منذ زمن بعيد نُظر للتاريخ الاقتصادي بعدسة ذكورية، ورُكز فقط على مساهمات الرجال ووجهات نظرهم. ولإثبات ذلك، ما عليك سوى إلقاء نظرة على جائزة نوبل للاقتصاد.

لقد مُنحت لـ 90 رجلًا منذ عام 1969 وثلاث نساء فقط.

كُرمّت المرأة الثالثة التي تفوز بالجائزة، وهي خبيرة الاقتصاد العمالي المتميزة في جامعة هارفارد، (كلوديا غولدين) في 9 أكتوبر 2023، لقاء عقود من عملها في دراسة الفجوة في الأجور بين الجنسين، إذ لم يكن هذا انتصارًا لها فحسب، بل للنساء في هذا المجال أيضًا.

وبالفعل هناك فجوة كبيرة بين الجنسين في مجال الاقتصاد من علماء وأكاديميين، إذ إنّ 24% فقط من أعضاء هيئة التدريس في الاقتصاد هم من النساء، وفي المقابل، تشكل النساء 43% من أعضاء هيئة التدريس الدائمين في الأوساط الأكاديمية ككل.

أكثر من مجرد أسهم وسندات:

جزء من المشكلة هو أن الاقتصاد غالبًا ما يرتبط نمطيًا بالتمويل والمال والمصارف، وهذا التصور الضيق قد لا يروق للجميع.

تميل النساء على وجه الخصوص إلى الانجذاب إلى المجالات التي لها تأثير مباشر على الشؤون الاجتماعية.

لكن الحقيقة تقول إن الاقتصاد يتعلق بما هو أكثر بكثير من مجرد سوق الأوراق المالية. وفي الواقع، هناك فروع واسعة من هذا التخصص تتعامل مع القضايا الاجتماعية والصحة والتنمية والتعليم، وأيضًا عدم المساواة بين الجنسين.

على سبيل المثال، يدرس اقتصاديو العمل قضايا مثل سياسات الإجازات العائلية والفجوة في الأجور بين الجنسين، وهي المجالات التي تؤثر مباشرةً في حياة المرأة.

لا ينبغي أن يكون من المفاجئ إذن أن يكون للنساء حضور أكبر في اقتصاديات العمل مقارنةً بالمجالات الفرعية الأخرى.

أيضًا انجذبت النساء تاريخيًا إلى اقتصاديات الصحة واقتصاديات التنمية واقتصاديات التعليم. لكن هذه المجالات لا تحظى بنفس القدر من الاهتمام، وفي بعض الأحيان لا يعتبرها الجمهور جزءًا من الاقتصاد على الإطلاق، بل وتحصل على اهتمام أقل في أساسيات الاقتصاد،فقد توصلت دراسة أجريت على كتب الاقتصاد التمهيدية إلى أن 75% من الأشخاص الذين وردت أسماؤهم فيها كانوا من الرجال، ولم تُمثّل النساء على قدم المساواة في الأمثلة الافتراضية.

أين النساء؟

لا يقتصر الأمر على أن تمثيل النساء ضعيف كخبيرات اقتصاديات وحائزات على جائزة نوبل للاقتصاد، بل إن مجال الاقتصاد تجاهل تاريخيًا الدور الذي تؤديه المرأة في الاقتصاد. حتى مع اكتساب دراسة اقتصاديات الأسرة زخمًا في السبعينيات، فإن الأدوار المحورية للمرأة كانت غالبًا ما تُهمّش.

كثيرًا ما كانت النماذج التقليدية تبالغ في تبسيط عمليات اتخاذ القرار على مستوى الأسر وتتجاهل مساهمات المرأة، وقد دفع هذا الاقتصاديين إلى التقليل من قيمة العمل غير مدفوع الأجر الذي تقدمه النساء في الأسر وإدامة الأدوار النمطية للجنسين في تحليلاتهم.

لقد تحدت غولدين هذه الروايات التقليدية التي تدور حول الذكور بأكثر من فوزها بجائزة نوبل للاقتصاد، فمن خلال أبحاثها الرائدة -خاصةً فيما يتعلق بعدم المساواة في الأجور وعائق الأمومة- استطاعت تسليط الضوء على الأدوار والتحديات الاقتصادية التي تواجهها المرأة.

وتكشف النتائج التي توصلت إليها عن تعقيدات الفوارق في الأجور، مع التركيز على قضايا مثل التحديات التي تواجهها النساء بعد الولادة.

على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الانقطاع عن العمل، مثل إجازة الأمومة أو تقليل ساعات العمل لرعاية الأطفال والأقارب الآخرين، إلى تقليل دخل المرأة وفرص العمل على المدى الطويل.

من المهم أن نلاحظ أن بحث غولدين لا يعزو الفجوة في الأجور بين الجنسين إلى التمييز الذي ربما يمارسه أصحاب العمل. وبدلاً من ذلك، تدعو أفكارها إلى إنشاء أنظمة دعم قوية.

تشير النتائج التي توصلت إليها إلى أن تعزيز مرافق رعاية الأطفال، وتحسين سياسات إجازات الأمومة، وتوفير المرونة في مكان العمل، وتعزيز السياسات التي تدعم الأسر التي لديها أطفال، يمكن أن تؤدي دورًا محوريًا في معالجة فجوة الأجور. وفي غياب مثل هذا الدعم، من المحتم أن تستمر المرأة في كسب دخل أقل من الرجل بعد أن تصبح أمًا.

فوزها بنوبل للاقتصاد، انتصار للكثيرين:

إن حصول غولدين على جائزة نوبل للاقتصاد ليس مجرد شرف لإنجازاتها الفردية، وإنما هو بمثابة منارة للنساء في الاقتصاد والأوساط الأكاديمية ككل.

فأولًا، يتحدى فوزها اختلال التوازن التاريخي بين الجنسين في مثل هذه الجوائز البارزة، ما يشير إلى الاعتراف الذي طال انتظاره لمساهمات المرأة في الاقتصاد. إنه يوفر الأمل للاقتصاديات الشابات في أن يحقق عملهن مثل هذه الشهرة أيضًا.

وبعيدًا عن هذا، فإن فوزها بجائزة نوبل للاقتصاد يسلط الضوء على نقطة بالغة الأهمية، وهي أن الاقتصاد نظام غني ومعقد يتجاوز القضايا النقدية والمالية التقليدية. يتعلق الأمر بالأمومة، رعاية الأطفال، نضالات الناس والتغيير الاجتماعي.

في جوهر الأمر، يُظهر فوز غولدين للعالم مدى اتساع وشمولية وتنوع وترابط هذا المجال حقًا، فالاقتصاد ليس مجرد علم كئيب، إنه علم إنساني.

اقرأ أيضًا:

مشروع مدينة كاليفورنيا فوريفر المشابهة لوادي السيليكون

خمسة وعشرون عامًا على إطلاق محرك بحث غوغل، هل سيصمد أمام الذكاء الاصطناعي؟

ترجمة: دياب حوري

تدقيق: علام بخيت كباشي

المصدر