لماذا يتجنب الأشخاص العقلانيون التطعيم رغم ثقتهم بالعلم؟

13 أكتوبر 2025
19 مشاهدة
0 اعجاب

لماذا يتجنب الأشخاص العقلانيون التطعيم رغم ثقتهم بالعلم؟


عندما تحدث تفشيات لأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات مثل الحصبة رغم توفر لقاحات عالية الفعالية، من السهل استنتاج أن الآباء الذين لا يلقحون أطفالهم إما مضللون أو أنانيون أو وقعوا ضحية لمعلومات خاطئة. بينما يرى أساتذة متخصصون في سياسات اللقاحات والاقتصاد الصحي، أن قرار عدم التطعيم لا يتعلق ببساطة بـالمعلومات الخاطئة أو التردد.


من وجهة نظرهم، فإنه يشمل نظرية الألعاب، وهي إطار رياضي يساعد في تفسير كيف يمكن لأشخاص عقلانيين اتخاذ خيارات تؤدي جماعيًا إلى نتائج تعرضهم للخطر. تكشف نظرية الألعاب أن التردد في التطعيم ليس فشلًا أخلاقيًا، بل ببساطة نتيجة متوقعة لنظام لا تتوافق فيه الحوافز الفردية والجماعية توافقًا صحيحًا.


نظرية الألعاب واللقاحات:


تدرس نظرية الألعاب كيف يتخذ الناس قرارات عندما تعتمد نتائجهم على ما يختاره الآخرون. في أبحاثه حول هذا الموضوع، أظهر عالم الرياضيات الحائز على جائزة نوبل جون ناش أنه في العديد من المواقف، لا تخلق الخيارات العقلانية الفردية تلقائيًا أفضل نتيجة للجميع.


تشرح قرارات التطعيم هذا المبدأ تمامًا. عندما يقرر أحد الوالدين تطعيم طفله ضد الحصبة مثلًا، فإنه يوازن بين المخاطر الضئيلة للآثار الجانبية للقاح ومخاطر المرض نفسه. لكن هنا تكمن الفكرة الحاسمة: يعتمد خطر المرض على ما يقرره الآباء الآخرون.


إذا قام الجميع تقريبًا بالتطعيم، فإن مناعة القطيع -أي تطعيم عدد كاف من الناس- ستوقف انتشار المرض. ولكن فور تحقيق مناعة القطيع، قد يقرر بعض الآباء أن عدم التطعيم هو الخيار الأقل خطورة لأطفالهم.


هذا يجعل قرارات التطعيم مختلفة جوهريًا عن معظم القرارات الصحية الأخرى. عندما تقرر تناول دواء لارتفاع ضغط الدم، تعتمد نتيجتك على اختيارك فقط. لكن مع اللقاحات، الجميع مترابطون.


تجلى هذا الترابط بوضوح في تكساس، حيث نشأ أكبر تفش للحصبة في الولايات المتحدة منذ عقد. عندما انخفضت معدلات التطعيم في بعض المجتمعات، عاد المرض الذي أُعلن عن القضاء عليه سابقًا في الولايات المتحدة.


انخفض معدل التطعيم في إحدى المقاطعات من 96% إلى 81% في خمس سنوات فقط. مع الأخذ في الاعتبار أنه يجب تطعيم 95% من أفراد المجتمع لتحقيق مناعة القطيع، أدى هذا الانخفاض إلى تهيئة الظروف المثالية للتفشي .


هذا ليس صدفة، بل هو تطبيق عملي لنظرية الألعاب. عندما تكون معدلات التطعيم مرتفعة، يبدو عدم التطعيم خيارًا عقلانيًا لكل أسرة على حدة، لكن عندما يتخذ عدد كافٍ من الأسر هذا القرار، تنهار الحماية الجماعية.


مشكلة الراكب الحر:


تخلق هذه الديناميكية ما يسميه الاقتصاديون مشكلة الراكب الحر. عندما تكون معدلات التطعيم مرتفعة، قد يستفيد الفرد من مناعة القطيع دون تحمل حتى أدنى مخاطر اللقاح.


تتنبأ نظرية الألعاب بشيء مدهش: حتى مع وجود لقاح مثالي افتراضي -فعالية كاملة دون أي آثار جانبية- لن تحقق برامج التطعيم الطوعية تغطية بنسبة 100%. فور وصول التغطية لمستوى عالٍ كفاية، سيختار بعض الأفراد العقلانيين أن يكونوا راكبين أحرارًا، مستفيدين من مناعة القطيع التي يوفرها الآخرون.


وعندما تنخفض المعدلات كما حدث بشكل كبير خلال السنوات الخمس الماضية، تتوقع نماذج الأمراض بالضبط ما نراه الآن: عودة التفشيات.


تكشف نظرية الألعاب أيضًا عن نمط آخر: بالنسبة للأمراض شديدة العدوى، تميل معدلات التطعيم إلى الانخفاض بسرعة بعد ظهور مخاوف تتعلق بالسلامة، بينما يكون التعافي أبطأ بكثير.


هذه أيضًا خاصية رياضية للنظام لأن الانخفاض والتعافي لهما هياكل حوافز مختلفة. عندما تظهر مخاوف تتعلق بالسلامة، يتوقف العديد من الآباء عن التطعيم في الوقت ذاته، ما يسبب انخفاض معدلات التطعيم بسرعة.


لكن التعافي أبطأ لأنه يتطلب استعادة الثقة والتغلب على مشكلة الراكب الحر حيث ينتظر كل أب حتى يلقح الآخرون أولًا. يمكن للتغيرات الطفيفة في التصورات أن تسبب تحولات كبيرة في السلوك.


تؤثر التغطية الإعلامية والشبكات الاجتماعية والرسائل الصحية كلها في هذه التصورات، ما قد يدفع المجتمعات نحو أو بعيدًا عن هذه العتبات الحرجة.


تتنبأ الرياضيات أيضًا بكيفية تجمع قرارات التطعيم. عندما يلاحظ الآباء اختيارات الآخرين، تتطور معايير محلية، لذا كلما زاد عدد الآباء الذين يتخطون اللقاح في مجتمع ما، زاد احتمال أن يحذو الآخرون حذوهم.


قد يعكس متوسط معدل التطعيم البالغ 95% على مستوى الولاية أو الدولة تغطية موحدة تمنع التفشيات. أو قد يعني وجود بعض المناطق ذات التغطية القريبة من 100% وأخرى ذات معدلات منخفضة خطيرة أن تتيح تفشيات محلية.


ليس فشلًا أخلاقيًا:


كل هذا يعني أن الانخفاض الكبير في معدلات التطعيم تتوقعه نظرية الألعاب، ومن ثم فهو يعكس هشاشة النظام أكثر من كونه فشلًا أخلاقيًا للأفراد.


أيضًا فإن إلقاء اللوم على الآباء لاتخاذ خيارات أنانية قد يعطي نتائج عكسية من خلال جعلهم أكثر دفاعية وأقل استعدادًا لإعادة النظر في آرائهم.


سيكون من المفيد أكثر اتباع أساليب تعترف بـالتناقض بين المصالح الفردية والجماعية وتتعاون مع -بدلًا من معارضة- الحسابات العقلانية التي توجه كيفية اتخاذ الناس للقرارات في الأنظمة المترابطة.


تظهر الأبحاث أن المجتمعات التي تواجه تفشيات تستجيب بشكل مختلف للرسائل التي تصور التطعيم مشكلةً مجتمعية مقابل الرسائل التي توحي بفشل أخلاقي.


في دراسة أجريت عام 2021 على مجتمع يعاني انخفاض معدلات التطعيم، جعلت الأساليب التي اعترفت بقلق الآباء الحقيقي مع تأكيد الحاجة إلى الحماية المجتمعية الآباء أكثر استعدادًا بنسبة 24% للنظر في التطعيم، بينما قللت الأساليب التي ركزت على المسؤولية الشخصية أو توحي بالأنانية من استعدادهم للنظر فيه.


هذا يؤكد ما تتنبأ به نظرية الألعاب: عندما يشعر الناس أن عملية اتخاذ قراراتهم تتعرض لهجوم أخلاقي، فإنهم غالبًا ما يصبحون أكثر تشبثًا بمواقفهم بدلًا من الانفتاح على التغيير.


إستراتيجيات اتصال أفضل:


إن فهم كيفية موازنة الناس لمخاطر وفوائد اللقاحات يشير إلى أساليب اتصال أفضل. مثلًا، قد يساعد نقل المخاطر بوضوح: معدل الوفاة من الحصبة 1 من كل 500 يفوق بكثير الآثار الجانبية الخطيرة النادرة جدًا للقاح.


قد يبدو هذا واضحًا، لكنه غالبًا ما يكون غائبًا عن النقاش العام. أيضًا، تحتاج المجتمعات المختلفة إلى أساليب مختلفة. تحتاج المناطق ذات معدلات التطعيم المرتفعة للمساعدة في الحفاظ على مسارها، بينما تحتاج المناطق ذات المعدلات المنخفضة إلى استعادة الثقة.


يعد الثبات مهمًا للغاية. تظهر الأبحاث أنه عندما يقدم الخبراء الصحيون معلومات متضاربة أو يغيرون رسالتهم، يصبح الناس أكثر شكًا ويقررون تأجيل التطعيم. أيضًا فإن تكتيكات التخويف المبالغ فيها حول المرض قد تأتي بنتائج عكسية إذ يدفع الناس نحو مواقف متطرفة.


قد يساعد جعل قرارات التطعيم مرئية داخل المجتمعات من خلال المناقشات المجتمعية وإعداد التقارير على مستوى المدارس في إرساء معايير اجتماعية إيجابية.


عندما يفهم الآباء أن التطعيم يحمي أفراد المجتمع الضعفاء، مثل الرضع الذين هم أصغر من أن يتلقوا التطعيم، أو الأشخاص الذين يعانون حالات طبية، فإن ذلك يسد الفجوة بين المصالح الفردية والجماعية.


ختامًا، يظل مقدمو الرعاية الصحية المصدر الأكثر ثقة لمعلومات اللقاحات. عندما يفهم مقدمو الرعاية الصحية ديناميكيات نظرية الألعاب، يمكنهم معالجة مخاوف الآباء بفعالية، مع إدراك أن التردد بالنسبة لمعظم الناس ينبع من تقييم المخاطر وليس معارضة اللقاحات قطعيًا.

 

 




المصادر:


الكاتب

مايا نور الدين

مايا نور الدين
تدقيق

زين حيدر

زين حيدر



مقالات مختارة

إقرأ المزيد

لا يوجد مقالات مرتبطة