تعد العواصف الرعدية واحدة من أروع الظواهر الجوية، وتتميز بنشاطها الكهربائي الذي يظهر على شكل برق ورعد. يحدث الرعد نتيجة تمدد الهواء السريع حول مسار البرق.

لكن تحدث خلال العاصفة الرعدية أشياء أخرى لا نستطيع رؤيتها أو سماعها. عام 2013، رصد علماء من جامعة بيرغن في النرويج نوعًا آخر من البرق في أثناء عاصفة رعدية، برقًا لا يرى بالعين المجردة ولا يصدر معه أي صوت.

لم تكن هذه الظاهرة اكتشافًا وليد اللحظة، فقد رُصدت أول مرة عام 1991 وسُميت (البرق المظلم)، لكن حينها ظن العلماء أنهم بصدد التعامل مع أشعة غاما قادمة من الفضاء.

أكدت أبحاث حديثة أن البرق المظلم ظاهرة طبيعية وأنها جزء من عملية تفريغ شحنة البرق في أثناء العواصف الرعدية وليست قادمة من الفضاء.

إذن، ما البرق المظلم؟

البرق المظلم هو تدفق من أشعة غاما الناتجة عن تصادم الإلكترونات المتحركة بسرعة كبيرة مع جزيئات الهواء خلال العاصفة الرعدية، يشير إليه الباحثون بصفته إشعاع غاما أرضي المنشأ.

يحدث ذلك التدفق قبل البرق العادي مباشرة ويعد جزءًا من عملية تفريغ البرق نفسها، ويعتقد العلماء أنه واحد من أقوى الإشعاعات الطبيعية على الأرض.

عام 2013، استخدم الباحثون في جامعة بيرغن بيانات الأقمار الصناعية المزودة بكاشفات أشعة غاما لتحديد ومضات تلك الأشعة التي تسبق التدفقات في البرق المرئي.

حدث الاكتشاف صدفة، إذ تصادف مرور قمرين صناعيين فوق العاصفة الرعدية نفسها لحظة حدوث البرق المظلم. جمع الفريق بيانات الأقمار الصناعية والأمواج الراديوية لإعادة إنشاء الظاهرة التي تستمر 300 ميلي ثانية فقط، واكتشفوا أن الحقل الكهربائي القوي الذي ينشأ قبل حدوث البرق المرئي مباشرةً هو ما يحرض البرق المظلم.

وبسبب حاجتهم إلى المزيد من المعلومات لتأكيد الفرضية، يحاول الباحثون الآن جمع بيانات من مراقب التفاعلات الجوية الفضائية (المرصد التابع لوكالة الفضاء الأوروبية في محطة الفضاء الدولية -ASIM).

يستخدم المرصد كاميرات وكاشفات لكل من الأشعة السينية وأشعة غاما لدراسة البرق في طبقات الجو العليا وومضات أشعة غاما الأرضية التي تسمى البرق المظلم.

كيف اكتُشِفَ البرق المظلم؟

كل ما نعرفه عن البرق المظلم كان وليد الصدفة؛ ففي عام 2006، حلق قمران صناعيان ضمن مسافة 300 كيلومترًا من عاصفة رعدية في فنزويلا. الأول كان مزودًا بكاشف بصري سجل المعلومات البصرية لصاعقة، والثاني كان مزودًا بكاشف أشعة غاما إذ سجل وميض إشعاع غاما الذي سبقها.

بعد سبع سنوات، طور باحث الفضاء نيكولاي أوستغارد وفريقه من جامعة بيرغن خوارزمية بحث جديدة لإعادة معالجة بيانات القمر الصناعي الثاني، وهكذا اكتشفوا عددًا كبيرًا من ومضات أشعة غاما التي تسبق حدوث البرق أكثر مما كان مسجلًا في البداية.

وقد اكتشف مستقبل راديوي في جامعة دوك في دنهام، شمال كارولينا على بعد 3000 كم من العاصفة انطلاق موجات راديوية في أثناء الحدث. يظن الفريق أن كل تلك الأحداث جزء من ظاهرة واحدة.

ما آلية حدوث البرق المظلم؟

يحدث البرق عندما تلتقي منطقتان من الغلاف الجوي ذات شحنات متعاكسة، يمكن أن تكون هذه المناطق ضمن الغيوم، أو بين الغيوم والأرض. عمومًا، يحدث البرق عندما تجبر التيارات الهوائية الصاعدة في الغيوم الرعدية قطيرات الماء وبلورات الجليد على التصادم، ما يخلق تجمعًا للجسيمات المشحونة إيجابيًا وسلبيًا، وتفرق التيارات الهوائية الصاعدة هذه الجسيمات، فتتجمع الشحنات الموجبة أعلى الغيمة والسالبة أسفلها.

حالما تكبر الشحنة السالبة في أسفل الغيوم بما فيه الكفاية، تنطلق نحو الأرض، وفي الوقت نفسه تنجذب الشحنات الموجبة على الأرض إليها وتطير باتجاهها، عندما تلتقي الشحنتان المتعاكستان، يحمل تيار كهربائي قوي يسمى الصدمة الارتدادية الشحنات الموجبة إلى أعلى الغيمة؛ الأمر الذي يظهر لنا وميض البرق.

يمكن أن يتجه البرق من الغيم نزولًا أو من الأرض صعودًا على حد سواء؛ تجذب الشحنة الموجبة للأرض الشحنة السالبة من الغيوم، مسببة تدفق التيار تجاه الأرض، وفي الوقت نفسه، تنجذب الشحنة الموجبة للأرض تجاه الأعلى على شكل صاعقة صاعدة. ويمكن الغيوم المشحونة سلبيًا وإيجابيًا فعل الشيء نفسه في الهواء، إذ بدلًا من صاعقة للأسفل أو للأعلى، نرى برقًا ينتقل من غيمة إلى أخرى.

يسرّع الحقل الكهربائي المتولد في الغيوم الإلكترونات إلى ما يقارب سرعة الضوء، لتصطدم بجزيئات الهواء مصدرة إشعاع كبح، ما يخلق بوزيترونات -جسيمات دون ذرية إيجابية الشحنة، لها نفس كتلة الإلكترون ومقدار شحنته- أي أنها مادة مضادة للإلكترون، عندما يلتقي إلكترون وبوزيترون يفنيان بعضهما مصدرين أشعة غاما، وهكذا يحدث البرق المظلم خلال العاصفة الرعدية.

هل البرق المظلم مؤذٍ للبشر؟

في الواقع، أشعة غاما من أخطر الإشعاعات -أشعة مؤينة- ما يعني أنها قادرة على استخلاص الإلكترونات من الذرات، عندما تخترق الخلايا فهي تحطم روابط جزيئات الحمض النووي مسببة أذية جينية يمكن أن تؤدي إلى الإصابة بالسرطان.

تضرب ومضات البرق مكانًا واحدًا عادةً، لكن ومضات أشعة غاما تنتشر بسرعة كبيرة في الاتجاهات جميعها، لكن لا داعي للقلق، فأشعة غاما من البرق المظلم تتبدد قبل أن تهدد حياة الكائنات الحية على الأرض، ووفقًا لخبير البرق جون دوير من معهد فلوريدا للتكنولوجيا، فوحدهم المسافرون بالطائرة في أثناء عاصفة رعدية معرضون لتلقي جرعة كبيرة من الإشعاع المؤين من البرق المظلم، لكن هذا ليس بالأمر الجلل لأسباب عدة، أولها أن الطيارين يتفادون العواصف الرعدية، والثاني أن البرق المظلم ليس دائم الحدوث -يُعتقد أنه يحدث مرة لكل ألف ومضة برق- والثالث أن التعرض له لن يشعرك بشيء.

لذلك فإن الطريقة الوحيدة لاكتشاف تعرض الركاب لأشعة غاما هي تزويد الطائرات بحساسات لها. لكن لمحاولة اكتشاف المزيد عن البرق المظلم، من الأفضل وضع تلك الحساسات على الأقمار الصناعية إذ أثبتت نجاعتها.

أقوى الأدوات لتحليل البرق المظلم في الوقت الراهن هي مراقب التفاعلات الجوية الفضائية في محطة الفضاء الدولية، وتلسكوب فيرمي الفضائي لأشعة غاما الذي أطلقته ناسا عام 2008 بهدف دراسة تدفقات أشعة غاما وحركتها، لا في البرق المظلم فحسب، بل في جميع الظواهر المرتبطة بأشعة غاما كالمادة المظلمة، والثقوب السوداء الصغيرة، وبقايا الانفجارات النجمية.

قبل اكتشاف البرق المظلم، اعتقد العلماء أن أشعة غاما تأتي من الفضاء فقط، وقد بينت لهم ظاهرة البرق المظلم خطأ اعتقادهم، فأشعة غاما لا تصدر من موت النجوم والانفجارات النووية فحسب، بل أيضًا من أحداث أرضية طبيعية كالعواصف الرعدية التي تحدث أمام أنظارنا.

اقرأ أيضًا:

الحلقة الخامس عشرة من سلسلة الإسعافات الأولية البرق: ماذا تفعل إذ كنت وسط عاصفة رعدية؟

كيف تحصل الأماكن في العوالم الأخرى على أسمائها ؟

ترجمة: إيهاب عيسى

تدقيق: محمد الشعراني

المصدر