تعال نكتشف معًا أسباب سقوط إحدى أكبر الإمبراطوريات في التاريخ: الإمبراطورية الرومانية.

1- غزو القبائل البربرية:

أكثر النظريات صراحةً في تفسير انهيار روما الغربية هي القول بسقوطها نتيجة الخسائر العسكرية المتلاحقة أمام القوى الخارجية، إذ اشتبكت روما مع القبائل الجرمانية قرونًا طويلة حتى استطاعت مجاميع بربرية كالقوط عبور حدود الإمبراطورية في القرن الرابع الميلادي.

صحيح أن روما واجهت ثورة جرمانية في أواخر القرن الرابع، لكن عاصمتها كانت قد سقطت -سنة 410 م- بيد الملك القوطي الغربي ألاريك؛ فقضت الإمبراطورية عقودها اللاحقة تحت تهديد دائم قبل أن تُهاجم مجددًا سنة 455 م، وكان المهاجمون هذه المرة هم الفندال، وفي سنة 476 أشعل القائد الجرماني أودواسير ثورة خلع فيها الإمبراطور رومولوس أوغسطيلوس، ومنذئذ لم يستطع إمبراطور روماني أن يحكم من داخل إيطاليا، الأمر الذي جعل الكثيرين يختارون سنة 476 م تاريخًا لموت الإمبراطورية الغربية.

2- المشكلات الاقتصادية والاعتماد المفرط على العبيد

كان الغزاة الأجانب يهاجمون روما، لكنها كانت -في ذات الوقت- تتداعى من الداخل أيضًا بسبب أزمة مالية حادة، فقد كانت الإمبراطورية تدفع الكثير من المال لتغطي تكلفة الحروب المستمرة والمغالاة في الإنفاق حتى استُنفدت خزائنها، وتسبّب لجوؤها إلى فرض الضرائب الظالمة إضافة إلى التضخم في توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

هاجر الكثير من الأغنياء إلى الريف وأسسوا إقطاعيات مستقلة هربًا من الجباة، في حين اهتز وضع الإمبراطورية بسبب نقص العمالة. وقد اعتمدت روما على العبيد في حرث حقولها وأداء المهن الحرفية، وكان جيشها عادةً يخلق تيارًا مستمرًا من هؤلاء بقهره الشعوب الأجنبية واستعباد أبنائها، حتى توقف توسع الإمبراطورية إبان القرن الثاني الميلادي، فتوقف تدفق العبيد إلى روما مثلما بدأت خزائن غنائمها بالنضوب.

وضرب الزمان روما ضربة أخرى في القرن الخامس الميلادي، حين طالب الفندال بشمال أفريقيا وبدؤوا بالتعرض لتجارة الإمبراطورية حين جابوا البحر المتوسط قراصنةً. بدأت قبضة روما التي أمسكت أوروبا سابقًا بالارتخاء إذ انهمكت في مشكلاتها الاقتصادية وتردت أرباح تجارتها وتداعى إنتاجها الزراعي.

الأسباب التي أدت إلى سقوط الحضارة الرومانية - أسباب سقوط إحدى أكبر الإمبراطوريات في التاريخ: الإمبراطورية الرومانية - أسباب سقوط روما

3- نهوض شرق أوروبا

كان مصير روما قد قُدّر -جزئيًا- منذ نهاية القرن الثالث الميلادي حين قسّم الإمبراطور ديوكلتيانوس الإمبراطورية إلى نصفين: غربي مركزه ميلان، وشرقي مركزه بيزنطة، القسطنطينية لاحقًا وإسطنبول حاليًا. سهّل هذا التقسيم من حكم الإمبراطورية على المدى القصير، لكنه جعل القسمين يبتعدان عن بعضهما مع مرور الوقت.

فشل الشرق والغرب في العمل بكفاءة للتصدي للأخطار الخارجية معًا، وقد تنازعا -مرارًا- على الموارد وتشاجرا حول المساعدة العسكرية، فتوسع الانشقاق بينهما وازدادت ثروة القسم الشرقي المتكلم بالإغريقية -غالبًا- بينما عانى القسم الغربي المتكلم باللاتينية -غالبًا- أزمة اقتصادية.

وأهم من ذلك كانت قوة الجزء الشرقي التي دفعت الغزوات البربرية نحو الغرب، إذ حرص أباطرة مثل قسطنطين على تحصين مدينة القسطنطينية وحمايتها، بينما تُركت إيطاليا -وروما التي لم تحمل إلا قيمة رمزية للكثيرين في الشرق- في وضع هش.

تداعى الكيان السياسي الغربي في القرن الخامس لكن القسم الشرقي استطاع الاستمرار -بطريقة أو بأخرى- ألف سنة تالية قبل أن تهزمه الإمبراطورية العثمانية نهائيًا في القرن الخامس عشر الميلادي.

4- الإفراط في التوسع والإنفاق العسكري

امتدت الإمبراطورية الرومانية -إبان سطوتها- من المحيط الأطلسي حتى نهر الفرات، لكن اتساعها ربما كان سبب سقوطها أيضًا، فقد كان حكم هذه المساحات الشاسعة كابوسًا إداريًا ولوجستيًا حتى للرومان بشبكة طرقهم الممتازة، إذ كان من المستحيل عليهم التواصل مع مختلف أنحاء الإمبراطورية بسرعة كافية وفاعلية مناسبة.

كافحت روما لتجهيز قوات وموارد كافية لحماية الحدود من الثورات المحلية والهجمات الخارجية، وبحلول القرن الثاني الميلادي أُجبر الإمبراطور أدريان على بناء سوره الشهير في بريطانيا ليمنع تدفق جحافل الأعداء إلى أراضي دولته. ازدادت نفقات الجيش الإمبراطوري فقلّت سرعة التطورات التكنولوجية وانهارت البنية التحتية المدنية للدولة.

5- الفساد الحكومي والتقلقل السياسي

إذا كان حجم روما الضخم عائقًا أمام حكمها بنجاح، فإن قيادتها الواهنة والمتنافرة لم تفعل سوى تضخيم حجم المشكلة.

كان منصب الإمبراطور الروماني يعرّض صاحبه للخطر دومًا، لكنه أصبح في القرنين الثالث والرابع يُعادل حكم الإعدام تقريبًا، أما الحرب الأهلية فقد جعلت الوضع في الإمبراطورية فوضويًا وتداول الجلوس على العرش عشرون إمبراطورًا في غضون 75 سنة فقط، كان معظمهم يغادر الدنيا مقتولًا.

اغتال الحرس الإمبراطوري -الذي كان حماية الإمبراطور الشخصية- الأباطرة ونصّبهم في الحكم كلما أراد ذلك، وفي إحدى المرات أقام مزادًا ومنح المنصب للرابح في المزاد. لم يقتصر الفساد السياسي على ذلك، بل امتد إلى مجلس الشيوخ الروماني الذي فشل في وقف طوفان الأباطرة المتتالين بسبب استشراء الفساد فيه وانعدام كفاءته.

ازداد الوضع سوءًا وتضاءل شعور الفخر عند الرومان وفقدت طائفة كبيرة من الشعب ثقتها في قيادتها.

6- وصول الهون وهجرة البرابرة

نتجت -جزئيًا- هجمات القبائل البربرية على روما من هجرتها الواسعة التي سببها غزو الهون لأوروبا في نهاية القرن الرابع الميلادي.

اكتسح المحاربون الأوراسيون (الهون) شمال أوروبا فدفعوا كثيرًا من القبائل الجرمانية إلى الحدود الرومانية، وسمح الرومان -منزعجين- لأعضاء قبيلة القوط الغربيين بعبور الحدود جنوب الدانوب إلى أراضي الإمبراطورية الآمنة لكن ذلك لا يعني أنهم لم يعاملوهم بقسوة مفرطة.

يقول المؤرخ أميانوس مارسيلينوس إن المسؤولين الرومان وصلوا في قسوتهم حد إجبارهم القوط المتضورين جوعًا على بيع أطفالهم ليكونوا عبيدًا مقابل إطعامهم لحوم الكلاب. وهكذا خلق الرومان لأنفسهم عدوًا خطيرًا داخل حدود إمبراطوريتهم، فلما بلغ الاضطهاد حدًا يصعب تحمله ثار القوط حتى هزموا الجيش الروماني وقتلوا الإمبراطور الشرقي فالينس في معركة أدريانابول سنة 378 م، أما الرومان المصعوقون فقد فاوضوا لأجل سلام مهلهل مع البرابرة.

لم تكد سنة 410 تحل حتى انحلت الهدنة إذ تحرك الملك القوطي ألاريك غربًا واحتل روما، وبسبب ضعف الإمبراطورية الغربية استطاعت القبائل الجرمانية كالفندال والساكسون عبور الحدود واحتلال بريطانيا وإسبانيا وشمال أفريقيا.

7- المسيحية وفقدان القيم التقليدية

كان انحطاط روما مترافقًا مع انتشار المسيحية، ورأى بعض الدارسين أن صعود الإيمان الجديد ساهم في سقوط الإمبراطورية.

صدر -سنة 313- مرسوم ميلان الذي قنن المسيحية التي ما لبثت أن أصبحت دين الدولة الرسمي سنة 380، وأنهت هذه القرارات اضطهادًا نال المسيحيين قرونًا طوالًا لكنها ربما فتتت نظام القيم التقليدية الروماني أيضًا، إذ حلت المسيحية محل الديانة التعددية الرومانية التي قدست الإمبراطور واهتمت بعظمة الدولة، فلما أتت المسيحية ركزت على عظمة الإله الواحد، وفي نفس الوقت، تدخل البابوات وقادة الكنيسة في شؤون السياسة فأضافوا مزيدًا من التعقيد على الحكم.

أعظم مناصري هذه النظرية هو المؤرخ إدوارد غيبون (القرن 18 م)، أما منتقدوها فكثيرون. وربما ساهم انتشار المسيحية مساهمةً ضئيلة في تقويض الفضيلة المدنية الرومانية، إلا إن معظم الباحثين اليوم يرون أن تأثير ذلك في سقوط الإمبراطورية لا يُقارن بتأثير العوامل العسكرية والاقتصادية والإدارية.

8- إضعاف الجحافل العسكرية الرومانية

حسد العالم القديم روما على جيشها خلال معظم تاريخها، لكن طبيعة جحافلها -التي كانت يومًا مهابة- بدأت بالتغير في فترة انحدار الإمبراطورية، إذ لم يعد باستطاعة الأباطرة -مثل ديوكلتيانوس وقسطنطين- تجنيد الأعداد اللازمة من الجنود من المواطنين الرومان فلجؤوا إلى تجنيد المرتزقة الأجانب لدعم جيوشهم.

أصبحت الرتب العسكرية ممتلئة بالقوط الجرمان والبرابرة الآخرين أخيرًا حتى استعمل الرومان كلمة «بربري» للدلالة على الجندي، في حين أثبت هؤلاء الجنود الجرمان كفاءتهم في القتال مع انعدام ولائهم للإمبراطورية، أما تعطش ضباطهم للسلطة فجعلهم كثيرًا ما ينقلبون على رؤسائهم الرومان.

في الواقع، كان كثير من البرابرة الذين غزوا مدينة روما وأسقطوا الإمبراطورية الغربية جنودًا خدموا في جحافل الجيش الروماني يومًا ما.

اقرأ أيضًا:

انهيار (المايا الكلاسيكية) وأهمية الازدهار البيئي

كل ما تود معرفته عن سقوط القسطنطينية

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: عون حدّاد

المصدر