يندهش الكثير من الأطفال بجمال السماء في الليل، راغبين بأن يصبحوا رواد فضاء في المستقبل يَطؤون سطح القمر وغيرهُ من الكواكب والنجوم في المجرة. يتساءل الكثيرون عن الإجراءات والاستعدادات اللازمة التي تؤهل شخصًا ما ليصبح رائد فضاء، والحقيقة هي أن اختيار الأشخاص المناسبين عملية صعبة وعالية المنافسة.

عندما دربت ناسا طاقم رواد الفضاء لرحلات 2021، انتقت 10 أشخاص فقط من بين أكثر من 1200 متقدم. وقد تمكن أكثر من 350 شخص من أن يصبحوا رواد فضاء منذ أن بدأت ناسا بإطلاق الرحلات وتدريب الكوادر المناسبة.

تشمل المتطلبات الرئيسة شهادة ماجستير في أحد المجالات (العلوم البيولوجية أو التقنية أو الرياضيات أو الهندسة كهندسة الحاسوب)، وأن يكون المتقدم أمريكي الجنسية، وبصحة ممتازة، وأن يجتاز امتحانات ناسا للياقة البدنية المعروفة بصعوبتها.

تُلخص آن مكلين -رائدة فضاء في وكالة ناسا- المتطلبات الأخرى التي لا بد من وجودها في الأشخاص الراغبين بالسفر عبر النجوم في مدونة نشرتها في 2020 مفادها: «القدرة على التأقلم وأن يكون الشخص محل الثقة ومثابرًا ومهتمًا بالتفاصيل».

كان أغلب الأشخاص المؤهلين لأن يصبحوا رواد فضاء فيما مضى من خلفية عسكرية، أفضل مثال على ذلك حقبة الحرب الباردة التي شهدت السباق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في محاولة للوصول إلى القمر أولًا.

حتى هذا اليوم، لم يطأ سطح القمر سوى 12 شخص جميعهم بيض، لكن ناسا تسعى إلى زيادة تنوع الأفراد ضمن طاقمها، والسماح لأول شخص من لون بشرة ليست بيضاء وأول امرأة بالمشاركة في رحلة أرتميس في 2024 للذهاب إلى القمر

تتبع مرحلة انتقاء المرشحين المناسبين فترة سنتين من التدريب تُشرف عليها ناسا ليصبحوا مؤهلين للعمل بوصفهم رواد فضاء، تفعل ناسا ما بوسعها لتهيئة المرشحين عبر تدريبهم على المشي في بيئات وعرة، مثل الأحواض الضخمة والصحاري الحارة.

سفينة فضائية في حوض مائي للتدريب على المشي في بيئة انعدام الجاذبية

سفينة فضائية في حوض مائي للتدريب على المشي في بيئة انعدام الجاذبية

تُحاكي بيئة المياه ضمن الأحواض الظروف التي سيجد فيها رواد الفضاء أنفسهم عند محاولة التحرك ضمن سفينة فضائية تنعدم فيها الجاذبية. تُعد هذه الطريقة إحدى أهم الطرق وأكثرها بساطة لتعليم رواد الفضاء الخطوات الأولى في مسيرتهم المهنية.

تُقيم ناسا جلسات التدريب على المشي داخل أحواض الماء الكبيرة ضمن مختبر Neutral Buoyancy Laboratory في مركز Johnson Space في ولاية تاكسس، هيوستن.

تُقيم ناسا جلسات التدريب على المشي داخل أحواض الماء الكبيرة ضمن مختبر Neutral Buoyancy Laboratory في مركز Johnson Space في ولاية تاكسس، هيوستن.

يحتوي الحوض الهائل ما يزيد عن 23 ألف متر مكعب من الماء، وفيه توضع مركبة مشابهة للمحطة الفضائية الدولية (ISS) ليتدرب رواد الفضاء على استخدام أدوات المركبة في بيئة عديمة الجاذبية.

التحليق في طائرة (المذنب المسبب للتقيؤ) لاختبار شعور انعدام الجاذبية

التحليق في طائرة (المذنب المسبب للتقيؤ) لاختبار شعور انعدام الجاذبية

بدأ العمل على برنامج بحوث تخفيض الجاذبية الأرضية منذ 1959، وللمساهمة في تطوير البحوث في هذا المجال، يُحلق المتدربون في طائرة لقبها (المذنب المسبب للتقيؤ)، يعيش الركاب فيها حالة من انعدام الجاذبية تدوم 25 ثانية لدى اقترابها من أعلى ارتفاع ممكن، وذلك بعد صعود الطائرة صعودًا حادًا عدة مرات وهبوطها بسرعة.

استُخدمت عدة أنواع من الطائرات ضمن البرنامج التدريبي على مر السنوات، ومنها طائرة (KC-135A) من صنع ناسا التي لم تعد تُستخدم منذ 2004. وفي 2008 استلمت شركة Zero Gravity الخاصة إدارة عمليات الطيران في البيئات المنعدمة الجاذبية لناسا.

تُفيد الطائرة أيضًا في إجراء الدراسات الطبية المتنوعة، يتعلق معظمها بالأمراض الناجمة عن الحركة المتقلبة داخل الطائرة، ما يُسبب الغثيان والدوخة للمتدربين.

في أحيانٍ أخرى، استفاد ممثلي هوليوود من الطائرة بصفتها مكانًا مميزًا لتصوير مقاطع الأفلام كفيلم أبولو 13 سنة 1995، إذ أدى كل من توم هانكس وكيفن بيكن وبيل باكستن مشاهد تنعدم فيها الجاذبية على متن طائرة ناسا الشهيرة.

تدريبات ضارية في بيئة صحراوية استعدادًا لحالات الهبوط المفاجئ

تدريبات ضارية في بيئة صحراوية استعدادًا لحالات الهبوط المفاجئ

يتعلم رواد الفضاء لدى ناسا تقنيات تُستخدم في حالات الطوارئ القسوة للنجاة مثل الهبوط المفاجئ، وأصبحت هذه التدريبات جزءًا لا يتجزأ من روتين هؤلاء المختصين بعد الحادثة التي أصابت طاقم Mercury 7 الأول في 1959.

سافر طاقم مهمة Apollo 11 إلى ولاية نيفادا في 1964، وأمضوا ثلاثة أيام يجرون تدريبات مكثفة في صحراء حارة، تُظهر إحدى أشهر الصور اللباس الذي كان يرتدونه، وهي عادةً ملابس مصنوعة من المظلات تُبقي حرارة الجسم منخفضة لتحمل التدريب في البيئة الحارة.

تُشبه الصحراء على الأرض بيئة الكواكب الغريبة التي يجد رواد الفضاء نفسهم فيها. تهدف ناسا إلى إرسال المتدربين إلى صحراء أريزونا للتدريب، وذلك تجهيزًا لرحلات مهمة أرتيمس مستقبلًا لأنها البيئة الأقرب لسطح القمر.

التدريب على متن آلة مصممة لمحاكاة خروج سفينة فضائية عن السيطرة

التدريب على متن آلة مصممة لمحاكاة خروج سفينة فضائية عن السيطرة

في أيام الحرب الباردة، كان رواد الفضاء يجرون تدريباتهم على متن آلة متعددة المحاور، إذ كانت تدور بهم بمختلف الوضعيات وبسرعة كانت تصل إلى 30 دورة بالدقيقة. كانت فائدة هذه الآلة تهيئة رواد الفضاء للتأقلم مع الرحلات المتخبطة التي تحدث داخل سفينة الفضاء، وأطلق عليها المتدربون تسمية الآلة ذات المحورين.

يقول أحد رواد الفضاء السابقين في مشروع Mercury جون غلين في فيديو صوره داخل مركز NASA Glen Research ونشره على يوتيوب: «كانت تدريبات آلة المحاور من بين أصعب الاختبارات التي مررنا بها على الإطلاق. لقد كرهنا ذلك الشيء حقًا!». ويوجد أيضًا فيديو يُظهر مقاطع قديمة في أثناء تدريب طاقم Project Mercury الذي تضمن 13 امرأة شاركت في المشروع داخل هذه الآلة.

لم تعد تُستخدم هذه الأداة لتدريب رواد الفضاء في الوقت الحاضر، لأن سفن الفضاء المعاصرة متطورة ولا يحدث فيها دوران عشوائي.

اختبار قدرة تحمل رواد الفضاء لقوى الجاذبية الشديدة عبر ركوب آلة دوارة

اختبار قدرة تحمل رواد الفضاء لقوى الجاذبية الشديدة عبر ركوب آلة دوارة

تتألف آلة الطرد المركزي من ذراع دوارة، مع وجود حجرة تتسع لإنسان في الجهة المقابلة. يختبر رواد الفضاء قدرات تحملهم لضغط الجاذبية الهائل عند دوران هذه الآلة.

يذكر غلين شعوره وهو داخل الآلة في مذكرته سنة 2000 قائلًا: «كنت بمثابة عينة يجري اختبار الآلة عليها، إذ كانت الآلة تدور بسرعة وأنا جالس في أسفل الذراع، وتحاكي التجربة ما يتعرض له رواد الفضاء عندما يصبحون خارج الغلاف الجوي للأرض أو عند اختراقه للعودة».

التحدث مع اختصاصيين نفسيين في الفضاء يُخفف الضغط النفسي الذي يتعرضون له

يجري فحص الراغبين بالتقدم ليصبحوا رواد فضاء باختبار حالتهم النفسية، ويُستبعد غير المؤهلين. إذ أصبحت ناسا على دراية بالأعباء النفسية التي يواجهها البشر بعد زيادة وتيرة الرحلات إلى الفضاء.

وفي مقابلة أجراها هنري هارتسفيلد سنة 2001 يذكر إحدى المهام التي أداها في مركبة فضائية بعد انضمامه لطاقم رواد فضاء ناسا في 1969: «أذكر متخصص الحمولة على متن المركبة التي كنت عليها، وكيف أصبح مهووسًا بفتحة المركبة. كان يخشى أن تُفتح الفتحة من تلقاء نفسها ويخرج الهواء، لذلك عمد إلى البقاء بجانبها للتأكد أنها مغلقة جيدًا».

خلاصة القول أن السفر عبر الفضاء يُشكل عبئًا نفسيًا كبيرًا، إذ نشرت وكالة ناسا في 2016 تقريرًا عبر برنامج البحوث البشرية، وضحت فيه الأزمات النفسية التي يتعرض لها رواد الفضاء، وكان من ضمنها اضطرابات في مواعيد النوم، والتعرض للإشعاع، وتغيرات في الجاذبية، وقضاء فترات طويلة في العزلة.

يتحدث أعضاء الطاقم على متن ISS مع الطاقم الطبي والاختصاصيين النفسيين باستمرار بجلسات فيديو فردية.

ستواجه ناسا تحديًا صعبًا في الحفاظ على أفضل حالة نفسية ممكنة لرواد الفضاء، لأن الوكالة تسعى إلى استكشاف أماكن أبعد في الفضاء كالقمر والمريخ في المستقبل القريب.

اقرأ أيضًا:

نجاح جديد! سبايس إكس تطلق 4 رواد فضاء في مهمة تاريخية لناسا

رواد فضاء ناسا ينجحون بزراعة الفلفل الحار في محطة الفضاء الدولية خارج الأرض

ترجمة: طاهر قوجة

تدقيق: هزار التركاوي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر