قليل من التجارب العلمية التي فيها من الغرابة والإقناع مثلما في تجربة الشق المزدوج. قلة من التجارب في الفيزياء الحديثة قادرة على إيصال فكرة بسيطة كهذه: يمكن الضوء والمادة العمل بوصفها موجات حينًا وجسيمات حينًا آخر، اعتمادًا على هل تُرصد أم لا، ومع ذلك تظل هذه التجربة أحد الألغاز العظيمة لميكانيكا الكم.

مع بساطة هذا النوع من التجارب، يصعب علينا تقبلها منطقيًا لأنها تتنافى مع البداهة.

لم تتكرر تجربة الشق المزدوج مراتٍ لا تُحصى في مختبرات الفيزياء حول العالم فحسب، بل أحالتنا إلى العديد من التجارب المشتقة منها، التي تعزز النتيجة النهائية، وهي أن الجزيئات الكميّة قد تكون موجات أو جسيمات منفصلة. كما لو أنها تدرك أننا نراقبها.

ماذا توضح تجربة الشق المزدوج ؟

إن أردنا أن نفهم ما توضحه تجربة الشق المزدوج، فسنحتاج إلى توضيح بعض الأفكار الرئيسية من ميكانيكا الكم.

قدم فيرنر هايزنبرغ عام 1925 لمعلمه الفيزيائي الألماني البارز ماكس بورن، ورقةً لمراجعتها أظهرت كيف يمكن قياس خصائص الجسيمات دون الذرية، مثل الموقع والزخم والطاقة.

رأى بورن أن هذه الخصائص يمكن تمثيلها من خلال المصفوفات الرياضية، بأرقام وأوصاف محددة للجزيئات، ما مهد لاستعمال المصفوفات لوصف خصائص ميكانيكا الكم رياضيًا.

عام 1926، نشر إدوين شرودنجر نظريته الموجية لميكانيكا الكم، التي أظهرت أنه يمكن وصف الجزيئات بمعادلة تحدد شكل الموجة، أي أن الجسيمات هي -في الواقع- موجات.

أدى هذا إلى ظهور مفهوم ازدواجية الموجة والجسيم، التي تعد إحدى السمات المميزة لميكانيكا الكم. وفقًا لهذا المفهوم، يمكن وصف الكيانات دون الذرية بأنها موجات وجسيمات في آن واحد، وفقًا لكيفية قياسها.

يفسر ذلك ظهور الكيانات الكمية، فإذا حاولت قياس موضع جزيء، فإنه يتوقف عن كونه موجةً.

وإذا حاولت تحديد زخم الجسيمات، فستجد أنها تتصرف مثل الموجة، فلا يمكنك تحديد موقعها، الذي يبقى مجرد احتمال.

أساسًا، نوع قياس الجزيء يحدد الشكل الذي سيتخذه.

تجربة الشق المزدوج أحد أبسط مظاهر ازدواجية الموجة والجسيم، إذ يصبح المراقب مشاركًا فعالا في السلوك الأساسي للجسيمات.

كيف تعمل تجربة الشق المزدوج؟

أسهل طريقة لوصف تجربة الشق المزدوج هي استخدام الضوء. أولًا، خذ مصدر ضوء مكثف، مثل شعاع الليزر، يضيء بطول موجي واحد، مثل الضوء المرئي الأزرق الخالص عند 460 نانومتر، ووجّهه نحو جدار به شقان. يجب أن تكون المسافة بين الشقين نفس الطول الموجي للضوء تقريبًا، بحيث يتضمنهما شعاع الضوء.

خلف هذا الجدار، ضع شاشة يمكنها رصد الضوء الساقط عليها. إذا أطلقت شعاع الليزر على الشقين، فسترصد الشكل التالي على الشاشة:

قد لا يكون هذا ما كنت تتوقعه، لكنه منطقي تمامًا إذا تعاملت مع الضوء بوصفه موجة. إذا كان الضوء موجة، فعندما تضرب موجة الضوء كلا الشقين، يصبح كل شق «مصدرًا» جديدًا للضوء على الجانب الآخر من الجدار، فتنشأ موجة جديدة من كل شق.

تقاطع هاتين الموجتين يسبب التداخل، الذي يكون إما بنّاءً أو هدامًا. عندما تتداخل الموجات عند القمة أو القاع، فإنها تعمل على تعزيز الطول الموجي في الاتجاهين، بإضافة طاقتها معًا. وهو التداخل البنّاء، الذي ينتج الخطوط الساطعة في الشكل الموضح.

أما عندما تلغي الموجات بعضها بعضًا، فإن التأثير يحيد الطول الموجي فيضعف الضوء أو ينفيه تمامًا، فتنتج المساحات المعتمة بين الأشرطة الساطعة.

في حالة الكيانات الكمومية مثل فوتونات الضوء أو الإلكترونات، فهي أيضًا جسيمات فردية. فماذا يحدث عندما تطلق فوتونًا واحدًا من خلال الشقين المزدوجين؟

يترك فوتون واحد نقطةً صغيرةً على الشاشة، فهو لا يعني الكثير بمفرده، لكن إذا أطلقت عدة فوتونات عبر الشق المزدوج، يظهر على الشاشة نمط التداخل ذاته الناتج من شعاع الليزر.

إذن يتصرف الفوتون -بينما يمر عبر الشقين- كما لو كان موجة.

هنا يزداد الأمر غرابة، إذا وضعنا كاشفًا عند أحد الشقين لمراقبة الفوتونات، بحيث يضيء إذا رصد فوتونًا يمر، سيضيء الكاشف 50٪ من الوقت، وسيتغير الشكل الناتج على الشاشة، ليصبح كالآتي:

وإذا وضعنا كاشفًا خلف الجدار بحيث يرصد الفوتون بعد أن يمر عبر الشق فسنحصل على النتيجة ذاتها. هذا يعني أنه حتى لو مر الفوتون عبر كلا الشقين بوصفه موجة، ففي اللحظة التي يُرصد فيها، يتوقف عن التصرف بوصفه موجة ويبدأ التصرف بوصفه جسيمًا. بل إن الموجة الخارجة من الشق الآخر تنهار هي الأخرى لتنضم إلى الجسيم المُكتشَف، المار عبر الشق الآخر.

يعني هذا أن الكون يدرك أن شخصًا ما يراقب هذه الجسيمات الكمومية ليرى أي شق يمر من خلاله الجسيم. كلما زاد عدد الفوتونات المنفردة التي تطلق من خلال الشق المزدوج، اقترب كاشف الفوتون من اكتشاف الفوتونات في 50٪ من الوقت، تمامًا كما أن رمي العملة 10 مرات قد يمنحك وجهًا في 70% من المرات، بينما رميها 100 مرة يمنحك الوجه بنسبة 55%، ورميها مليار مرة يمنحك نسبة 50.0003%.

يعني ذلك –إضافةً إلى أن الكون يدرك وجود المراقب- أن الحالات الكمية للكيانات التي تمر عبر الشقوق المزدوجة تحكمها قوانين الاحتمال، ما يجعل توقع الحالة الكمومية على وجه اليقين مستحيلًا.

من مبتكر تجربة الشق المزدوج؟

سبقت تجربة الشق المزدوج ميكانيكا الكم بأكثر من قرن.

في أثناء الثورة العلمية، كانت طبيعة الضوء موضوعًا مثيرًا للجدل، حيث جادل الكثير على غرار إسحاق نيوتن بنظرية انتقال الضوء بواسطة جسيمات.

ظن البعض أن الضوء موجة تنتقل عبر «الأثير» أو بوسائل أخرى، كما ينتقل الصوت عبر الهواء أو الماء، لكن سمعة نيوتن -وعدم وجود وسيلة فعالة لإثبات النظرية الموجية للضوء- عززت الرؤية الجسيمية للضوء نحو قرن من الزمان.

حدثت نقطة تحول في منظورنا للضوء بفضل العالم البريطاني توماس يونغ، الذي قدم ورقةً إلى الجمعية الملكية في لندن عام 1803، تضمنت نتائج تجربة بسيطة تثبت الطبيعة الموجية للضوء.

أثبت يونج أن زوجين من الموجات كانا عرضةً للتداخل عند تصادمهما، ما ينتج عنه نمط تداخل خاص.

ما سر أهمية تجربة الشق المزدوج؟

نمذج توماس يونغ تداخل الموجات، إذ أظهر في البداية نمط التداخل باستخدام خزان الماء، موضحًا أن نمط تدفق المياه من الخزان هو سمة انتشار الموجة.

ثم قدم تجربة الشق المزدوج الحديثة، لكن بدلًا من استخدام شعاع الليزر، استخدم شعاع الشمس المنعكس الذي يضرب شقين في بطاقة هدفًا لها.

كشف حيود الضوء الناتج نمط التداخل المتوقع، وحصلت نظرية موجية الضوء على دعم كبير. لاحقًا دحضت المزيد من التجارب الجسيمات لصالح الموجات، لكن تجربة الشق المزدوج ليونج كانت ضربة قاضية لنظرية نيوتن.

كيفية إجراء تجربة الشق المزدوج:

ربما ليس من السهل استخدام تجربة الشق المزدوج لإظهار بعض الميزات غير البديهية لميكانيكا الكم، ما لم يكن لديك كاشف للفوتون، وليزر يطلق فوتونات منفردة، مع ذلك ما زال بإمكانك استخدامها لإثبات الطبيعة الموجية للضوء.

إذا كنت ترغب في تكرار تجربة يونج، فأنت تحتاج فقط إلى صندوق كبير مع ثقب صغير بداخله، ثم باستخدام سكين دقيقة، اقطع شقين في قطعة من الورق المقوى أكبر من الفتحة في الصندوق. بحيث تتراوح المسافة بين الشقين بين 0.1 و 0.4 مم. كلما تقارب الشقان، كان نمط التداخل أوضح. ويُفضل استخدام بطاقات خاصة بدلًا من من قصها بنفسك في الصندوق، لتحصل على فتحة الشق المناسبة والمسافة المناسبة بين الشقين.

الصق بطاقة الشق المزدوج المجهزة فوق الفتحة وثبتها بشريط لاصق. تحقق من عدم تسرب الضوء حول البطاقة.

ستحتاج أيضًا إلى ثَقب الصندوق، لتتمكن من النظر إلى الداخل دون أن تعترض طريق الضوء الذي يضرب بطاقة الشق المزدوج.

لتحصل على نتيجة مناسبة لحيود الضوء باستخدام هذا الصندوق، ستحتاج إلى أن تضرب أشعة الشمس البطاقة بدقة، لذا يتطلب الأمر بعض الدقة لوضعها بشكل صحيح.

انظر من خلال فتحات العين، سترى نمط التداخل المتشكل على الجدار الداخلي، إضافةً إلى ظهور ألوان مختلفة إذ تتغير الأطوال الموجية نتيجة التداخل، فيتغير لون الضوء الناشئ.

من أجل تجربة أفضل، استعمل مؤشر ليزر، وبطاقات بها شقوق متباعدة بشكل صحيح، جهّز منطقة محمية من الضوء لتستقر عليها البطاقة.

تحقق من أن الضوء المنبعث من مؤشر الليزر فقط هو ما يصيب الشق المزدوج، أي إن البطاقة محمية من أي مصدر آخر للضوء. اضبط مؤشر الليزر على مستوى السطح باستخدام الشقوق ووجه الليزر نحوها. ستلاحظ نمط التداخل على الحائط خلف البطاقة.

يمكنك أيضًا إنشاء تجربة مشابهة باستخدام برنامج فوتوشوب. أولًا، أنشئ قالبًا لدوائر متحدة المركز متباعدة بتساوٍ. باستخدام طبقات مختلفة لكل مصدر، ضع مركز الحلقات متحدة المركز متقاربةً. على قماش بعرض 1200 بكسل، يجب أن توجد مسافة 100 بكسل بين المركزين.

لوّن كل حلقة متحدة المركز، بالتناوب بين الضوء والظلام، مع ضبط العتامة عند 33٪. قد تحتاج إلى إخفاء إحدى طبقات الدائرة متحدة المركز في أثناء العمل على الأخرى. اكشف عن طبقتين متداخلتين من الدوائر، سيظهر نمط التداخل كالآتي:

أما إذا كنت ترغب في التعمق في ميكانيكا الكم، فستحتاج إلى العمل في معمل فيزياء متقدم في جامعة أو معهد علمي، لأن كاشفات الفوتون ليست أشياء يمكنك اقتناؤها من المتجر.

اقرأ أيضًا:

فيزياء في دقيقة: تجربة الشق المزدوج

ازدواجية الموجة – الجسيم

ترجمة: آدم العابد

تدقيق: باسل حميدي

المصدر