كيف نعرف بالضبط ما يحدث على المستوى الجزيئي في أثناء العمليات فائقة السرعة؟
في لمح البصر، يظهر مركب كيميائي في اللهب ثم يليه آخر، قبل أن يتبددا ويظهر غيرهما. يتيح تحديد الجزيئات الموجودة في هذه اللحظات العابرة للعلماء فهمًا أعمق للآليات الكيميائية الدقيقة التي تحكم سير العملية.
لكن، تعجز الأساليب التقليدية لقياس أحجام الجزيئات عن رصد العمليات السريعة والعابرة بهذا الشكل. أما المجهر الضوئي الكلاسيكي فلا يفتقر الى السرعة فحسب بل يعجز أيضًا عن تمييز البنية المكانية للجزيئات، التي لا يتجاوز حجمها عادة بضعة نانومترات، أي أجزاء من مليار من المتر.
في خطوة جديدة، طوّر فريق بحثي من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بقيادة ليهونغ وانغ، أستاذ الهندسة الطبية والهندسة الكهربائية، أداة جديدة تُعرف باسم «التصوير المضغوط فائق السرعة لتباين الاستقطاب المستوي ثنائي البعد فائق السرعة–CUP2AI» تتيح هذه الأداة تتبع الأحداث الديناميكية فائقة السرعة، ما يفتح آفاقًا واسعة ليس فقط في أبحاث الاحتراق، بل أيضًا في مجالات واعدة مثل تصميم الأدوية وتكوين الجسيمات النانوية.
قدم وانغ وزملاؤه في ورقة بحثية تقنية CUP2AI، ووصفوا نجاحها في تصوير المواد الكيميائية المسرطنة داخل اللهب، وكذلك تصوير مادة فلورية شائعة تُستخدم في التطبيقات الطبية الحيوية في أثناء وجودها في الماء.
يقول وانغ، العضو التنفيذي للهندسة الطبية في معهد كاليفورنيا للتقنية: «عندما يكون الحدث سريعًا، ترغب في مشاهدته بأكمله ديناميكيًّا. تريد فهم العملية الفيزيائية في الزمان والمكان معًا، وهذا بالضبط ما تتيحه لنا تقنية التصوير فائقة السرعة الجديدة».
يقول بنغ وانغ، الباحث السابق ما بعد الدكتوراه في مجموعة ليهونغ وانغ والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة، بالاشتراك مع يوجيشوار ناث ميشرا من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ومختبر الدفع النفاث (JPL) والمعهد الهندي للتكنولوجيا في جودبور، وفلوريان ج. باور من جامعة فريدريش-ألكسندر في إرلنغن-نورنبيرغ في ألمانيا: «لنأخذ احتراق اللهب مثلًا، يحتاج العلماء إلى دراسة ألسنة اللهب باستخدام انواع مختلفة من الوقود، لفهم العمليات الجارية تمامًا، ما يعني أن التفاعلات الكيميائية ستحدث بطرق مختلفة، ما يغير من ظروف التفاعل، إذ ستُنتِج كل حالة مجموعة فريدة من الجزيئات، وسيمكّننا معرفة حجمها من فهم كيفية حدوث هذه التفاعلات لمختلف أنواع الوقود وفي ظروف متباينة. سنحتاج إلى فهم هذه التفاعلات الكيميائية نظرًا إلى استخدام الاحتراق في السيارات والطائرات وحتى الصواريخ، عندها يمكننا تطوير محركات احتراق أكفأ، وأيضًا المساهمة في تقليل الملوثات الناتجة من عملية الاحتراق».
تعتمد تقنية CUP2AI على الأبحاث السابقة في مختبر وانغ، التي أدت إلى ابتكار أسرع كاميرا في العالم، إضافةً إلى تطوير سلسلة من تقنيات التصوير فائق السرعة، وذلك بابتكار تقنية تُعرف باسم التصوير الفائق السرعة المضغوط (CUP).
تعتمد التقنية الجديدة على خاصية استقطاب الضوء، التي تُعد من الخصائص الأساسية للضوء إلى جانب الطول الموجي والشدة. يمثل الاستقطاب اتجاه المكون الكهربائي لموجة الضوء بالنسبة لاتجاه انتشارها العام. تبين أيضًا أن استقطاب الضوء الفلوري مرتبط باتجاه الجزيء الذي ينبعث منه.
لفهم ذلك، يجب أن نأخذ في الحسبان أن الجزيئات تكون في حركة مستمرة. من بين أشكال حركتها، الحركة الانتقالية، التي تعني انتقال الجزيء من موقع إلى آخر، أما الشكل الثاني فهو الحركة الدورانية، التي تتمثل في دوران الجزيء حول محور واحد أو أكثر من المحاور الثلاثة.
يقول بينغ وانغ: «تتوقف خصائص هذا النوع الثاني من الحركة على حجم الجزيء، فكلما زاد حجم الجزيء، ازدادت صعوبة دورانه، أما الجزيئات الأصغر فهي أسهل في الدوران ومن ثم تدور بسرعة أكبر».
تنتقل إلكترونات الجزيء إلى حالة طاقة عليا عندما يتفاعل شعاع الليزر مع جزيء ما، وعندما تعود الإلكترونات إلى وضع الراحة، إذ تكون في حالة طاقية أقل، تطلق فوتونات، مسببة انبعاثًا فلوريًّا يتلاشى تدريجيًّا على مدى فترة زمنية معينة.
بالنسبة إلى الجزيئات التي يثيرها ليزر مستقطب خطيًا، فإن الضوء الفلوري المنبعث منها سيحمل درجة معينة من الاستقطاب، لكن هذا الاستقطاب يتغير بسرعة فائقة على فترات زمنية تُقاس بمليارات أو تريليونات من الثانية، وهذا ما تقيسه تقنية CUP2AI.
تحديدًا، تأخذ تقنية CUP2AI قياسين مختلفين للاستقطاب: أحدهما موازٍ لاتجاه استقطاب شعاع الليزر، والآخر عمودي عليه. بدايةً، يأتي معظم الضوء الفلوري من الاستقطاب الموازي، لكن بمرور الوقت تزيد الحركة الدورانية من مقدار الاستقطاب في الاتجاه العمودي، ما يقلل الفارق بينهما، أو ما يُعرف بالاتزان الاستقطابي. تعتمد سرعة تغير عدم الاتزان على حجم الجزيء.
«كلما كان الجزيء أكبر، تباطأ تلاشي هذا الفرق، ما يتيح لنا تحديد حجم الجزيء، أما الطرق الأخرى التي استُخدمت لقياس حجم الجزيئات في بيئات ديناميكية فاقتصرت على تحديد الحجم عند نقطة واحدة أو على حساب متوسط الحجم لكامل العينة، أداتنا هي الأولى التي تستطيع رسم خريطة ثنائية الأبعاد للفلورة في لقطة واحدة».
يشير ليهونغ وانغ إلى أن العلاقة بين حجم الجزيء وتلاشي عدم الاتزان الاستقطابي مبنية على معادلة وضعها في الأصل العلماء ألبرت أينشتاين، جورج ستوكس، وبيتر ديباي. يقول: «حين نمزج بين مبادئ الفيزياء الكلاسيكية والتقنيات الحديثة لتطبيقها على قضية معاصرة جدًّا، وهي كفاءة الاحتراق المرتبطة بالطاقة. هذا الأمر يثير حماسي بشدة».
المصادر:
الكاتب
يوسف الشيخ

ترجمة
يوسف الشيخ
