إن فكرة وجود آلة ذكية أسرت الخيال البشري منذ آلاف السنين، لتكون مساعدًا لا يكل أو جنديًا عظيمًا أو مرافقًا عطوفًا، فمنذ زمن طويل، قبل أن يصبح الذكاء الإصطناعي حقيقة، نسج خيال الكتّاب من اليونان القديمة إلى أمريكا في وقت الحرب الباردة قصصًا تعبّر عن آمالنا ومخاوفنا من الذكاء الإصطناعي. فهل سيساعد الذكاء الاصطناعي البشرية على الوصول إلى أقصى إمكانياتها؟ أم أن هذه الكائنات العبقرية ستتمرد على أسيادها وتتسبب في هلاكنا؟

تقول كانتا ديهال المساهمة في تحرير كتاب (سرديات الذكاء الاصطناعي؛ تاريخ التخيل والتفكير في الذكاء الاصطناعي): «إن سعينا إلى ابتكار الذكاء الاصطناعي أمر قديم وأساسي في تحديد هويتنا البشرية … لذلك لا أتفاجأ عندما أجد حديثًا عن الآلات الذكية يعود إلى الأسطورة الإغريقية حتى».

نورد فيما يلي بعض أقدم تخيلات الجنس البشري للذكاء الاصطناعي

1. (الفتيات الذهبيات) عند هوميروس

كتبت الإلياذة قبل 3000 سنة تقريبًا في عالم لم توجد فيه الكهرباء فضلًا عن الروبوتات أو الحواسيب، ولكن في سنة 800 ق.م، استطاع هوميروس أن يتخيل قوةً مماثلةً للآلهة تستطيع خلق آلات ذكية. فنرى في الإلياذة الإله هيفايستوس صانع المعادن، الذي طُرد من جبل الأولمب لمحاولته حماية أمه خلال قتال مع زيوس. وقد عانى هيفايستوس إصابات حادة في رجله، وتعرض للسخرية من آلهة الأولمب بسبب عرجه. لذا عبّر عن معاناته المثيلة لمعاناة البشر في أعمال فنية جميلة، من ضمنها درع أخيل المهيب. وبسبب محدودية قدرته الجسدية، احتاج هيفايستوس إلى مساعدين في ورشته للتعدين، فكتب هوميروس أن هيفايستوس استعان بقدراته الخاصة لخلق مرافقاتٍ صُنعن من الذهب، تبدون مثل فتيات حقيقيات على قيد الحياة. في هذا المقتطف الوجيز، يصف هوميروس بإسهاب آلات شبيهةً بالبشر مبرمجةً لخدمة صانعها:

«هناك ذكاء في أفئدتهن، ولهن صوت وحيوية، وقد تعلمن براعات من الآلهة الخالدة. وكن دائمًا يكدحن لمساعدة سيدهن».

لا يُفاجئ ديهال أن مساعدات هيفايستوس الذهبيات نساءً، لأن الآلات وبرمجيات الذكاء الاصطناعي التي تخدم البشر لطالما صورت تقليديًا على هيئة أنثى. فمثلاً الروبوت روزي في برنامج الصور المتحركة التلفزيوني (عائلة جيتسون) هو خادمة، وحتى المساعدات الافتراضيات في الواقع مثل سيري وأليكسا سميتا بأسماء أنثوية، وأُعطين (في البداية على الأقل) أصواتًا أنثوية.

2. (ترميناتور) الأصلي

بعد 500 عام من هوميروس، ألّف الكاتب الإغريقي أبولونيوس من جزيرة رودس قصيدة (أرغونوتيكا)، وهي ملحمة تروي مغامرات جيسون ومجموعة أبطال أرغونوت في رحلة بحثهم عن الصوف الذهبي.

عندما اقترب أبطال أرغونوت من جزيرة كريت صدهم عنها عملاق برونزي اسمه تالوس الذي قذف نحو سفينتهم صخورًا ضخمة. وفي بعض الروايات عن أسطورة تالوس، يقال أنه كان آليًا صنعه هيفايستوس لحراسة شواطئ كريت وقتال القراصنة:

تقول ديهال: «إنه الجندي الخارق الذي يضرب به المثل … إنه عملاق هائل مصنوع من البرونز خصيصًا لحماية جزيرة كريت من الغزاة».

لذا تعد الروبوتات السفاحة في أفلام ترميناتور وآلات المعركة في سلسلة (حرب النجوم) الوَرَثة الأصليين لعملاق تالوس.

قبل سنوات قليلة، جرب الجيش الأمريكي هيكلاً خارجيًا آليًا واقيًا من الرصاص سمي تالوس (بدلة المشغل الخفيفة للهجوم التكتيكي) في لفتة لما سمته ديهال (الروبوت القاتل الأصلي).

3. (الأوتوماتا) العربية

في العالم القديم قبل 2000 سنة، بنى الحرفيون والمهندسون مثل هيرون الاسكندري آلات متقنةً تشتغل بالمياه أو الرياح أو الحبال المشدودة. إذ ركب هيرون سلسلةً من الآلات البسيطة ليصنع دميةً ميكانيكيةً تشتغل لعشر دقائق وتصدر عنها مؤثرات صوتية.

بعد سقوط روما، فقدت هذه المهارات الشبيهة بالسحر في الغرب، لكن صناعة آلات الحركة الذاتية ازدهرت في العالم العربي والإسلامي. ففي القرن التاسع، عاش الإخوة بنو موسى؛ وهم ثلاثة مهندسين وصانعي حيل ألمعيين من بغداد، وكتبوا كتاب الحيل (كتاب الأجهزة الذكية) الذي يجمع 100 جهاز، مثل أباريق ذات حيل يتدفق منها ثلاثة أنواع من السوائل (الماء المغلي أحدها)، ونافورات متحركة.

يظهر الولع بالآلات الذكية في العالم الإسلامي القديم في كتاب ألف ليلة وليلة؛ وهو مجموعة من الأساطير في الشرق الأوسط تعود إلى قرون. ففي قصة (مدينة النحاس) يعثر ثلة من الرحالة على فارس ميكانيكي مصنوع كليًا من النحاس، ومن حسن الحظ أن معه تعليمات:

«أيها القادم إلي، إذا كنت لا تعرف الطريق المؤدي إلى مدينة النحاس فاذهب إلى الفارس الذي يمتطي الخيل، واجلب يده إلى يدك، فإذا استدار ثم توقف، فاتجه في أي اتجاه وقف إليه، ولا تخف ولا تعتريك حيرة، فإنه سوف يقودك إلى مدينة النحاس». وعندما نفذ الرحالة تلك التعليمات التي طلبت منهم: «استدار (الفارس) مثل البرق الساطع إلى طريق غير طريقهم التي كانوا يسافرون فيها».

تقول ديهال: «أُعيد الاعتبار لبعض قصص ألف ليلة وليلة، لتندرج تحت ما نسميه اليوم خيالاً علميًا، لأنها توقعت بعض هذه الأفكار».

4. الذكاء الاصطناعي الخارق للطبيعة

نشر الكاتب الألماني إرنست هوفمان قصته القصيرة (رجل الرمال) عام 1816، وفيها يعرض آلة ذكاء اصطناعي واقعيةً ومقنعةً، لدرجة أن من يراها يحسبها إنسانًا. في قصة يقع بطل الرواية في حب ابنة معلمه الخاص، ليكتشف إثر ذلك أنها آلة، ويدفعه إدراك ذلك إلى الانتحار من هول الصدمة.

تقول ديهال أن صناعة الأوتوماتا (الآلات ذاتية الحركة) ازدهرت في القرن السابع عشر والثامن عشر في أوروبا مع ابتكارات رائجة، مثل (الرجل التركي الميكانيكي) وهو آلة مزيفة مشهورة تلعب الشطرنج وقد واجهت نابوليون، أو آلة (البطة ذات الهضم) من صنع جاك فوكانسون، وهي بطة ميكانيكية بإمكانها أكل الحبوب والتغوط.

وجود آلات حقيقية بذلك التطور أدى إلى إنتاج أعمال روائية طرحت السؤال: «ما الذي سيحدث إن تحسن هذا النوع من التكنولوجيا شيئًا فشيئًا لدرجة يصبح من المستحيل التفرقة بين الآلي والحقيقي؟» هنا تأتي قصص مثل رجل الرمال لكي تلج إلى روح العصر.

بعد ذلك بقرن، أشار سيجموند فرويد إلى رجل الرمال في مقالة الخارق للطبيعة التي تتحدث عن شعور وصفه بقوله «كل ما يبعث على الرهبة والرعب المتسلل إلى النفس». وفي علم الروبوتات الحديث، يشير مصطلح (الوادي الخارق للطبيعة) لوصف الإحساس بالارتياب عند التعامل مع نظام ذكاء اصطناعي مشابه جدًا للبشر لكنه ليس مشابهًا بما يكفي، وذلك أمر مرعب.

5. عقدة (فرانكنشتاين)

بعد سنتين فقط من رجل الرمال، نشرت ماري شيلي روايتها القوطية فرانكنشتاين (أو بروميثيوس الحديث) عام 1818، في إشارة مباشرة إلى أسطورة بروميثيوس الإغريقي الذي سرق النار من الآلهة، وأعطاها للبشر.

تقول ديهال: «تخاطب رواية فرانكنشتاين روح العصر ذاته الذي تخاطبه قصة رجل الرمال، لكن في إطار علمي مختلف … فمع إن تكوين فرانكنشتاين بيولوجي، فهو يطرح السؤال ذاته الذي يطرحه الذكاء الاصطناعي؛ ما الذي يجوز للبشر فعله بهذه القوة المحرّمة؟».

في رواية شيلي يصبح وحش فرانكنشتاين واعيًا بذاته، ويريد أن يعيش مثل أي إنسان، ويتوسل إلى الدكتور فرانكنشتاين لكي يصنع له زوجةً. وعندما يرفض الدكتور ذلك، يجن جنونه ويصبح قاتلاً.

يصف كاتب الخيال العلمي إسحاق عظيموف هذا بعقدة فرانكنشتاين، ونراها تظهر في طثير من الأعمال القصصية الحديثة. فمثلًا في فيلم (بلايد رانر) عام 1982، نجد العمال الذين يشتغلون بالذكاء الاصطناعي والهندسة الحيوية الذين يعرفون باسم المستنسخين، يُحرمون من حريتهم ويثورون على أسيادهم البشر. وفي فيلم (إكس ماكينا) عام 2014، نجد رائدًا في مجال التكنولوجيا يصنع امرأةً آلية بالذكاء الاصطناعي فتقتله من أجل حريتها.

تقول ديهال: «يوجد عنصر من فرانكنشتاين تقريبًا في كل القصص التي تتحدث عن (تمرد الروبوتات)».

6. ولادة المصطلح (روبوت)

مع إن هوميروس كتب عن الآلات الشبيهة بالبشر قبل 3000 سنة، لكن لم تظهر كلمة روبوت حتى القرن العشرين. والتسمية من بنات أفكار الكاتب المسرحي التشيكي كاريل تشابيك الذي لاقت مسرحيته (روبوتات روسوم العالمية) عام 1920 رواجًا عالميًا.

في اللغة السلافونية القديمة، تعني كلمة روبوتا العمل الإجباري، وذلك بالضبط ما كانت تفعله الشخصيات الروبوتية في مسرحية تشابيك.

تقول ديهال: « إن أول سياق استعملت فيه كلمة روبوت هو أيضًا مصدر فكرة (تمرد الروبوتات)». ففي المسرحية تسأم الروبوتات من الاستغلال المسلط عليها، وتنتفض لتقتل البشر. «كان للمسرحية إلى حد كبير الروح الثورية لذلك العصر».

7. (هال) العقل السفاح داخل الصندوق

في فيلم (2001: أوديسة الفضاء) عام 1968، تتحدث الشخصيات مع حاسوب حسن الهيئة على متن السفينة الفضائية اسمه (هال 9000) ويتجاوب بصفته مساعدًا مفيدًا. لكن عندما يكتشف ديف أن هال الذي يفترض به ألا يخطئ قد ارتكب خطأً، ويدرك هال أن رواد الفضاء يحاولون إطفاءه فيحاول قتلهم.

تقول ديهال: «لقد وقع تحول كبير في الذكاء الاصطناعي عند اختراع الحاسوب، وفجأةً أدرك الناس إمكانية وجود آلة مفكرة دون الحاجة إلى جسد مماثل لجسد الإنسان، يشبه هال كثيرًا تلك الحواسيب الأولى، ويمثل الفيلم تحريًا عن كيفية عمل حاسوب موزع على شبكة من الأجهزة، لكنه ما يزال داخل صندوق».

في نفس الفترة، نُشرت رواية الخيال العلمي والفيلم المستمد منها (كولوسوس، مشروع فوربين)؛ التي تتحدث عن حاسوب خارق يسيطر على ترسانة أمريكا النووية، ويشن حربًا على حاسوب خارق سوفييتي. تقول ديهال: «إن ذلك مثال قديم عن آلة ذكاء اصطناعي على غير الهيئة البشرية، تمثل خطرًا وجوديًا على البشرية بأكملها».

وردت أيضًا حبكة قصصية مشابهة في فيلم (ألعاب الحرب) عام 1983، إذ يظن حاسوب عسكري متطور خطأً بأن الحرب النووية لعبة.

اقرأ أيضًا:

تطور الذكاء الاصطناعي من الخيال العلمي الى ارض الواقع

ترجمة: زياد نصر

تدقيق: منال توفيق الضللي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر