فلسفة وارين بافيت الاستثمارية.. ما مستقبلها بعد تقاعده؟

21 أكتوبر 2025
17 مشاهدة
0 اعجاب

فلسفة وارين بافيت الاستثمارية.. ما مستقبلها بعد تقاعده؟



 أعلن رجل الأعمال الشهير ذو الأربعة والتسعين عامًا وارين بافيت، الذي يُعد أيقونة عالمية في عالم الأعمال والاستثمار، الرئيس التنفيذي لشركة بيركشاير هاثاواي، تنحيه عن منصبه نهاية عام 2025. تمثل مغادرته نهاية حقبة ما يُعرف باستثمار القيمة، وهو منهج استثماري يقوم على أساس شراء الشركات ذات الجودة العالية والنجاح المتوقع بأسعار معقولة والاحتفاظ بها على المدى البعيد.


نجح منهج بافيت في تحويل بيركشاير هاثاواي من شركة صغيرة للمنسوجات في ستينيات القرن الماضي إلى تكتل شركات ضخم تصل قيمته اليوم إلى أكثر من 1.1 ترليون دولار أمريكي.


اتخذ بافيت منهجًا مميزًا في بناء ثروته، ركز فيه على دعم الصناعات الأميركية في مجالات مثل الطاقة والتأمين والعلامات التجارية الأميركية، متضمنةً حصص كبيرة في أسماء تجارية عالمية الصيت مثل كوكاكولا وأميركان إكسبريس وأبل. وقد انعقد الاجتماع السنوي لشركة بيركشاير مؤخرًا، الذي عُقد بمشاركة آلاف المستثمرين المخلصين للشركة، ووقع الاختيار على غريغ أبل ليكون خليفة بافيت رئيسًا تنفيذيًا للشركة العملاقة. يشغل أبل، البالغ من العمر 62 عامًا، حاليًا منصب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لفرع بيركشاير هاثاواي للطاقة، إضافةً إلى منصبه نائب رئيس عمليات بيركشاير هاثاواي غير التأمينية. يُعرف أبل بأسلوبه الإداري المنضبط والجاد، وهو ما بدا مناسبًا لإدارة شركة عملاقة كهذه. وبالفعل، صوّت مجلس إدارة الشركة بالإجماع على هذه الخطوة.


يأتي هذا التغيير في القيادة في لحظة حساسة، فقد أحدثت عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية تحولات جوهرية في السياسة الاقتصادية الأمريكية، ما مثل تغيرًا يتطلب استجابةً مباشرة من إدارة شركة كبيرة مثل بيركشاير هاثاواي. في تلك الأثناء، تتزايد التساؤلات حول الهيمنة الاقتصادية الأمريكية في ظل استمرار الصعود الصيني.


«عراف أوماها»


من الصعب أن تجد ندًا لوارين بافيت يحظى مثله بالاحترام العظيم في عالم الأعمال والاستثمار. بافيت الذي وُلد في مدينة أوماها في ولاية نبراسكا عام 1930، أظهر في صباه علامات نبوغ مبكرة في ما يتعلق بالأرقام والاستثمار، يكفي أن نعلم أنه اشترى أول سهم له بعمر الحادية عشرة.


فلسفته الاستثمارية القائمة على شراء شركاتٍ مستهان بقدرتها، أو مُقوّمة بأقل من قيمتها الحقيقية لكنها في الوقت ذاته قوية الأسس، أكسبته لاحقًا لقب عراف أوماها، لقدرته الخارقة على توقع اتجاهات السوق وتحديد الاستثمارات الرابحة قبل سنوات من غيره.


استثمار القيمة


يمكن القول أن مبادئ فلسفة بافيت الاستثمارية انبثقت عن أسس علمية، فنهجه الاستثماري مستلهم من فكر الاستثمار القيمي للاقتصادي الأمريكي البريطاني المولد بنجامين غراهام. فكان يفضّل في استثماراته الشركات ذات المزايا الدائمة وعروض القيمة الواضحة. من بين استثماراته الرئيسية شركة التأمين GEICO، وشركة السكك الحديدية BNSF، و شركة BYD الصينية لتصنيع السيارات الكهربائية.


حرص بافيت على تجنب ما يُسمى بفقاعات المضاربة -مثل فقاعة الدوت كوم في أواخر التسعينيات، وفقاعة العملات المشفرة في الآونة الأخيرة- وحثّ المستثمرين على الصبر طويل الأمد. وكتب في رسالته الشهيرة إلى المساهمين عام 1988: «عندما نمتلك أجزاء من شركات متميزة بإدارات متميزة، فإن فترة الاحتفاظ المفضلة لدينا هي إلى الأبد».


ساعدت إرشادات بافيت شركة بيركشاير على الوقوف بثبات في وجه فترات الازدهار والركود الاقتصادي المختلفة. وعلى مدار ستة عقود من قيادته، حققت الشركة عوائد سنوية مركبة مبهرة بلغت نحو 20%، أي ما يعادل ضعف عوائد مؤشر ستاندرد آند بورز 500 تقريبًا.

إلى جانب كونه ثعلبًا في التجارة والاستثمار، كان لبافيت أيضًا مساهمات عديدة في المجال خيري والإنساني، فقد دافع بافيت عن ممارسات الأعمال الأخلاقية وتعهد بالتبرع بأكثر من 99% من ثروته في مبادرة التعهد بالعطاء، التي شارك في تأسيسها مع بيل جيتس وميليندا فرينش جيتس.


التحديات التي تواجه إستراتيجية بافيت في عالم اليوم


في مقال بصحيفة نيويورك تايمز عام 2008، شارك بافيت المبدأ الشهير الذي يوجه قراراته الاستثمارية: «كن حريصًا حين يكون الآخرون جشعين، وكن جشعًا حين يكون الآخرون حريصين».


الجدير بالذكر أن إستراتيجيته ازدهرت في عصر تزايد العولمة وعصر التجارة الحرة وعصر الهيمنة الاقتصادية الأمريكية. العالم بأسره تغير منذ ذروة مجد بافيت.


لكن هناك مخاوف بشأن ضعف أداء استثمارات القيمة مؤخرًا. حاليًا، تهيمن شركات التكنولوجيا على القطاعات الصناعية القديمة. ما يطرح الشكوك حول قدرة من يخلفون بافيت على رصد أبرز الشركات التي ستُحدث ثورة في هذه الصناعات، ومن ثم استمرارهم في السير على مبدأ استثمار القيمة.


«أمريكا أولًا»


تُنذر عودة ترامب رئيسًا للولايات المتحدة بحصول تغييرات جذرية في السياسة الاقتصادية الأمريكية، فقد تُلحق القيود التجارية الضرر ببعض استثمارات شركة بيركشاير العابرة للقارات. لكنها مع ذلك سلاح ذا حدين، فقد تُفيد هذه السياسات نفسها استثمارات بافيت المُركزة في الداخل الأمريكي.


من ناحية أخرى، أسلفنا القول أن شركة بافيت ازدهرت في عصر التفوق الأمريكي، وهو يواجه تساؤلات عديدة تهدد استمرار هذا العصر. فمن المرجع أن يتفوق الاقتصاد الصيني على نظيره الأمريكي في ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين. وانخفضت حصة الولايات المتحدة من الناتج الاقتصادي العالمي من 22% عام 1980 إلى 15% اليوم.


هذا يضع مبدأ بافيت «لا تراهن أبدًا ضد أمريكا» في موضع الشك.


تحديات خليفة بافيت


إن مهمة أبل -خليفة بافيت- في إدارة شركة يقدر رأس مالها بنحو 348 مليار دولار أمريكي نقدًا لن تكون أمرًا هينًا. هذا مبلغ كبير من رأس المال يتطلب استثماره بحكمة، في ظل حالة عدم الاستقرار الاقتصادي العالمي وحرب التعريفات الجمركية التي يخوضها ترامب. من المتوقع أن يحافظ أبل على القيم الأساسية لشركة بيركشاير مع تحديث أساليب عملها بحكمة. ومن بين التحديات التي من المتوقع أن يواجهها :


●     الحفاظ على قيمة بافيت الذاتية: يفتقر أبل كأي رجل أعمال آخر إلى المكانة البارزة التي يتمتع بها بافيت شخصيًا لدى المستثمرين، ما قد يؤدي إلى تآكل تدريجي في القيمة الإضافية التي يمنحها السوق لشركة بيركشاير بفضل قيادة بافيت. من دون سمعة بافيت قد يواجه أبل ضغوطًا متزايدة لنشر كمية النقد الضخمة التي تمتلكها بيركشاير بفعالية في سوق الأسهم التي لا تزال باهظة الثمن، حيث التقييمات مرتفعة وإيجاد الصفقات أصبح أصعب من أي وقت مضى.


●     التكيف التكنولوجي: في حين زادت بيركشاير من استثماراتها في التكنولوجيا على مر السنين -متضمنةً أسهمها في أبل وأمازون- فإن موازنة مقتنياتها القديمة -مثل كوكاكولا والسكك الحديدية- مع قطاعات النمو -الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة- ما زال يشكل تحديًا.


●     المخاوف البيئية: إن الاعتماد الكبير الذي تتبعه شركة بيركشاير هاثاواي على محطات الطاقة التي تعمل بالفحم والغاز، أثار انتقادات متزايدة، إذ يطالب المستثمرون والجهات التنظيمية باتباع حلول طاقة نظيفة تهتم بالمسألة البيئية.


●     تقليد براعة بافيت: لم تقتصر عبقرية بافيت على اختيار الأسهم فقط، بل شملت أيضًا إدارة رأس المال، وإبرام الصفقات، وإدارة الأزمات -مثل استثماره في بنك جولدمان ساكس خلال الأزمة المالية العالمية- فهل يستطيع غريغ أبل أن يكرر هذا النجاح؟


ما بعد بافيت


مبادئ بافيت الكثيرة مثل الصبر والقيمة الحقيقية للاستثمار والاعتماد على الاقتصاد الأمريكي إلخ، خالدة ومؤثرة. لكن العالم لم يعد كما كان، وسيواجه خليفته تحديات كبيرة، منها المخاطر الجيوسياسية والتحولات التكنولوجية السريعة، وانتشار الاستثمار السلبي، مع ضرورة الحفاظ على الثقافة الفريدة لشركة بيركشاير.


لا يقتصر عصر ما بعد بافيت على مجرد تغيير في القيادة فحسب، بل هو اختبار لقدرة مبادئ بافيت على البقاء في عالم جديد كليًا، عالم يتسم بالتركيز على المكاسب قصيرة الأجل والتكنولوجيا المتطورة والتعقيد الجيوسياسي.


وعليه، ستكشف قيادة غريغ أبل إما القوة الدائمة وإما أوجه الضعف في فلسفة بافيت.

 


 

 

 



المصادر:


الكاتب

محمد ياسر الجزماتي

محمد ياسر الجزماتي
تدقيق

أكرم محي الدين

أكرم محي الدين



مقالات مختارة

إقرأ المزيد

لا يوجد مقالات مرتبطة