ميكانيكا الكم هي فرع مختص بالجسيمات متناهية الصغر مثل الإلكترونات وفوتونات الضوء وينتج عنه استنتاجات يمكن وصفها بالغرابة المطلقة فيما يتعلق بالعالم المادي. يمكن عزو هذه الغرابة إلى أن العديد من معادلات الميكانيكا التقليدية التي تصف حركة وسرعة الأجسام تفشل على مستوى الذرات والإلكترونات. في عالم الميكانيكا التقليدية تتواجد الأشياء في مكان محدد في وقت محدد، أما في عالم ميكانيكا الكم، هناك فضاء من الاحتمالات لمكان تواجد شئ ما في وقت ما؛ إذ هناك احتمالية أن يتواجد الشيء عند نقطة «أ»، واحتمالية أخرى أن يتواجد عند نقطة «ب»، وهكذا.

ثلاثة مبادئ ثورية

تطورت ميكانيكا الكم عبر عقود من الزمن، كانت البداية عبر مجموعة من الشروحات الرياضية المثيرة للجدل لتجارب عجزت رياضيات الميكانيكا التقليدية عن شرحها وذلك في بدايات القرن العشرين متزامنة مع ظهور النظرية النسبية الشهيرة لآينشتاين، التي بدورها تعتبر ثورة رياضية في الفيزياء التي تشرح حركة الأشياء عند سرعات عالية.

بخلاف النسبية، لا يمكن نسبة ميكانيكا الكم إلى عالم واحد، فقد ساهم العديد من العلماء في صياغة وتأسيس ثلاث مبادئ ثورية اكتسبت قبولًا وتحققًا تجريبيًا بشكل تدريجي في الفترة ما بين 1900 و1930 وهي:

الخصائص الكمية: بعض الخصائص مثل الموضع، السرعة واللون، يمكن أن تحدث أحيانًا فقط بكميات محددة، تمامًا مثلما تنقر على رقم معين على قرص الهاتف ثم رقم آخر ثم ثالث وهكذا.

شكلت هذه الظاهرة تحديًا لفرضية أساسية في الميكانيكا التقليدية، التي تنص على أن مثل هذه الخصائص يجب أن تتواجد بشكل طيفي مستمر وسلس. صاغ العلماء مصطلح «كمي» لوصف فكرة بزوغ بعض الخصائص كما لو كانت نقرة على قرص هاتف بمواصفات معينة.

جزيئات الضوء: يتصرف الضوء أحيانًا كجسيم، قوبلت هذه العبارة في البداية بنقد عنيف لمناقضتها لتجارب عمرها مئتا عام كانت تبين أن الضوء يتصرف كموجة، كما الموجات على سطح بحيرة هادئة.

يتصرف الضوء بشكل مشابه إذ يرتد من الجدران وينحني حول الأركان، كما أن القمم والقيعان للموجات يمكن أن تتراكب أو تتلاشى. ينتج عن الموجات المتراكبة ضوء أكثر سطوعًا، بينما الموجات التي تلاشي بعضها ينتج عنها الظلام.

يمكن التفكير في مصدر الضوء ككرة على عصا يتم غمسها بشكل إيقاعي في منتصف بحيرة وتحدد المسافة بين قمم الموجات اللون الناتج، وهذه المسافة ناتجة من سرعة إيقاع الكرة.

موجات المادة: تتصرف المادة أحيانًا كموجة في تناقض صارخ لنتائج التجارب التي استمرت قرابة الثلاثين عامًا والتي توضح أن المادة (مثل الإلكترونات) تتواجد كجسيمات.

الخصائص الكمية؟

في العام 1900، سعى العالم الألماني ماكس بلانك لشرح توزع الألوان المنبعثة عبر الطيف في وهج الأجسام الحمراء-الساخنة والبيضاء-الساخنة، مثل أشعة مصابيح الإضاءة.

عندما أعمل بلانك حسه الفيزيائي في المعادلة التي اشتقها لوصف هذا التوزيع، أدرك أنها تفترض ضمنًا أن فقط بعض التراكيب من الألوان -وإن كان عددًا كبيرًا منهم- انبعثت، خاصة تلك التي كانت مضاعفات عدد صحيح لبعض القيم الأساسية.

بطريقة ما، تمت عملية كمومية للألوان، وكان هذا غير متوقع لأن الضوء كان من المفهوم أن يتصرف كموجة، ما يعني أن قيم الألوان يجب أن تكون طيفًا مستمرًا.

ما الذي يمكن أن يمنع الذرات من إنتاج الألوان بين مضاعفات الأعداد الصحيحة؟ بدا هذا التصرف غاية في الغرابة لدرجة أن بلانك اعتبر أن ميكانيكا الكم ليست أكثر من خدعة رياضية.

وفقًا لهيلغ كراج (Helge Kragh) في مقالته رقم 2000 في مجلة (Physics World): «ماكس بلانك، الثوري المقاوم»، «إذا قد حدثت ثورة في الفيزياء في عام 1900، لم يبد أن أحدًا لاحظها، وماكس لم يكن استثناءً».

احتوت معادلة بلانك على رقم سيكون لاحقًا مهما جدًا للتطور المستقبلي لميكانيكا؛ وهو ما يعرف اليوم بـ«ثابت بلانك».

ساعدت ميكانيكا الكم على شرح وتفسير العديد من ألغاز الفيزياء. في عام 1907، استعمل آينشتاين فرضيات بلانك عن الكمومية لشرح تغير درجات حرارة الجوامد بمقادير مختلفة إذا تعرضت المادة لنفس كمية الحرارة لكن باختلاف درجة الحرارة الابتدائية.

منذ بدايات القرن التاسع عشر، أظهر علم التحليل الطيفي أن عناصر مختلفة تنبعث وتمتص ألوانًا معينة من الضوء تسمى «الخطوط الطيفية».

على الرغم من أن التحليل الطيفي كان طريقة معتمدة لتحديد العناصر الموجودة في أجرام مثل النجوم البعيدة، إلا أن العلماء كانوا في حيرة من أمرهم لماذا يقوم كل عنصر من هذه العناصر بإصدار هذه الخطوط المحددة في المقام الأول.

في عام 1888، اشتق يوهانس ريدبرج (Johannes Rydberg) معادلة تصف الخطوط الطيفية المنبعثة من الهيدروجين، بالرغم من أن أحدًا لم يستطع أن يشرح لماذا صلحت المعادلة.

تغير هذا في العام 1930 عندما طبق نيلز بور (Niels Bohr) فرضيات بلانك للكمومية على نموذج آرنست راذرفورد للذرة، الذي نص على أن الإلكترونات تدور حول النواة بنفس الطريقة التي تدور بها الكواكب حول الشمس.

طبقًا للموقع التابع لجامعة كولورادو (Physics 2000)، اقترح بور أن الإلكترونات مقيدة «بمدارات» حول نواة الذرات.

مع ذلك، يمكن أن تقفز الإلكترونات ما بين مدارات محددة، وتسبب هذه القفزات انبعاثًا للطاقة يسبب ألوانًا معينة من الضوء، يمكن ملاحظتها كخطوط طيفية.

على الرغم من أن الخصائص الكمومية ظهرت كحيلة رياضية صرفة، إلا أنها شرحت الكثير لدرجة أنها أصبحت الركن الرئيسي لميكانيكا الكم.

جسيمات الضوء؟

في العام 1905، نشر آينشتاين ورقة بخصوص «وجهة نظر استرشادية بشأن انبعاث وتحول الضوء»، فيها تصور آينشتاين أن الضوء لا ينتقل كموجة، لكن كنوع من «كمات الطاقة».

اقترح آينشتاين أن هذه الحزمة من الطاقة يمكن «امتصاصها أو توليدها فقط ككل»، تحديدًا عندما «تقفز» ذرة ما بين معدلات اهتزازية كمية.

يعني هذا أيضًا أن، كما سيتضح بعد عدة سنوات، الإلكترون «يقفز» ما بين مدارات كمومية.

في ضوء هذا النموذج، احتوت «كمات الطاقة» فرق الطاقة الناتج من «القفزات»؛ عندما يتم قسمتها على ثابث بلانك، هذا الفرق يحدد لون الضوء المنقول بواسطة هذه الكمات.

بهذه الطريقة الجديدة لتصور الضوء، قدم آينشتاين رؤى جديدة حول سلوك تسع ظواهر مختلفة، بما فيها الألوان المحددة التي وصفها بلانك والمنبعثة من خيوط المصباح.

كما شرحت ميكانيكا الكم أيضًا كيف يمكن لألوان محددة من الضوء أن تفصل إلكترونات من أسطح معدنية، ظاهرة تعرف بالتأثير الكهرومغناطيسي.

مع ذلك، وفقًا لستيفن كلاسن (Stephen Klassen)، أستاذ الفيزياء المساعد بجامعة وينبيغ، لم يكن آينشتاين مفهومًا تمامًا في تصوره ذاك، ففي ورقة له نُشرت عام 2008 بعنوان «ظاهرة التأثير الكهروضوئي: إعادة النظر في القصة لفصل الفيزياء»، نص كلاسن على أن كمات الطاقة لآينشتاين ليست ضرورية لشرح الظواهر التسع.

ما يزال بمقدور بعض المعالجات الرياضية للضوء كموجة وصف كلٍ من الألوان المحددة التي وصفها بلانك والمنبعثة من خيوط المصباح وكذلك ظاهرة التأثير الكهروضوئي.

بالفعل، عندما منح آينشتاين جائزة نوبل في العام 1921 المثيرة للجدل، اعترفت لجنة الجائزة باكتشافه لقانون التأثير الكهروضوئي، والذي لم يعتمد على فكرة كمات الطاقة.

بالكاد بعد عقدين من ورقة آينشتاين، انتشر مصطلح «الفوتون» لوصف كمات الطاقة، والفضل في ذلك يعود إلى عمل آرثر كومبتون (Arthur Compton) في عام 1923، الذي بين أن الضوء المشتت بواسطة شعاع إلكتروني تغير لونه.

بيّن هذا أن جسيمات الضوء (الفوتونات) كانت تتصادم مع جسيمات المادة (الإلكترونات)، وبهذا تتأكد فرضية آينشتاين. الآن، يتضح أن الضوء يمكن أن يتصرف كموجة وكجسيم، واضعًا «ازدواجية الموجة-الجسيم» كأساس لميكانيكا الكم.

موجات المادة؟

منذ اكتشاف الإلكترون في عام 1896، ساد الاعتقاد بأن كل المواد تتواجد في صورة جسيمات. مع ذلك، ازدواجية تصرف الضوء كـ«موجة-جسيم» جعلت العلماء يتساءلون عما إذا كانت المادة تتصرف فقط كجسيمات.

ربما كانت ازدواجية الموجة-الجسيم تنطبق أيضًا على المادة؟

كان الفيزيائي الفرنسي لويس دي بروجلي (Louis de Broglie) أول عالم يحقق تقدمًا ملموسًا في هذا الشأن.

في 1924، استعمل دي بروجلي معادلات آينشتاين للنسبية الخاصة لإظهار أن الجسيمات يمكن أن تظهر بعض الخصائص الموجية، بالإضافة إلى خصائصها الجسيمية.

في العام التالي، طبق عالمان -يعملان بشكل منفصل ويستخدمان طرقًا مختلفة من التفكير الرياضي- استنتاج دي بروجلي لشرح كيفية قفز الإلكترونات داخل الذرات وهي ظاهرة لم يكن من الممكن تفسيرها باستعمال الميكانيكا التقليدية.

في ألمانيا، قام الفيزيائي وارنر هايزنبرج (Werner Heisenberg) بالشراكة مع ماكس بورن (Max Born) وباسكال جوردان (Pascual Jordan) بتحقيق ذلك باستعمال «ميكانيكا المصفوفات».

طور الفيزيائي النمساوي إروين شرودنجر نظرية مماثلة تسمى «ميكانيكا الأمواج» وأظهر في عام 1926 أن هذين النهجين كانا متكافئين، على الرغم من أن الفيزيائي السويسري وولفجانج باولي أرسل نتيجة غير منشورة لجوردان تبين أن ميكانيكا المصفوفات كانت أكثر اكتمالا.

حل نموذج هاييزنبرج-شرودنجر للذرة -الذي يتصرف فيه الإلكترون حول نوى الذرات كموجة (أحيانًا يشار إليه بـ«سحابة»)- محل نموذج راذرفورد.

كانت إحدى اشتراطات النموذج الجديد أن نهايات الموجة التي تشكل الإلكترون لابد أن تتقابل.

كتب ميلفين حنا (Melvin Hanna) في كتاب (Quantum Mechanics in Chemistry) الطبعة الثالثة في عام 1981: «إن فرض الشروط الحدية قيد الطاقة بقيم منفصلة». نتيجة لهذا الشرط، يسمح فقط بالأعداد الصحيحة من القمم والقيعان، وذلك يفسر كمومية بعض الخصائص.

تتبع الإلكترونات في نموذج هايزنبرج-شرودنجر «دالة موجية» وتشغل مدارات ذرية بدلًا من المدارات الدائرية والفرق بينهما أن المدارات الذرية تختلف عن تلك الدائرية في نموذج راذرفورد-بور بأنها تتخذ عدة أشكال منها الكروية وشكل الدمبل وشكل زهرة الأقحوان. انظر الرابط.

في عام 1927، طوّر كل من والتر هيتلر وفريتز (Walter Heitler and Fritz) في لندن ميكانيكا الموجات لإظهار كيف يمكن للمدارات الذرية أن تتحد لتشكل مدارات جزيئية، والتي تبين بشكل فعال سبب ارتباط الذرات ببعضها البعض لتكوين جزيئات. كانت هذه مشكلة أخرى غير قابلة للحل باستخدام رياضيات الميكانيكا الكلاسيكية وأدت هذه الأفكار إلى ظهور مجال «كيمياء الكم».

مبدأ الريبة

أيضًا في عام 1927، قدم هايزنبرج مساهمة كبيرة أخرى في ميكانيكا الكم. لقد اعتقد أنه نظرًا لأن المادة تعمل كموجات، فإن بعض الخصائص -مثل موضع الإلكترون وسرعته- «متكاملة» وهذا يعني أن هناك حدًا يتعلق بثبات بلانك لمدى الصحة التي يمكن إيجاد دقة كل خاصية بها.

في ظل ما سيطلق عليه «مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج»، كان من المنطقي أنه كلما كان زادت القدرة على تحديد موقع الإلكترون بدقة، كلما قلت القدرة على تحديد سرعته بدقة، والعكس صحيح.

ينطبق هذا المبدأ على الأشياء التي نراها كل يوم أيضًا، ولكنه غير ملاحظ نظرًا لأن غياب الدقة ضئيل للغاية. وفقًا لما قاله ديف سلافن (Dave Slaven) من كلية مورنينغ سايد في مدينة سيوكس في ولاية آيوا، إذا كانت سرعة كرة البيسبول معروفة بدقة 0.1 ميل في الساعة، فإن الدقة القصوى التي يمكن من خلالها معرفة موضع الكرة هي 0.0000000000000000000000000000000008000 ملليمتر.

ماذا بعد؟

شكلت مبادئ ميكانيكا الكم والطبيعة المزدوجة ومبدأ الريبة بشائر عصر جديد لميكانيكا الكم.

في عام 1927، طبق بول ديراك (Paul Dirac) فهمًا كموميًا للمجالات الكهربية والمغناطيسية ليعطي دفعة لدراسة «نظرية المجال الكمي»، والذي اعتبر الجسيمات -مثل الفوتونات والإلكترونات- كحالات مستثارة للمجال الفيزيائي.

استمر العمل في نظرية المجال الكمومي لعقد من الزمان حتى اصطدم العلماء بحجر عثرة؛ فتوقفت العديد من المعادلات في نظرية المجال الكمي عن إعطاء نتائج منطقية نظرًا لأن نواتجها كانت اللا نهاية.

بعد قرن من الجمود، باستعمال طريقة تسمى (إعادة التوفيق – renormalization)، أحدث هانز بيث (Hans Bethe) ثورة في عام 1947.

أدرك بيث أن كل نتائج اللا نهايات مرتبطة بظاهرتين، تحديدًا «الطاقة الذاتية للإلكترون» و«الاستقطاب الفراغي»، بحيث أن القيم الملاحظة لكتلة الإلكترون وشحنته يمكن استخدامها لجعل كل اللانهايات تختفي.

بعد الثورة التي أحدثتها طريقة إعادة التوفيق، استعملت نظرية المجال الكمي كأساس لتطوير نظريات الكم بشأن القوى الأساسية للطبيعة: القوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة النووية الشديدة، والجاذبية.

كانت أولى تجليات نظرية المجالات الكمومية، هي تفسير كمي للكهرومغناطيسية من خلال «الديناميكا الكهربائية الكمية»، والتي خطت خطوات واسعة في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين.

تلاها تفسير كمي للقوى النووية الضعيفة، والتي وحّدت مع الكهرومغناطيسية لبناء ما يسمى «نظرية الكهربية الضعيفة» خلال الستينيات من نفس القرن.

وختامًا، ظهر تفسير كمي للقوى النووية الشديدة باستعمال «الديناميكا الصبغية الكمية» في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

تشكل الثلاث نظريات السابقة مع بعضها الأساس للنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.

لسوء الحظ، لم يحالف الحظ نظرية المجال الكمي لإنتاج تفسير كمي للجاذبية، إلا أن السعي ما زال مستمرًا اليوم في دراسة نظرية الأوتار ونظرية الجاذبية الكمية الحلقية.

اقرأ أيضًا:

التناظر الفائق.. الطريقة المثالية لدمج ميكانيكا الكم بالجاذبية

تجربة جديدة في ميكانيكا الكم تحطم مبدأ السببية

ترجمة: أحمد جمال

تدقيق: صهيب الأغبري

المصدر