قبل الحرب العالمية الثانية دعمت مؤسسات خاصة برنامج الرفاه الذي أطلقته بريطانيا بالمبالغ المالية لدعم المرضى على سبيل المثال. لكن ظهر تغير في الرؤية والحيثيات في أثناء الحرب سمح لبريطانيا بإنشاء دولة الرفاه بعد انتهائها، إذ وفرت الحكومة نظام خدمة اجتماعية شامل لدعم كل شخص في وقت حاجته، ولا يزال مستخدمًا بتوسع حتى اليوم.

الرعاية الاجتماعية قبل القرن العشرين

بحلول القرن العشرين وضعت بريطانيا برنامج «دولة الرعاية الاجتماعية» موضع التنفيذ. لكن لم تكن بداية تاريخ الرعاية الاجتماعية في بريطانيا في تلك الحقبة، إذ قضت المجموعات الاجتماعية والحكومات مختلفة التوجهات والعقائد قرونًا وهي تحاول بمختلف الوسائل التعامل مع المرضى والفقراء والعاطلين عن العمل والفئات الأخرى التي تصارع الفقر والعوز. بحلول القرن الخامس عشر، كان للكنائس والأبرشيات اليد العليا في العناية بالمحرومين والأقل حظًا. وقد وضَّح قانون الفقراء الإليزابيثي دور الأبرشية ودعمها.

مع الثورة الصناعية بدأت رياح التغيير تهب على بريطانيا، إذ ازداد التعداد السكاني والهجرة إلى المناطق الحضرية الآخذة في النمو من أجل الانخراط في الأعمال الجديدة، ولذلك تطور النظام المخصص لدعم الأشخاص. تضمن ذلك أحيانًا جهودًا توضيحية من جانب الحكومة وتحديد مقدار المساهمات وتأمين الرعاية، ولكنها غالبًا صدرت عن عمل الجمعيات الخيرية والهيئات المستقلة. حاول الإصلاحيون شرح الواقع، لكن الأحكام الخاطئة حول المحرومين والمعوزين استمرت بالانتشار. ألقت هذه الأحكام لائمة الفقر والعوز على كسل الأفراد وبطالتهم أو على سلوكهم بدلًا من لوم العوامل الاجتماعية والاقتصادية. بالمقابل لم يوجد اعتقاد سائد بضرورة إدارة الدولة نظامها الخاص من الرعاية الاجتماعية الشاملة. كان على الناس الذين أرادوا المساعدة أو الذين احتاجوا إليها اللجوء إلى الجمعيات الخيرية.

نتج عن هذه الجهود قيام شبكة تطوعية واسعة من جمعيات تعاونية مناصرة توفر الدعم والتأمين، أُطلِق عليها اقتصاد «الرعاية الاجتماعية المتنوع»، إذ كانت مزيجًا تعاونيًا بين الدولة والمبادرات الخاصة. شكلت ملاجئ الفقراء أحد أجزاء هذا النظام، وقدمت للناس المأوى وفرص العمل وشجعتهم على البحث عن عمل خارجي لتحسين ظروفهم. على الجانب الآخر ظهرت كيانات وهيئات بفضل مهن وأعمال كالتعدين، دفع لها الأفراد أموالًا ليؤمنوا على حياتهم من الحوادث أو الأمراض.

الرعاية الاجتماعية في القرن العشرين (ما قبل بيفيريدج)

تعود بدايات دولة الرفاه الحديثة في بريطانيا إلى عام 1906 عندما حقق السياسي البريطاني ه. أسكويث (1852-1928) وحزب العمال فوزًا ساحقًا ودخلوا الحكومة. مضى أسكويث وحزبه نحو استحداث إصلاحات في مجال الرعاية الاجتماعية، لكنهم لم يشنوا حملات على أساس برنامج أو أجندة معينة لاستحداث هذه الإصلاحات، بل تجنبوا هذه المسألة في الواقع. إلا أن الضغوط المنادية بالتحرك لإيجاد حل للفقر في بريطانيا دفعت الحزب للبدء بالتغيير.

مع أن بريطانيا دولة غنية ورائدة على مستوى العالم فإن فيها أناسًا يعيشون تحت خط الفقر. تحدث النائب بحزب العمال ويل كروكس (1852-1921) بإيجاز عن الضغوط التي تدفع باتجاه اتخاذ تدابير وعن توحيد بريطانيا في هيكل واحد يضم شعبًا آمنًا، ومواجهة خطر انقسامها إلى نصفين متعارضين. قال: «تجدون في هذا البلد -الذي تعجز الكلمات عن وصف غناه- أناسًا فقراء لدرجة تفوق التخيل».

اشتملت إصلاحات القرن العشرين على راتب تقاعدي للأفراد فوق السبعين غير قائم على الاشتراك مسبقًا (قانون معاش كبار السن)، إضافةً إلى قانون التأمين الوطني عام 1911 الذي وفر تأمين الرعاية الصحية. في ظل هذا النظام تابعت الجمعيات المناصرة والهيئات الأخرى إدارة مؤسسات الرعاية الصحية، وأشرفت الحكومة على المبالغ المحصلة والمنصرفة. كان التأمين الفكرة الأساسية وراء ذلك، إذ أحجم الليبراليون عن زيادة ضرائب الدخل من أجل تمويل النظام. لجأ المستشار الألماني أوتو فون بسمارك (1815-1898) إلى وضع تأمين مشابه من خلال الضرائب المباشرة في ألمانيا. واجه الليبراليون معارضة، لكن رئيس الوزراء الليبرالي ديفيد لويلود جورج (1863-1945) استطاع إقناع الأمة.

تبع ذلك إصلاحات في حقبة ما بين الحربين، مثل قانون المعاشات المساعِدة للأرامل والأيتام والعجزة عام 1925، مثلت هذه الإصلاحات تطوير النظام القديم والتوجه صوب جوانب جديدة. سبب تفشي البطالة أولًا ثم الكساد ضغطًا زائدًا على نظام الرعاية الاجتماعية وأرهقه، فبدأ الناس يبحثون عن تدابير أوسع لإنهاء مفهوم وجود فقراء مستحقين للدعم وآخرين غير مستحقين له.

تقرير بيفريدج

عام 1941 فكر رئيس الوزراء وينستون تشرشل (1874-1965) في تنظيم لجنة لدراسة كيفية إعادة بناء بريطانيا بعد الحرب، رغم أن الحرب العالمية الثانية كانت لا تزال في ذروتها، دون إشارة إلى اقتراب النصر. تضمنت خططه لجنة تشمل أقسام حكومية متعددة، ودراسة أنظمة الرعاية الاجتماعية، والتوصية بتحسينات. ترأس هذه اللجنة عالم الاقتصاد والسياسي الليبرالي وليام بيفيريدج (1879-1963)، الذي يعود إليه الفضل في وضع مسودة الوثيقة في ديسمبر 1942، نُشِر تقرير بيفيريج أو «التأمين الاجتماعي والخدمات ذات الصلة» مثلما عُرِف رسميًا. فيما يتعلق بالنسيج الاجتماعي البريطاني، تُعد هذه الوثيقة أهم مستند في القرن العشرين.

نُشِر تقرير بيفريدج بعد أولى انتصارات الحلفاء. استغل بيفريدج انفراجة الأمل هذه وقدم مجموعة من التوصيات لتغيير المجتمع البريطاني وإنهاء «الحاجة». أراد بيفيريدج تأمينًا للمواطن البريطاني يبدأ من ولادته وحتى موته. مع أن النص ذا الثلاثمئة صفحة كان غالبًا مجموعة من الأفكار لم تقدم أي جديد، فإن الجمهور البريطاني المتحمس قد قبله قبوًلا واسعًا حتى جعله جزءًا أساسيًا من الأمور التي يحارب من أجلها: الفوز في الحرب وإصلاح حال الأمة. كانت دولة الرفاه البريطانية حسب رؤية بيفيريدج مقترحًا رسميًا ونظام رعاية اجتماعي متكامل.

وضع بيفيريدج هذا الإصلاح نصب عينيه وحدد خمس مشكلات كبيرة تقف عائقًا في وجه إعادة البناء يجب التغلب عليها: الفقر والمرض والجهل والفساد السياسي والبطالة. جادل بيفريدج بأن هذه المشكلات يمكن حلها بوجود نظام تأمين تديره الدولة، وتوفير حد أدنى من المعيشة (ما يتعارض مع الخطط الموضوعة سابقًا) يرأف بالشعب ولا يعاقب المرضى لعدم قدرتهم على العمل. تمثل الحل في دولة الرفاه بضمان اجتماعي وخدمة صحية وطنية وتعليم مجاني لجميع الأطفال ومساكن تديرها المجالس وتبنيها، وتوظيف شامل.

تمثلت الفكرة الرئيسية في أن جميع العاملين سيدفعون مبلغًا من المال إلى الحكومة طوال فترة عملهم، وفي المقابل سيكون لديهم إمكانية الحصول على مساعدة الحكومة المخصصة للعاطلين عن العمل والمرضى والمتقاعدين والأرامل، ودفعات إضافية لمساعدة الأشخاص الذين أرهقتهم تربية أطفالهم. ألغى بيفريدج وسائل الاختبار التي استُخدمت سابقًا لتحديد المستحقين للدعم. لم يتوقع بيفريدج أن الإنفاق الحكومي سيرتفع بسبب مبالغ التأمين المستقبلية، بل توقع من الناس توفير المال واختيار ما يصب في صالحهم، وذلك تفكير ليبرالي بريطاني تقليدي. على كل حال لم يتغير وضع الفرد، أما الدولة فقد أضافت العوائد على تأمين الأفراد. كانت العملية عمومًا تعتمد على نظام رأسمالي لا شيوعي.

دولة الرفاه المعاصرة

بانتهاء الحرب العالمية الثانية، اختارت بريطانيا حكومة جديدة، ونجح الترويج لحكومة العمال في إيصالها إلى السلطة. هُزِم بيفريدج لكنه ارتقى إلى مجلس اللوردات. وافقت جميع الأحزاب على الإصلاحات، ولأن حزب العمال قد روَّج لهذه الإصلاحات، فقد قدمها بوصفها جائزة لمجهود الشعب البريطاني في الحرب. مررت الحكومة سلسلة من القوانين بهدف بدء الإصلاحات. كان من بينها قانون التأمين الوطني عام 1945 الذي ألزم الموظفين بتقديم مساهمات، وقدم الإغاثة في حالات البطالة والوفاة والمرض والتقاعد. وقانون الإعانات العائلية الذي يقدم دفعات مالية للعائلات الكبيرة. وقانون إصابات العمل عام 1946 الذي يوفر المساعدة للناس الذين تأذوا في أثناء عملهم. وقانون المساعدة الوطنية عام 1948 لمساعدة جميع الناس الذين يحتاجون إلى الدعم والمساعدة، وقانون وزير الصحة أنورين بيفان (1897-1960) الذي أوجد نظام رعاية صحية مجانًا لجميع الناس.

أمن قانون التعليم الذي صدر عام 1944 التعليم للأطفال. وبدأت عملية إعادة البناء بالقضاء على البطالة. اندمجت شبكة خدمات الرعاية الطوعية الواسعة بنظام الحكومة الجديد. ونظرًا إلى أهمية قوانين عام 1948، غالبًا ما يُطلق البريطانيون على هذا العام بداية دولة الرفاه المعاصرة في بريطانيا.

التطور

لم تكن دولة الرفاه إجبارية بل رحب بها جميع أبناء الأمة البريطانية وطالبوا بها بعد الحرب. بظهور دولة الرفاه، واصلت التطور بمرور الوقت ويعود ذلك إلى جملة من الأسباب منها تغير الظروف الاقتصادية في بريطانيا، وتطور توجهات الأحزاب السياسية المتعاقبة على السلطة.

بدأ الإجماع العام -الذي استمر من الأربعينيات حتى الستينيات- بالتغير في أواخر السبعينيات، عندما بدأت مارجريت تاتشر (1925-2013) والمحافظون سلسلة من الإصلاحات. إذ أرادوا تقليل الضرائب والإنفاق، ما أثر في الرعاية الاجتماعية، لكنهم واجهوا أيضًا نظام رعاية اجتماعي غير مستدام وثقيل الوطأة ومرهق. وهكذا أُجريت تخفيضات وتغيرات وبدأت المبادرات الخاصة تزداد أهمية، ما أدى إلى بدء نقاش حول دور الدولة في الرعاية الاجتماعية استمر حتى انتخاب المحافظين بقيادة ديفيد كاميرون عام 2010 إذ وُجد ميل عام لعودة «المجتمع الكبير» إلى اقتصاد الرفاه المتنوع.

اقرأ أيضًا:

يوتوبيا: المدينة الفاضلة بين الأدب والواقع

النظرية الكينزية في الاقتصاد

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: نور عباس

المصدر