شخصيةٌ واحدةٌ يصعب تفويتها في الفيلم الجديد (أوبنهايمر) هي ألبرت أينشتاين، المعروف بتغييره للنظريات، ذو الشعر الغريب، وعالم الفيزياء النظرية الشهير؛ إذ لا يحتاج أينشتاين إلى تعريف، فهو شخصية معروفة جدًا.

إن ظهور أينشتاين المتواضع في الفيلم ليس مجرد رواية خيالية هوليودية مثل ظهور أرخميدس في أحدث أفلام إنديانا جونز.

على الرغم من عدم تعاون أوبنهايمر وأينشتاين بصورة مباشرة في أي مشاريع أخرى، إلا أن العالمين قد تقاطعت مساراتهما خلال الحياة؛ إذ توجد دلائل قوية تُظهر وجود صداقة قوية نشأت بينهما في آخر أيام أينشتاين في خمسينيات القرن الماضي، إضافة إلى أنهما قد شاركا بعض الأفكار فيما يخص الوحش الذري الذي أدّيا دورًا هامًا في تكوينه.

إن أحدث أفلام كريستوفر نولان يحكي قصة روبرت أوبنهايمر مدير مختبر لوس ألاموس في أثناء الحرب العالمية الثانية، تلك القصة التي غيرت مصير الكرة الأرضية للأبد، والذي أصبح يُعرف بأبو القنبلة الذرية لدوره القيادي في مشروع مانهاتن الذي سعت من خلاله الولايات المتحدة لصنع أول قنبلة ذرية.

لم يشارك أينشتاين بصورة مباشرة في مشروع مانهاتن قط، ولم يكن يشعر بأنه على سجيته عندما يكون في غرفة مؤتمرات مليئة بكبار الشخصيات العسكرية مثلما يشعر عندما يكون أمام سبورته السوداء.

على الرغم من كون معادلته الأيقونية الفريدة (E = mc2) -من بين عدة أشياء أخرى- تفسر سبب الطاقة المنبعثة من القنبلة النووية، فإن علاقته بالفيزياء التي بُنيت عليها القنبلة الذرية يشوبها سوء فهمٍ كبير.

تمكن فريق صغير من الباحثين في ألمانيا عام 1938 من شطر نواة من عنصر اليورانيوم، إذ كشفوا بهذه العملية عن التفاعل النووي الجديد المعروف بالانشطار النووي الذي كان قادرًا على إطلاق كمية لا تصدق من الطاقة.

في خضم هذا الاكتشاف المقلق وقّع أينشتاين على رسالة كتبها الفيزيائي ليو زيلارد عام 1939 حذر فيها من قدرة ألمانيا النازية على تطوير نوع جديد من القنابل شديدة التدمير، إضافة إلى أنه اقترح على الولايات المتحدة بدء برنامجها النووي.

أُرسلت تلك الرسالة إلى الرئيس فرانكلين روزفلت الذي أطلق في النهاية مشروع مانهاتن عام 1942. استنادًا إلى ذلك الحدث، وصفت صحيفة نيويورك تايمز رسالة أينشتاين عام 1939 بأنها القوة التي أطلقت القنبلة الذرية والعصر الذري.

بعد فوات الأوان، بدا جليًا لنا الآن أن الألمان لم يكونوا قريبين حتى من تطوير سلاح نووي قابل للاستعمال، على الرغم من اكتشافهم لعملية الانشطار النووي. في المقابل، فقد أثمرت جهود الولايات المتحدة في بناء القنبلة بقرار مدمر.

عندما سمع أينشتاين نبأ إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، قيل إنه قال: «الويل لي!».

بعد انتهاء الحرب، أعرب أينشتاين عن ندمه لتوقيعه على تلك الرسالة المشؤومة قائلاً: «لو علمت أن الألمان لن ينجحوا في تطوير قنبلة ذرية، لما فعلت شيئًا».

استمر أينشتاين، في سنواته الأخيرة، في إدانة الأسلحة النووية بشدة، لكن قبل أشهر قليلة من وفاته عام 1955، دعاه الفيلسوف البريطاني برتراند راسل للتوقيع على بيان راسل – أينشتاين الذي حذر من التهديد الوجودي الذي تسببه أسلحة الدمار الشامل على البشرية.

وفقًا لما جاء في البيان: «إننا نطالبكم باسم الإنسانية الحفاظ على إنسانيتكم قدر المستطاع وتجاوز أي شيء سواها، فما تزال هناك فرصة لنحظى بحياة جديدة أشبه بالجنة، وإلّا فإن خطر الموت سيحدق بنا آجلًا أم عاجلًا». لا يسعنا إلا تخمين ما تحدث عنه أينشتاين وأوبنهايمر خلال فترة ما بعد الحرب فيما يخص علاقتهما، لكن القلق الشديد من العصر الذري لابد أن يكون آخر ما رغبا في الحديث عنه.

في عام 1966، بعد أحد عشر عامًا من وفاة أينشتاين، ألقى أوبنهايمر محاضرة بعنوان ألبرت أينشتاين في دار اليونسكو في باريس. في العام التالي، نُشرت كلماته في مجلة نيويورك ريفيو؛ إذ استهل خطابه موضحًا معرفته بأينشتاين لمدة عقدين أو ثلاثة عقود، وأنه أصبح صديقًا مقربًا له في العقد الأخير من حياته.

قال أوبنهايمر: «غالبًا ما كان يُلقى باللوم على أينشتاين أو يُثنى عليه أو يُنسب إليه الفضل في اكتشاف تلك القنابل المشؤومة، لكن في رأيي هذا غير صحيح البتة».

وأضاف أوبنهايمر: «أدى أينشتاين دورًا هامًا في خلق ثورة فكرية، وفي اكتشاف مدى فداحة الأخطاء التي ارتُكبت سابقًا أكثر مما فعله أي عالم في عصرنا الحالي. وأعتقد أن الرسالة التي كتبها لروزفلت فيما يخص الطاقة الذرية كانت نتيجة لمعاناته من شر النازيين ورغبته في حماية البشرية من أي ضرر محتمل.

وعلى الرغم من ذلك، لا يمكنني إغفال أن تأثير تلك الرسالة كان ضئيلًا للغاية، وأن أي تبعات لتلك القضية لم تكن على عاتق أينشتاين إطلاقًا، أعتقد أنه في النهاية قد فهم هذا من تلقاء نفسه».

كان أوبنهايمر معروفًا بنظرته المعارضة لما يسمى بالقنابل المشؤومة كما أينشتاين، ففي نوفمبر من عام 1945، بعد ثلاثة أشهر فقط من إلقاء القنبلة على هيروشيما، ما أدى فعليًا إلى إنهاء الحرب العالمية الثانية في المحيط الهادئ، استقال أوبنهايمر من مختبر لوس ألاموس، إذ لم يعتذر صراحة في خطاب الوداع عن صنع القنبلة النووية، بل عدّها جزءاً لا مفر منه من رحلة البشرية لكشف أسرار الكون والعالم الطبيعي.

على الرغم من ذلك، كان أوبنهايمر يعرف حق المعرفة المصير المحتم في حال سقوط الأسلحة النووية في الأيدي الخطأ، وبحسب تقرير لاحق لأوبنهايمر قال: «إذا أُضيفت القنبلة النووية بوصفها سلاحًا جديدًا إلى ترسانات العالم المتحارب، أو إلى ترسانات الدول التي تستعد للحرب، فإنه سيأتي الوقت الذي تلعن فيه البشرية أسماء لوس ألاموس وهيروشيما».

يعد كلًا من أينشتاين وأوبنهايمر عالمان عبقريان يتمتعان بحس عالٍ بالإنسانية؛ إذ إنهما يتشابهان في ذلك مع الشخصيات الموجودة في الرواية الخالدة فرانكشتاين لماري شيلي؛ فقد كانا يدركان تمامًا أن المعرفة التي كشفوها للعالم قادرة على إحداث وحوش فتاكة. لكن بصفتهما رائدين في هذا المجال، هل يتحملان جزءًا من المسؤولية؟ قد يكون لدى المخرج كريستوفر نولان بعض الإجابات.

اقرأ أيضًا:

حياة الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين

أجمل أقوال ألبرت أينشتاين وأشهرها

ترجمة: يوسف الشيخ

تدقيق: ريمي سليمان

المصدر