لماذا يتجمد الماء الساخن أسرع من الماء البارد؟


رغم اعتبارها من أبرز التناقضات في الفيزياء، يبدو أن الماء الساخن يتجمَّدُ أسرع من الماء البارد تحت ظروفٍ معينة. يمكن أن نقتفي آثار هذه الظاهرة بالعودة إلى أرسطو، لكن بعد قرونٍ من التجارب التي تناولت الظاهرة، لم يقدر أحدٌ على تفسيرها.

اليوم، يشير الفيزيائيون إلى الخصائص الغريبة للروابط الهيدروجينية كحلٍ لواحد من أقدم ألغاز الفيزياء ــ لكن آخرين يزعمون أنَّ ما يسمى بظاهرة مابيمبا هي غير موجودة أساسا.

بالعودة إلى أثر مابيمبا، حيَّرت هذه الظاهرة الفيزيائين منذ أن لاحظها أرسطو قبل أكثر من 2000 سنة. وبعد أعمالٍ مشابهة قام بها كل من فرانسيس باكون (Francis Bacon) و رينيه ديكارت (René Descartes)، إمكانية تجمد المياه الساخنة أسرع من المياه الباردة لقيت قبولًا رسميًّا في سنوات الـستينيات من القرن الماضي، وذلك بفضل تلميذٍ تنزاني لاحظ الظاهرة عند قيامه بإعداد المثلجات.

اعتاد إيراستو مابيمبا (Erasto Mpemba) وزملائه على صنع المثلجات عبر غليِ الحليب و مزجه بالسكر، ليتركوا المزيج بعد ذلك ليبرد قبل وضعه في الثلاجة.

في يومٍ ما، نفذ صبر مابيمبا، وبدل أن يترك المزيج ليبرد قبل وضعه في الثلاجة، وضع حليبه الذي كان في حالة غليان في الثلاجة مباشرة، آملا في الحصول على نتيجة طيبة رغم ذلك.
وبطريقة مفاجئة للجميع، جهزَ المثلجات الخاصة به قبل أقرانه، وفي سنة 1969 قام مابيمبا بالعمل مع بروفيسور في الفيزياء من أجل نشر ورقة علميَّة تشرح الظاهرة.

لكن هناك مشكلة كبيرة في ظاهرة مابيمبا. في الحين الذي تتأرجح بين رفض وقبول الفيزيائيين لها كحقيقة، لا يتفق العلماء حول طريقة عملها بشكلٍ دقيق، فكيف بإمكان الماء الساخن أن يتجمد أسرع من الماء البارد، بينما يملك الماء البارد أفضلية في هذا الشأن؟

كما لدينا أيضًا مشكلٌة أكبر في التكرار.

محاولات تكرار ظاهرة مابيمبا بطريقة سهلة ومتناسقة قد فشلت، لكن لدينا في الوقت ذاته أدلة غير متناسقة كافية لمنع رفض الفكرة بشكلٍ مطلق.

بالعودة إلى عام 2012، نظمت الجمعية الملكية للكيمياء مسابقة تطلب فيها من العلماء شرح هذه الظاهرة، ورغم حصول الجمعية على أكثر من 22.000 ورقة علميَّة من مختلف أقطار العالم، لم تكن أيا منها مقنعة.

في هذا الشأن صرَّح سيني دين (Signe Dean) الكاتب العلمي و الصحفي العام الماضي لموقع ساينس آلرت : “أكثر الفرضيات المقترحة شيوعًا، هي أنَّ الماء الساخن يتبخر بسرعة أكبر، مما يجعله يخسر الكتلة وعليه سيحتاج إلى درجة حرارة أقل من أجل التجمد. على كل حال، لقد اختبر العلماء أيضًا ظاهرة مابيمبا في مستوعبات مغلقة، حيث لم يحصل حينها تبخر.

ومن التوقعات النظرية أيضًا أنَّ الماء يولّد تيارات الحمل الحراري و تدرجات في درجات الحرارة عندما يبرُد.

كأس المياه الساخنة الذي يبرد بسرعة يملك فروقات أكبر في درجات الحرارة، ويخسر الحرارة بسرعة أكبر من السطح، في حين يملك كأس المياه الباردة فروقات أقل في درجات الحرارة، وهناك حملٌ حراري يمنع من تسريع العمليَّة.

لكن حتى هذه الفكرة لم يتمَّ تأكيدها بشكل مطلق أيضًا”.

إذن، وبعد قرونٍ من البحث، لانزال نبحث عن أجوبة.

اليوم، قد يكون لدى باحثين من جامعتي سوثرن ميثوديست في دالاس و نانجينغ في الصين، حلا لهذه المعضلة ــ خصائص غريبة للروابط المتشكلة بين ذرات الهيدروجين و الأكسجين في جزيئات الماء قد تكون مفتاح فهم ظاهرة مابيمبا المُحيّرة.

محاكاة لتجمعات جزيئات الماء كشفت أنَّ قوة الروابط الهيدروجينية (H-bonds) في جزيء ماء معين تعتمد على ترتيب جزيئات الماء القريبة منها.

تقول إيميلي كونوفر في هذا الشأن : “عندما يسخن الماء، تتحطم الروابط الضعيفة، وتتشكل مجموعات جزيئات متشظية بإمكانها أن ترتب نفسها من جديد من أجل تشكيل هياكل كريستالية من الجليد، ويخدم ذلك ظهور نقطة بداية عملية التجمُّد. من أجل أن يترتب الماء البارد بهذه الطريقة، على الروابط الهيدروجينية الضعيفة أن تتحطم أوَّلًا”.

بكلمات أخرى، وجدنا نسبة أكبر من الروابط الهيدروجينية القوية في المياه الساخنة مقارنة بالمياه الباردة، لأن الروابط الضعيفة تحطمت بسب ارتفاع درجات الحرارة.

كما يستنتج فريق البحث في ورقته العلميَّة :

“التحاليل، تقودنا إلى اقتراح تفسير جُزَيئي لظاهرة مابيمبا. في المياه الساخنة، تتحطم الروابط الهيدروجينية التي تغلب عليها مساهمات كهربائية ساكنة، ترتيبات الروابط الهيدروجينية القوية توجد من أجل تسريع عملية النشوء التي تقود إلى الشبكة السداسية للجليد الصلب.

من ذلك، نجد أن الماء الساخن يتجمد أسرع من الماء البارد لأنَّ التحولات من الترتيب العشوائي للتجمعات المائية يأخذ وقتًا أطول و طاقة أكبر”.

لكن وبعد كل التفسيرات التي مرَّت علينا قبل هذه الأخيرة، سنكون بحاجة إلى دلائل إضافية من أجل التأكد من صحتها.

في الوقت الذي يرجع البعض إشكالية التكرار إلى العديد من العوامل التي تأتي معًا بطرقٍ مختلفة من أجل الوصول إلى الظاهرة ــ بما في ذلك الحمل الحراري، التبخر والتبريد الفائق ــ وحقيقة أن التجمد هو تدرجي، وليس عملية فورية، يقول البعض إنَّ ظاهرة مابيمبا ليست سوى خرافة.

ورقة علمية أخرى قام فريق من امبريال كوليدج (لندن) بنشرها مؤخرًا، قيس الوقت الذي تستغرقه عينات من الماء الساخن و البارد من أجل الوصول إلى درجة التجمد (0 درجة مئوية).

يقول هنري بوريدج (Henry Burridge) أحد القائمين على البحث لموقع ساينس نيوز : “بعد كل مافعلنا، لم نتمكن من ملاحظة أي شيء له علاقة بظاهرة مابيمبا”.

مالذي يحصل هنا؟

يجب علينا أن نجلس و ننتظر أيا من النتائج ــ إذا كان ذلك ممكنًا ــ قد تأتي بجديد مع بحثٍ أعمق، لكن شيئا واحدا قد لا نختلف حياله عند الحديث عن الماء ــ لا يزال يفاجئنا، رغم مرور كل هذه السنين.


الإعداد : وليد سايس.
التدقيق:أسامة القزقي.
المصدر