اكتشف علماء الفضاء حديثًا أن عمر مجرة درب التبانة أكبر مما توصلوا إليه سابقًا، وإن لم ينطبق ذلك على المجرة بأكملها فهو ينطبق على جزء منها.

أظهرت دراسة بعنوان «صورة لتاريخ التشكل المبكر لمجرة درب التبانة»، للمؤلفين ماوشينغ شيانغ وهانكس والتر ريكس، من لمعهد ماكس بلانك لعلم الفلك، أن جزء من هذه المجرة تشكل قبل مليار عام من سائر الأجزاء، أطلق العلماء على هذا الجزء اسم «القرص الثخين» الذي بدأ بالتشكل بعد 0.8 مليار سنة من الانفجار العظيم.

قسّم عالما الفلك تاريخ مجرة درب التبانة مجددًا بنحو تفصيلي أكثر من المعتاد، اعتمدت النتائج التي توصلا إليها على بيانات تفصيلية مصدرها مهمة «غايا» التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، والتلسكوب الصيني «لاموست».

يُعد تحديد عمر النجم أحد أصعب الأمور التي تواجه علماء الفضاء، يعتمد تحديد عمر النجم على بنيته وكمية الكتلة المعدنية التي تشكل هذا النجم.

كلما تمكن العلماء من قياس البنية المعدنية المكونة للنجم بدقة، كان تحديدهم لعمر النجم أدق.

البنية الأولى التي اتخذها الكون كانت غازية فقط، بنسبة عالية من غازي الهيليوم والهيدروجين، أما العناصر الثقيلة التي دخلت في تكوينه لاحقًا كانت قادمة من النجوم بعد انفجارها وانتشار أجزائها، وأطلق العلماء على كل عنصر وزنه أثقل من وزن الغازات الأساسية المكونة للكون -وإن كان هذا العنصر غازًا- اسم «معدن».

بناءً على ما سبق، تُعد النجوم التي لا يغلب على تكوينها البنية المعدنية، قديمة جدًا، إذ تشكلت حين كانت نسبة الهيليوم والهيدروجين مرتفعة. وعلى ذلك، عندما يكتشف العلماء مجموعة من النجوم يغلب عليها التكوين الغازي يستطيعون تقدير قدمها، وعلى العكس، عندما تغلب البنية المعدنية على مجموعة من النجوم يشير ذلك إلى حداثة تكوينها.

تحديد العمر الصحيح للنجم عامل مهم في أساسيات علم الفلك، لم يستخدم تشانغ وريكس علم المعادن فقط في تحديد عمر النجم، بل ركزا على نوع معين من النجوم: «النجوم شبه العملاقة».

إن طَوْر شبه العملاق في حياة النجم قصير نسبيًا، لذلك يستطيع العلماء تحديد عمر النجم بدقة إذا كان في هذا الطور.

النجوم شبه العملاقة تتحول إلى عمالقة حمراء، وبدلًا من إصدار طاقة في النواة الخاصة بها، يكوّن الانشطار القشرة حول النواة.

استخدم العالمان بيانات التلسكوب الصيني في تحديد البنية المعدنية لنحو 250,000 نجم في أجزاء مختلفة من مجرة درب التبانة. وصفت بيانات مهمة غايا شدة سطوع مليار ونصف مليار نجم، والمواقع الصحيحة لهذه النجوم.

يعود الفضل في الدقة العالية للمعلومات التي تتضمنها هذه الدراسة والعديد من الدراسات الأُخرى إلى مهمة غايا.

قبل هذه المهمة،كانت دقة العلماء في تحديد عمر النجوم فقط 20 – 40%، أي إن الفرق في الأرقام قد يصل إلى مليار عام، بفضل مهمة غايا أصبحت المعلومات أدق.

تُسمى بيانات مهمة غايا: الإصدار الأولي للبيانات 3، وهي متطورة جدًا. توفر البيانات مواقع دقيقة ثلاثية الأبعاد لنحو 330,000 نجم، وقياسات عالية الدقة عن تحركات النجوم عبر الفضاء.

قارن الباحثان المعلومات الصادرة من مهمة غايا والتلسكوب الصيني بالأنماط الشائعة لبيانات النجوم، لتحديد عمر النجوم أشباه العملاقة بدقة.

صرّح ماوشينغ: «تمكّنا باستخدام بيانات غايا عن السطوع من تحديد عمر نجم شبه عملاق بدقة عالية».

تنتشر النجوم شبه العملاقة في أنحاء مجرة درب التبانة، ما ساعد العلماء على تجميع أعمار الأجزاء الأخرى للمجرة لبناء خط زمني لتاريخ المجرة.

أظهرت الدراسة طوران زمنيان في تاريخ مجرة درب التبانة، الطور الأول يبدأ بعد الانفجار العظيم بنحو 0.8 مليار سنة، عندما بدأ القرص الثخين بتكوين النجوم، بالتزامن مع تطور الأجزاء الداخلية للمجرة.

بعد ملياري عام، اندمجت مجرة قزمة اسمها «سجق غايا» مع مجرة درب التبانة، أدى الاندماج إلى استكمال عملية تشكل النجم.

ساعد اندماج مجرة سجق غايا مع مجرة درب التبانة على نشوء القرص الثخين، والغاز الناتج من تلك المجرة هو ما سبّب تشكل النجم في القرص الثخين.

أدى الاندماج إلى ملء هالة مجرة درب التبانة بالنجوم. ظن علماء الفلك أن العناقيد النجمية (NGC2808) قد تكون بقايا نواة مجرة سجق غايا، وهي من أضخم العناقيد النجمية في مجرة درب التبانة.

استمر تشكل النجم في القرص الكثيف باندماج المجرة مدة 4 مليارات سنة، وبعد 6 مليارات سنة من الانفجار العظيم، كانت جميع الغازات الناتجة من الانفجار قد انتشرت، وخلال تلك الفترة ازدادت البنية المعدنية في القرص الثخين من المجرة تبعًا للعديد من العوامل.

أوضحت الدراسة أيضًا وجود صلة وثيقة بين التكوين المعدني والغازات التابعة للنجوم في مجرة درب التبانة بالكامل، وذلك يعني أن غازات مجرة سجق غايا لم تكن هادئة، بل كانت مضطربة وهائجة، وقد اندمجت بسبب ذلك مع جميع أجزاء مجرة درب التبانة.

اكتشف العلماء اندماج مجرة سجق غايا عام 2018، وهو من الاكتشافات التي غيرت بنحو كبير مفهومنا عن تاريخ مجرة درب التبانة، أوضح هذا الاكتشاف الخط الزمني لتطور المجرات، ووفرت لنا هذه الدراسة الجديدة زخرًا تفصيليًا جيدًا من المعلومات.

صرح ماوشينغ: «اشتبه العلماء في أن مجرة درب التبانة أقدم من الهالة المحيطة بها، وذلك منذ اكتشاف عملية اندماج مجرة سجق غايا مع مجرة درب التبانة عام 2018، لكن لم نستطع تكوين صورة واضحة عن شكل مجرة درب التبانة حينها».

«أضافت النتائج تفاصيل مهمة عن ذلك الجزء القديم في المجرة مثل تاريخ نشوئه، ومعدل تشكل النجم، إضافةً إلى تاريخ تخصيب النجم بالمعدن، إن تجميع هذه المعلومات معًا باستخدام بيانات غايا يغير تمامًا الصورة التي تكونت في أذهاننا عن كيفية تشكل مجرة درب التبانة وتوقيته».

اكتشف العلماء تفاصيل أكثر عن مجرة درب التبانة في السنوات الأخيرة، ومن الصعب إنشاء خريطة لبنية المجرة، لأننا نقع في منتصفها. حتى الآن تُعد مهمة غايا التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية أفضل دليل لدينا حول نجوم هذه المجرة، والنتائج التي تقدمها في تحسن مستمر.

يقول تيمو بروسني، من وكالة الفضاء الأوروبية: «تتيح لنا مهمة غايا إحراز تقدم غير مسبوق في عملية تجميع تاريخ مجرتنا مع كل تحليل وبيانات جديدة تقدمها لنا المهمة، نحن بانتظار البيانات التي سنتلقاها من مُصدر البيانات 3 التابع لمهمة غايا، لإثراء المعلومات التي لدينا بتفاصيل أكثر».

إن مهمة غايا مصدر ضروري للبيانات، لكن هذا لا ينفي أن عمليات استطلاع المجرات تعطي رؤية أفضل لعلماء الفضاء حول بنية وتاريخ مجرة درب التبانة، ومع ذلك فإن استطلاع المجرات التي نشأت بعد ملياري عام فقط من الانفجار العظيم أمر صعب، إذ يتطلب ذلك تلسكوبًا قويا يعمل بالأشعة تحت الحمراء، لحسن الحظ سيبدأ أحد تلسكوبات الأشعة تحت الحمراء عمليات الاستطلاع قريبًا بعد انتظار طويل.

يستطيع تيلسكوب جيمس ويب الفضائي رصد السنوات الأولى للكون، ورصد المجرات القديمة التي شكلت الكون مثل مجرة درب التبانة.

يأمل العلماء الحصول على مزيد من المعلومات حول عملية اندماج مجرة سجق غايا، وكيف أدت إلى تكون النجم وتشكل القرص الثخين في مجرة درب التبانة، فقط بعد ملياري سنة من الانفجار العظيم.

استطلاع تلسكوب جيمس ويب الفضائي للمجرات القديمة ذات الإزاحة الحمراء الكبيرة مثل مجرة درب التبانة، قد تساعد على كشف العديد من الحقائق وتضمين تفاصيل أكثر في تاريخ المجرة.

ستطلق وكالة الفضاء الأوروبية في يونيو القادم إصدار البيانات الثالث الكامل التابع لغايا (DR3). سيتضمن ذلك معلومات مثل الأعمار، والبنية المعدنية، والأطياف لأكثر من 7 ملايين نجم.

بذلك سيكون لدينا حصيلة معلومات قيّمة للغاية مصدرها كل من إصدار البيانات الثالث وتلسكوب جيمس ويب الفضائي.

لماذا نجمع كل تلك البيانات؟

نظرًا إلى أن الكون في حالة تطور مستمر، فإن جميع المجرات مصيرها أن تبتلعها مجرّة أكبر منها، أو أن تبتلع مجرة أصغر منها، وفي الوقت ذاته وبسبب المادة المظلمة يتوسع الكون، إذ تعمل هذه المادة على تقسيم المجرات إلى أجزاء، وتتجمع فيما بعد هذه المجرات إلى مجموعات محلية، وتُعد مجرة درب التبانة جزءًا من مجموعة محلية.

تتماسك هذه المجرات بسبب الجاذبية المركبة للمجرات، لكن لا تبقى متماسكة بسبب توسع الكون، وفي النهاية تدمج المجرات الكبيرة المجرات الأصغر معها، وهو ما حدث عندما اندمجت مجرة درب التبانة مع مجرة سجق غايا القزمة والعناقيد النجمية.

حاليًا، تبتلع مجرة درب التبانة مجرة سحابة ماجلان الفضائية الكبيرة، التي بدورها تبتلع سحابة ماجلان الصغيرة. في النهاية ستبتلع مجرة درب التبانة كلتا السحابتين، وبعد مرور 4.5 مليار سنة ستندمج مجرة درب التبانة مع مجرّة أندروميدا الكبرى المجاورة.

الغريب أن مستقبل درب التبانة أوضح من مستقبل بقية أجزائها. وأن الكون الذي لا يتوقف عن الاتساع يحوي مشكلة محيرة: الدليل الذي نسعى وراءه يستمر بالضياع منا بسبب فرق الوقت والمسافة.

لكننا نعقد الآمال على قدرة كل من إصدار البيانات الثالث وتلسكوب جيمس ويب الفضائي على إزالة هذا العائق، وتسليط الضوء بنحو أفضل على تاريخ مجرة درب التبانة، للحصول على تفاصيل وبيانات أكثر عن عمليات اندماج المجرات، ونتمنى الحصول على جدول زمني تاريخي متكامل، يساعدنا بدوره في عمليات الاكتشاف والتطور.

اقرأ أيضًا:

الكشف عن أكثر الأماكن احتماليةً للعثور على حضارة فضائية في مجرة درب التبانة.

اكتشاف سحابة كونية أكبر بكثير من مجرة درب التبانة

ترجمة: رهف إبراهيم

تدقيق: عبد الرحمن داده

المصدر