يملك بيتر فوليبن الحراجي الألماني (مسؤول الغابات) فهمًا نادرًا عن الحياة الداخلية للأشجار، وهو قادر على شرحها بلغة شاعرية سهلة الفهم. كرس فوليبن حياته لدراسة الأشجار ورعايتها، وهو يدير غابة قريبة من منزله في قرية هومل بمعاملة محمية طبيعية.

أصبح بيتر كاتبًا شهيرًا بفضل كتابه (الحياة الخفية للأشجار: بماذا تشعر؟ وكيف تتواصل مع بعضها؟) الذي كتبه بفضل إصرار زوجته، وبيع أكثر من 800 ألف نسخة من الكتاب في ألمانيا، ووصل إلى قائمة أفضل الكتب مبيعًا في 11 دولة منها الولايات المتحدة وكندا.

لقد حدث تغير ثوري في الفهم العلمي للأشجار وبيتر هو أول كاتب نقل الدهشة إلى الجمهور العام. فآخر الدراسات العلمية التي أجريت في جامعات عريقة في ألمانيا والعالم تؤكد ما شك به بيتر منذ أمد بعيد، الأشجار كائنات متنبّهة واجتماعية ومعقدة –وربما ذكية- أكثر مما كنا نتوقع بكثير.

يشير بيتر إلى شجرتين متقاربتين تبدوان حذرتين من ألا يعتدي أي منهما على مساحة الأخرى، ويقول: «إن هاتين الشجرتين تراعيان بعضهما كثيرًا، فهما صديقتان قديمتان وجذورهما مترابطة ترابطًا وثيقًا، وفي حالات كهذه عندما تموت إحدى الشجرتين تموت الأخرى بعدها بفترة قصيرة، إذ تعتمد كل منهما على الأخرى».

هل تتحدث النباتات إلى بعضها - الحياة الداخلية للأشجار - التواصل بين النباتات - الفهم العلمي للأشجار - هل تتواصل الأشجار مع بعضها

منذ نظرية داروين عن التطور كان فهمنا عن الأشجار محدودًا، فنحن نعتقد أنها كائنات منعزلة تتنافس على الماء والغذاء وضوء الشمس، وأن الأشجار القوية تلقي بظلالها على الضعيفة وتمتصها حتى جفافها. ومجال صناعة الخشب بالتحديد يرى الغابات مصانع للخشب وساحة معركة يكون البقاء فيها للأكثر تكيفًا.

لكن توجد الآن الكثير من الدلائل العلمية التي تفنّد هذه الفكرة، بل تظهر الأشجار من النوع نفسه كائنات جماعية متعايشة قد تؤلف أحيانًا تحالفات مع أشجار من أنواع أخرى. لقد تطورت أشجار الغابات لتبني علاقات تعاونية معتمدة على بعضها، يحافظ عليها التواصل والذكاء الجمعي المشابه لمستعمرات الحشرات.

قد يظن بعض الناس أن التواصل يحدث بين الأشجار عند قممها العالية ولكن التواصل الحقيقي يحدث تحت الأرض عند الجذور، يقول بيتر: «يسميها بعض العلماء الشبكة الخشبية العنكبوتية، فكل الأشجار في هذه الغابة -وفي كل غابة لم تتضرر كثيرًا- مرتبطة بشبكة فطرية تحت الأرض، وهي تتشارك الماء والغذاء عبر هذه الشبكات وتستخدمها للتواصل أيضًا، فهي ترسل إشارات خطر تتعلق بالجفاف والمرض. فعند تعرضها لهجوم الحشرات مثلًا، تبدل الأشجار سلوكها عند تلقيها هذه الإشارات».

يسمي العلماء هذه الشبكة شبكة الفطور الجذرية، فأطراف الجذور الدقيقة للأشجار مرتبطة بواسطة خيوط فطرية دقيقة تشكل أساس شبكة التواصل، وهي تعمل عمل جهاز تكافلي بين الفطور والأشجار أو تبادل اقتصادي بينهما. إذ تستهلك الفطور نحو 30% من السكريات التي تصنعها الأشجار بالتركيب الضوئي أجورًا مقابل خدماتها المتمثلة في تنقية التربة من النيتروجين والفوسفور والمعادن المغذية التي تمتصها الأشجار بعد ذلك وتستهلكها.

تشكل هذه الشبكة خط إنقاذ لحياة الشجيرات الصغيرة في المناطق الظليلة جدًا في الغابة، فهي تتمكن من البقاء بفضل الأشجار الكبيرة بسبب عدم قدرتها على التركيب الضوئي، إذ تضخ الأشجار الكبيرة السكر إلى جذور الشجيرات بواسطة شبكة الجذور الفطرية، يصف بيتر الأمر كإرضاع الأشجار الكبيرة لصغارها، وهو تعبير مجازي يوصل الفكرة بطريقة مميزة.

يذكر بيتر رؤيته شجرة زان قُطعت منذ 500 عام أو 400، لكنه عندما كشط سطحها بسكين وجد شيئًا مذهلًا هو أن الجذع المبتور كان حيًا مليئًا باليخضور، وللأمر تفسير وحيد، إن الأشجار المحيطة كانت تبقيها حية. يقول بيتر: «يذكرني سلوك الأشجار هنا بالفيلة، فهي لا تترك موتاها، خاصةً إذا كانت شجرة أمومية كبيرة موقرة».

ترسل الأشجار نبضات كهربية من الإشارات الكيميائية، وقد بدأ العلماء بفك شيفراتها للتو، درس إدوارد فارمر من جامعة لوزان في سويسرا هذه النبضات الكهربية وحدد نظام إشارات معتمد على الجهد (الفولت) يشابه الجهاز العصبي للحيوانات كثيرًا (لكن هذا لا يعني وجود جهاز عصبي للنبات). إشارات الخطر هي الموضوع الرئيسي لأحاديث الأشجار، رغم أن بيتر يتساءل عن كون ذلك ما تتحدث عنه الأشجار إذ يقول: «ماذا تقول الأشجار عندما تكون سعيدة وليست في خطر؟ أود أن أعرف ذلك».

جمعت مونيكا غاليانو من جامعة أستراليا الغربية دلائل على أن بعض الأشجار تصدر أصواتًا وتستقبلها، صوت تكسّر صغير عند الجذور بتردد 220 هرتز غير مسموع للبشر.

تتواصل الأشجار عبر الهواء أيضًا باستخدام الفيرمونات (مواد كيميائية تستخدمها الحيوانات أحيانًا لإثارة أفراد أخرى من نفس نوعها) وإشارات عطرية أخرى.

مثال بيتر فوليبن المفضل هو أشجار الأكاسيا (الصمغ العربي) في الصحاري الإفريقية، فعندما تمضغ الزرافات أوراقها تنتبه الشجرة إلى الأذى وترسل إشارات خطر مثل غاز الإيثيلين، وعندما تلتقط الأشجار القريبة هذه الإشارة ترسل مواد كيميائية هي التانينات إلى أوراقها، بكميات تكفي لإيذاء الحيوانات العاشبة الكبيرة أو حتى قتلها. والزرافات تدرك هذا وقد تطورت كذلك، لذلك فهي تسير بعيدًا حتى لا تكون إشارة الخطر قد وصلت إلى أشجار الأكاسيا في طريقها، وعندما لا توجد رياح لحمل الإشارة الغازية تمشي الزرافات عادة قرابة 90 مترًا –أبعد مما قد يصل إليه غاز الإيثلين- قبل أن تتغذى على شجرة أكاسيا أخرى، إذن يبدو أن الزرافات تعرف أن الأشجار تتحدث إلى بعضها.

تلتقط الأشجار الروائح بواسطة أوراقها، وهو ما يعده بيتر حاسة شم. وهي تملك حاسة تذوق أيضًا فعندما تتعرض أشجار الدردار والصنوبر لهجوم اليرقانات الآكلة للأوراق تميز لعابها، وتبعث فيرمونات تجذب الدبابير الطفيلية التي تضع بيوضها داخل اليرقانات، وتلتهم يرقات الدبابير اليرقانات من الداخل، وهو أمر مؤسف لليرقانات، لكنه ذكي جدًا للأشجار.

وجدت دراسة حديثة من جامعة لايبزغ والمركز الألماني للبحث التكاملي للتنوع الحيوي أن الأشجار تميز لعاب الأيائل، فعندما يمضغ أيل أحد الأغصان ترسل الشجرة مواد كيميائية إلى الأوراق تجعل مذاقها بشعًا، لكن عندما يكسر إنسان مثلًا أحد الأغصان ترسل مواد كيميائية أخرى لتعالج الكسر، فهي تميز بين الأمرين.

عندما قرأ بيتر الأبحاث القادمة من الصين وأستراليا وأمريكا عن شبكات الجذور الفطرية ترك أساليبه القديمة في رعاية الأشجار وأقنع العاملين في صناعة الخشب في منطقته بتحويل الغابة إلى محمية طبيعية، وأنشأ مقبرة في الغابة البرية، إذ يدفع محبو الطبيعة الأجور لدفن رفات أحبائهم في أحضان الطبيعة، ويدفع السياح الأجور لقاء تجوالهم في الغابة.

تتوصل الأستاذة سوزان سيمارد المختصة بعلم بيئة الغابات في جامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر وطلابها الباحثون لاكتشافات مذهلة عن حساسية الأشجار، وتواصلها المتداخل في الغابات المطيرة غرب أمريكا الشمالية، وأبحاثها تكشف محدودية طرق البحث العلمية الغربية. سيمارد معروفة في الوسط العلمي بأبحاثها المكثفة حول شبكات الجذور الفطرية، وكشفها للأشجار «الأم» المترابطة، أو الأشجار المركزية كما تصفها في أوراقها البحثية. وهذه الأشجار ليست إناثًا بالضرورة لكنها ترعى الشجيرات الصغيرة وتلك التي تعاني أو في خطر بطريقة أمومية.

أجرى الباحثان أماندا أساي وبرايان بيكلز المختص بعلم البيئة في جامعة ريدينغ البريطانية دراسةً أثبتا فيها أن الأشجار تتعرف على بعضها عندما تكون بينها صلة قربى، إذ إنها تفضل أقاربها في إرسال الكربونات بواسطة شبكات الجذور الفطرية، تقول سيمارد: «لا نعرف كيف تتمكن الأشجار من ذلك، ربما من طريق الرائحة، لكن أين مستقبلات الرائحة في جذور الأشجار؟ لا نعرف».

آلن لاروك باحث آخر يفصل نظائر النيتروجين الخاصة بسمك السلمون من الأشجار، إذ إن ذلك النيتروجين له طبيعة كيميائية مميزة، يقول آلن: «تجلس الدببة تحت الأشجار وتتغذى على سمك السلمون وتترك البقايا هناك، وجدنا أن الأشجار تمتص هذا النيتروجين وتتشاركه عبر الشبكة، إنه نظام متداخل بين الدببة والسمك والأشجار. أهو مهرجان حب هيبي أم علاقة اقتصادية أم أن الأشجار الأم تسرب المواد عندما تكبر؟ يبدو أن كل هذا يحدث لكننا لا نعرف.

لا نعلم ما تقوله هذه الأشجار عبر فيرموناتها معظم الوقت، ولا نعلم كيف تتواصل ضمن أجسامها نفسها، فهي لا تملك جهازًا عصبيًا، لكنها تشعر بما يحدث وتختبر شيئًا يشبه الألم، فعندما تُقطع شجرة ترسل إشارات كهربية كالنسيج البشري المجروح».

تنتقد سيمارد العلوم الغربية بقولها: «نحن لا نسأل أسئلة جيدة تتعلق بالتواصل الداخلي للغابة، فنحن مدربون على التفكير باختزال، نختار مرحلة واحدة وندرسها على حدة رغم معرفتنا أن هذه العمليات لا تحدث على مراحل منفصلة. عندما أمشي في الغابة أشعر بروح كل شيء فيها، كل شي يعمل بتناغم، لكن ليست لدينا أية طرق لقياسه أو رسم خرائط له، ولا نستطيع حتى قياس شبكات الفطور الجذرية. ملعقة صغيرة من تربة الغابة تحوي عدة أميال من الخيوط الفطرية».

لماذا تتشارك الأشجار بالموارد وتشكل تحالفات؟ ألا يشير قانون الانتخاب الطبيعي إلى أنها يجب أن تتنافس؟ تقول سيمارد: «إن الأمر غير منطقي من وجهة نظر تطورية، فهي تعيش فترات أطول في غابات مستقرة سليمة، لذلك فقد تطورت لتساعد الأشجار القريبة».

لا يتفق العلماء كلهم على الادعاءات المتعلقة بالشجر، فما تراه سيمارد تعاونًا وتشاركًا يراه آخرون تبادلًا أنانيًا وانتهازيًا. لا يرى ستيفن وودورد مثلًا أن الأشجار تتواصل مع بعضها عند تعرضها لهجوم إذ يقول: «إنها لا ترسل هذه الإشارات إلى أي شيء، فهي تصدر مواد كيميائية للألم وتلتقط الأشجار الأخرى هذه الإشارة، دون نية للتحذير».

يرى البروفيسور المتقاعد لينكن تايز الأستاذ السابق في قسم بيولوجيا النبات في جامعة كاليفورنيا والمحرر المشارك لكتاب (فيزيولوجيا النباتات وتطورها) أن بحث سيمارد مذهل، لكنه لا يرى دليلًا على أن تواصل الأشجار متعمّد أو ذو غاية، ويقول: «كل جذر وكل خيط فطري مبرمج جينيًا على أداء عمله تلقائيًا عبر الانتخاب الطبيعي، دون وجود غاية أو وعي جمعي». لم تدّع سيمارد وجود وعي لدى الأشجار، لكن ما كتبته يوحي بذلك.

يرى تايز أن البشر يصدقون أسطورة الأشجار المفكرة والمتكلمة التي تشعر، ففي اليونان القديمة كانت الأشجار تقدم النبوءات، وظهرت الأشجار المتكلمة في الكثير من أفلام هوليود، ويعتقد تايز أن الاندفاع الأسطوري ذاته يقف وراء الادعاءات الحديثة عن تواصل الأشجار وذكائها.

نشر تايز وعلماء آخرون عام 2007 هجومًا على انتشار فكرة امتلاك النبات والأشجار وعيًا، ويقول: «إن فكرة وجود الغاية لدى الأشجار هي وهم، فالانتخاب الطبيعي يفسر كل ما نعرفه عن سلوك النبات».

العالم البريطاني البارز ريتشارد فورتي وعالم المستحاثات السابق في متحف التاريخ الطبيعي في لندن لديه انتقادات مشابهة، إذ يقول: «أتحمي الأشجار الأم صغارها؟ -بلهجة ساخرة- إن تجسيد صفات البشر على النبات أمر غير مفيد. إن الفكرة مبالغ فيها ومغرقة في البشرية، الأشجار لا تملك إرادة أو نية بل هي تحل المشكلات، وكل شيء يخضع للسيطرة الهرمونية وقد تطورت لتحقيق ذلك عبر الانتخاب الطبيعي.

تتواصل الأشجار بطريقتها الخاصة، لكن يقلقني أن البشر يرون ذلك جذابًا ويتوصلون إلى استنتاجات خاطئة كقولهم إن الأشجار كائنات واعية مثلنا. يوجد الكثير من العلم في كتاب فوليبن وأنا أتعاطف حقًا مع مخاوفه، لكنه يجعل الأشجار تبدو واعيةً وتشعر، مثل الأشجار في فيلم سيد الخواتم».

يرد فوليبن على ذلك بقوله: «يصر العلماء على لغة مجردة من العواطف، وهذا غير إنساني في رأيي، لأننا كائنات عاطفية، واللغة العلمية لمعظم البشر لغة مملة جدًا للقراءة، فبحث أشجار الأكاسيا والزرافات كُتب منذ سنين كثيرة، لكنه كتب بطريقة تقنية جافة، لذلك لم يعلم به معظم الناس. لا أظن أن الأشجار لديها حياة مدركة، لكننا لا نعرف ذلك. يجب على الأقل أن نتحدث عن حقوق الأشجار، يجب أن ندير غاباتنا باستدامة واحترام وأن نسمح للأشجار أن تكبر بكرامة وتموت بطريقة طبيعية».

اقرأ أيضًا:

أظهرت دراسة جديدة أن النباتات تصاب بالذعر أثناء المطر

النباتات الطفيلية تستخدم جينات مسروقة لكي تصبح أكثر تطفلًا

ترجمة: ليلان عمر

تدقيق: عون حدّاد

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر