط اللامع بواسطة تلسكوب واكتشف أنَّه يتكَّون من العديد من النُّجوم الخافتة. أمَّا اليوم، فنحن نعلم أنَّ هذا الشَّريط ما هو إلا مشهد المجرّة من الدَّاخل؛ تلك المجرَّة التي تحتوي على ملياراتِ النُّجوم ومنها الشَّمس، وكميَّةٍ ضخمةٍ من الغبار الكونيّ.

في أوائل هذا القرن، قادت ملاحظات إدوين هابل إلى اكتشاف أنَّ مجرَّتنا عبارة عن نقطةٍ صغيرةٍ في الكون، وهي إحدى مليارات المجرَّات التي تحوي بداخلها مليارات النُّجوم. بعضها كدرب التَّبانة، التي تبدو كقرصٍ مسطّحٍ ذي أذرعٍ حلزونيَّةٍ، ومناطقَ بداخلها تحوي غازاتٍ كثيفةٍ بين نجميَّة، التي تُدعى (سُدُم – nebulae)، والتي تمثِّل مصانع تكوين النُّجوم. أمَّا البعض الآخر، فعبارة عن تكتّلاتٍ بيضويَّة الشَّكل من النُّجوم تامَّة النُّموّ، ولكنَّها خاليَّةٌ من أيّ غازاتٍ أو غبار.

لا تتوزَّع المجرَّات بشكلٍ عشوائي في الكون، بل غالبًا ما تكون متكتلةً ومتجمعةً في (عناقيد – clusters)، والتي بدورها تكون ضمن مجموعاتٍ أكبر تُسمى (عناقيد هائلة – super-clusters). كيف تكوّنت هذه المجرات والعناقيد وأصبحت على ما هي عليه؟ هل تتجمَّع المواد التي بداخل المجرَّات وتتولّد منها النُّجوم فيما بعد؟ أم تتشكل النُّجوم أولًا وتجذب بعضها بعضًا لتشكيل المجرَّات؟

توصَّل علماء الفلك في النّصف الأخير من القرن العشرين إلى اكتشافاتٍ عظيمةٍ وسّعت مفاهيمنا عن الكون، حيث ازدادت المعرفة لدى البشريَّة بشكل كبيرٍ وتراكمت على فترةٍ من الزَّمن تعادل مدة حياة شخصٍ واحدٍ. ومع ذلك، تبقى العديد من التساؤلات دون إجابة، وأحد أهم هذه الأسئلة، كيف تشكَّلت المجرَّات الأولى؟

للإجابة عن الأسئلة السابقة علينا بناء تلسكوباتٍ أكبر لرؤية المجرَّات البعيدة والخافتة، التي ستمكننا أيضًا من دراسة أحداث الأكثر قدمًا. تمكَّن علماء الفلك في الأعوام السَّابقة من تحقيق تقدُّمٍ هائلٍ من خلال التَّمعُّن في الفضاء ودراسة الأجسام التي وُجدت حينما كان الكون في بدايَّة نشأته. لكن لم يتمكَّن أحدٌ بعد من رؤية العصر الذي لم توجد فيه المجرات. وللوصول لذلك، علينا رؤية الكون عندما كان عُمره بضعة ملايين من السِّنين، حينما كانت المجرَّات على وشك الظهور، كما يجب علينا إلقاء نظرة على المجرّات الناشئة حديثًا.

في البداية، كان هناك الانفجار العظيم، الانفجار الذي تسبّب في وجود الزَّمان والمكان والطَّاقة والمادة. وبعد مرور مئات الآلاف من السِّنين، كان الكون حارًّا جدًّا لا يسمح بنشوء العناصر بعدُ، فكان عبارةً عن خليطٍ من الجسيمات دون الذَّريَّة والإشعاعات. عندما برد الكون قليلًا، تكوّنت أولى ذرّات الهيدروجين والهيليوم. لكن هل تبدو تلك بداية تكوّن المجرات الأولى؟ لا نعلم ذلك بعد؛ وإلى الآن، لا يسعنا سوى طرح الفرضيَّات.

يعتقد بعض علماء الفلك أنَّ الكون يتكوّن من قطعٍ صغيرةٍ عبارة عن سُحبٍ غازيَّةٍ وعناقيد نجميَّةٍ اندمجت مع بعضها البعض لتكوّن المجرَّات. بينما يظنُّ آخرون أنَّ الكون في مراحله الأولى انقسم إلى تكتُّلاتٍ ضخمةٍ تحتوي على الموادّ اللازمة لبناء ملايين المجرّات، والّتي بدورها انقسمت إلى غازاتٍ وسُحبٍ متزايدةٍ في الصِّغر، والّتي نتج عنها في النّهاية مجرّاتٍ منفردة.

في الحالة الأولى، ربّما تشكّلت درب التَّبانة عندما اندمجت عناقيد النُّجوم لتكوين جوهر المجرّة، فيما بعد، تراكمت الغازات والغبار لتشكّل القرص المسطَّح ذا الأذرع الحلزونيَّة. ولكن، وفقًا للحالة الثانيَّة، ربّما قد وُجدت درب التبانة بعد تكتُّل نطاقٍ ضخمٍ من الغازات والغبار وتحوّلهم إلى مجموعة من المجرات. في حين كان التجزؤ المستمرُّ مسؤولًا عن إنتاج مجموعاتٍ أصغر ومجرّات منفردةٍ أكثر؛ كدرب التَّبانة وجيرانها مثل سحابتي ماجلان الصّغرى والكبرى.

تقود دراسة علماء الفلك لمجرَّة درب التَّبانة، إلى تعرّف ميلاد وحياة وموت النُّجوم بداخلها، لأنهم يرون مراحلَ مختلفةٍ من تطوُّر تلك النجوم. تقترح الدِّراسات المفصَّلة لأعمار لتلك النُّجوم وتركيباتها الكيميائيَّة أنَّ درب التَّبانة يتشكل بداخلها عددٌ من النجوم يعادل بضع شموسٍ كل سنةٍ، على مدار العشر مليارات سنةٍ الأخيرة. على الرّغم من أنّ تلك النّجوم قد تمنحنا أدلةً على عُمر مجرّتنا، إلّا أنّهم يمنحوننا أدلةً قليلةً جدًّا لتفسير كيفيَّة تشكُّل المجرّة.

بالنّظر عبر التّلسكوبات إلى أماكنَ تتخطّى مجرّتنا، يمكن لعلماء الفلك دراسة المجرَّات تامّة النُّموّ ومتوسّطة العمر. عندما كان تلسكوب هابل التّابع لوكالة ناسا مُسلّطًا على بقعةٍ صغيرةٍ من السَّماء لمدة 10 أيام، منحتنا الصُّورة النَّاتجة عرضًا مفصلًا ودقيقًا وغير مسبوقٍ عن الكون في مراحله الأولى. احتوت الصُّورة على 1500 مجرّةٍ خلال مراحلَ مختلفةٍ من تطورها، وبعضها كان موجودًا عندما كان عُمر الكون مليار سنةٍ فقط.

في الصّورة أيضًا تم تمييز مجرّاتٍ كرويَّة الشّكل تُسمى (الإهْليلَيجيّات – ellipticals)، لونها يميل إلى الحُمرة بسبب الضَّوء القادم من النُّجوم كاملة النُّموّ، ومجرّات حلزونيَّة زرقاء اللون؛ بسبب النُّجوم السَّاخنة والصَّغيرة بداخلها. هناك أيضًا مجرّاتٌ مختلطةٌ تُسمّى (حطام القطار – Train Wrecks)، وعدد من المجرَّات القزمة كذلك. قد تكون بعض تلك المجرّات من الأجيال الأولى الّتي وُجدت في الكون، فهل تجزَّأت تلك المجرَّات وانقسمت لتشكّل فيما بعد المجرَّات الموجودة اليوم؟ هل أحجامها صغيرة بالفعل كما تبدو وتلمع منذ انفجارات النّجوم في بداية تشكُّلها؟ أم لها كتل هائلة بينما تظلّ معظم مكوّناتها النّجميَّة محجوبةً بسُحب الغبار؟

تظلُّ تلك الأسئلة دون أجوبةٍ. يرغب علماء الفلك في معرفة وفهم كيف تحدث اضطرابات الكثافة في بحر الجسيمات دون-الذريَّة الّتي ساهمت في تكوين أشكال وأحجام المجرّات المتنوّعة الّتي تكوِّن الكون كما هو عليه اليوم.

مهمَّة الكشف عن ولادة وتشكُّل المجرَّات يتولّاها برنامج (Origins) التَّابع لوكالة ناسا. ولمساعدتنا في إجابة تلك الأسئلة، ستستخدم ناسا التلسكوبين (Spitzer) و(James Webb) لفحص المجرّات البدائيَّة ومحاولة حلِّ اللغز الّذي سيحمل أدلة وإجابات عن الأسئلة الأساسيَّة حول كيفيَّة تطوّر الكون ونشأة الحياة.


ترجمة: وليد عادل.
تدقيق: دعاء عسَّاف
المصدر